Commentary

كيف يتم إصلاح الأمور في غزّة

A Palestinian looks at the remains of a building that was destroyed by Israeli air strikes, in Gaza City November 13, 2018. REUTERS/Suhaib Salem - RC1FF211E190
Editor's note:

هادي عمر، إيلان غولدنبرغ، كيفن هاغارد، ناتان ساكس

ملاحظة المحرّر: ترتكز المقالة على أبحاثٍ مشتركة جديدة أجراها خبراء من معهد بروكنجز ومن مركز الأمن الأمريكي الجديد (CNAS). يمكنكم قراءة التقرير الكامل بعنوان – “Ending Gaza’s perpetual crisis: A new U.S. approach”.

تبقى الأزمة هي منطلق أي حديثٍ عن غزّة، وتعمُّق الصراع يلوح دائماً في الأفق. وقد عزَّزت الأسابيع الأخيرة هذا الواقع، بعد وصول إسرائيل وحماس إلى حافة كارثة بعد الكشف عن توغُّلٍ إسرائيلي سرّي في غزّة، الأمر الذي كاد يؤدّي إلى حربٍ أخرى لا مصلحة لأحدٍ فيها.

وليس ذلك بالجديد. فهذا السيناريو الدموي يتكرَّر منذ أكثر من عقد. تلجأ حماس إلى التظاهرات والعنف للضغط على إسرائيل، فتستخدم إسرائيل الحصار الاقتصادي، بدعمٍ ضمنيٍ من مصر، ناهيك عن الأعمال العسكرية للضغط على حماس وكبح جماحها. وفي النهاية، يحدث شيء ما يؤدي إلى انفجار كبير – تماماً كما رأينا في الأسابيع الأخيرة. 

ثمّ، وعندما يصل العنف إلى حدٍّ معيّن تتدخَّل مصر والأمم المتحدة للوساطة ولاقتراح صفقة تنهي الاقتتال. ويحدث ذلك أحياناً بعد وقوع حفنةٍ من الإصابات من الطرفين، لكن في بعض الأحيان تكون الخسائر أكبر بكثير، كما حدث في العام 2014، عندما أدّت الحرب إلى مقتل أكثر من 2100 فلسطيني وأكثر من 70 إسرائيلي. ومن خلال الوساطة، توافق إسرائيل على إدخال بعض المساعدات الاقتصادية البسيطة إلى غزّة مقابل وقف إطلاق نار قصير الأجل وغير مستقر. لم يذهب الطرفان أبداً أبعد من هذا لتحقيق صفقة سياسية أكثر استدامة، ويتكرَّر السيناريو المأساوي مراراً وتكراراً.

إنّ الولايات المتحدة الأمريكية، التي أنفقت معظم طاقتها على “صفقة القرن” الذي يصعب تحقيقها بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ليست مستعدة لمثل هذه الجولات من الصراع، وبالتالي، فهي تدعم بهدوء الصفقات الهادئة القصيرة الأمد. تريد الولايات المتحدة حلاً فورياً لمعالجة الوضع الإنساني، لكنها تخشى أن يشكّل الحلّ مكافأةً لحماس على سلوكها السيئ وأن يوفِّر لها المنافع الاقتصادية التي تحتاجها لتوطيد سلطتها بشكل دائم في غزّة، وأن يفصلها عن الضفة الغربية ويضرّ بآفاق حلِّ الدولتين.
أكبر الخاسرين في هذه المعمعمة هم أهالي غزّة الذين يبلغ عددهم مليونيّ نسمة. فهم يعيشون في أوضاع مزرية واقتصادٍ وصل إلى طريقٍ مسدود. وبما أن بضع مئات من الفلسطينيين فقط، كمعدَّل وسطي، يستطيعون الخروج من غزّة كل يوم، فقد وصلت نسبة البطالة إلى أعلى معدلاتها في العالم – أكثر من 50 في المئة. كذلك تعاني غزّة نقصاً حاداً في الكهرباء ومياه الشرب النظيفة – 97 في المئة من المياه في طبقة المياه الجوفية غير صالحة للاستهلاك البشري. وفي الوقت نفسه، يتعرَّض سكان جنوب إسرائيل بانتظام لإطلاق الصواريخ وإحراق حقولهم بالطائرات الورقية المشتعلة.

ومن المفارقة أن يأتي هذا الاقتتال الأخير بعد وقتٍ قصير من احراز تقدّم واضح. ففي بداية نوفمبر، وبموافقة إسرائيلية، دخلت حقائب مليئة بالمال القطري إلى قطاع غزّة ووصلت إلى حماس- وهي خطوة كان المقصود بها أن تكون خطوة مبكرة نحو تخفيف التوتر. عندما لا يكون هناك اقتتال بين إسرائيل وحماس، يبدو الطرفان وكأنهما جاهزَين للتوصّل إلى نوع من التسوية ولقبول بعض المخاطر السياسية في سبيل ذلك.
وهنا مأساة أخرى تؤرِّق قطاع غزّة. فلا تريد إسرائيل أو حماس مواصلة القتال، إلا أنهما لم تتوصّلا إلى حلّ تتّفقان عليه. ولذا فهما تحافظان على الوضع الراهن بينما يدفع المدنيون، من كلا الطرفين، الثمن.

تريد قيادة حماس وضع نهاية للحصار، لكنها تريد البقاء في السلطة. وهي على استعداد للدخول في وقف إطلاق نار طويل المدى، بل حتى للتنازل عن بعض مسؤوليتها في الحكم في غزّة للسلطة الفلسطينية، لكنها تصرُّ على الاحتفاظ بسلاحها.
أما القيادة الإسرائيلية، فهي الأخرى تريد إنهاء القتال، لكنها تخشى أن يؤدّي تخفيف الحصار إلى زيادة شرعية حماس، وأن يتيح لها فرصة إعادة التسليح أو بناء الأنفاق للهجوم. ومع اقتراب موعد الانتخابات هذا العام، يبدو أن حرية المناورة لدى إسرائيل مقيّدة للغاية بسبب السياسات الداخلية. فقد أدّى القرار الحكيم، رغم عدم استساغته شعبياً، الذي اتخذه نتنياهو في نوفمبر بتجنب حربٍ واسعة النطاق، إلى انتقاداتٍ واسعة من حزبيّ اليمين واليسار، وأسفر عن استقالة وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان.
وتخشى قيادة السلطة الفلسطينية، التي تحكم في الضفة الغربية وتنبذ العنف ضد إسرائيل، أن يؤدّي أي اتفاق بين إسرائيل وحماس إلى فصل غزّة عن الضفة الغربية بشكل دائم وإلى شرعنة حماس. لكنها ترفض أي مشاركة في حكم غزّة ما لم تتخلَّ حماس عن أسلحتها، كما أنّها رفضت أي صفقة دولية من شأنها تقوية حماس، مثل تلك التي وافقت عليها إسرائيل مؤخّراً.

ويزداد الوضع تعقيداً بسبب المجموعة الواسعة من اللاعبين الدبلوماسيين الخارجيين، بما في ذلك مصر والاتحاد الأوروبي وقطر وتركيا والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. فلهذه الجهات الفاعلة مصالح متضاربة نوعاً ما في غزّة وليس في استطاعة أيٍ طرفٍ بمفرده فرض الحل. بل على العكس، عندما تعمل كل جهة على تحقيق مصالحها المتعارضة مع الجهات الأخرى، تجعل الأمور أسوأ.

هناك حلٌّ يمكن أن ينجح: يجب أن تتفق الولايات المتحدة ومصر ومكتب المنسِّق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط – باعتبارها الجهات المؤثِّرة على الطرفين- على إطار عمل مشترك، وأن تجعل بقية المجتمع الدولي يسهم في العملية، ويعمل على دفعها في أوقات الصراع والسلم. يمكن لهذا الإطار أن يجمع مبادرات الاستقرار الاقتصادي القصيرة والطويلة الأمد، مع إعداد الترتيبات السياسية اللازمة لتجنّب الصراع والنجاح في دمج غزّة والضفة الغربية من جديد.

كخطوة أولى، يجب أن تتضمن الخطة خطوات فورية للتخفيف من الأزمة الإنسانية، من بينها اتخاذ إجراءات لتحسين إمدادات المياه والكهرباء بشكل جذري. لكن الأهم هو إتاحة قدر أكبر من حرية الحركة للشعب الفلسطيني وللبضائع للدخول إلى غزّة والخروج منها، وذلك يضمّ إصدار عدد من التصاريح لسكان غزّة تسمح لهم بالعمل في إسرائيل، حيث كان الآلاف منهم يعملون في التسعينيات. إن حرية الحركة هي في الواقع جوهر الأزمة الاقتصادية في غزّة، ولا يمكن لهذه الأزمة أن تنفرج ما لم يتم فتح غزّة على العالم.
يجب أن تتضمّن الخطة أيضاً اتفاقاً سياسياً مستداماً يضمّ الأطراف الرئيسية الثلاثة: إسرائيل والسلطة الفلسطينية وحماس. وكجزء من هذا الاتفاق، يجب على حماس أن تلتزم بوقف إطلاق نار طويل المدى، ونزع تدريجي للسلاح، رغم أنه قد لا يكون كاملاً. ويجب أن توافق إسرائيل أيضاً على تخفيف الحصار المفروض على غزّة بشكل كبير كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار. من جانبها، لا بد من أن توافق السلطة الفلسطينية على استئناف السيطرة ببطء على عناصر الحكم في غزّة، حتى مع احتفاظ حماس ببعض سلاحها. بالإضافة إلى ذلك، ستحصل حماس على دور في صنع القرار الفلسطيني في المستقبل، شريطة قبول هيمنة منظمة التحرير الفلسطينية. وأخيراً، ستحتاج إسرائيل إلى اتخاذ خطوات إيجابية مهمّة في الضفة الغربية لدعم سيطرة السلطة الفلسطينية، للدلالة على أن هذه الصفقة ليست من أجل غزّة فحسب، مما يحفّز مشاركة السلطة الفلسطينية ويوفّر الأساس لحل طويل الأمد في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.

نحن ندرك أن الاقتراح الذي نقدّمه يتضمن عدداً من المكوّنات التي أُثبت أنّ تحقيقها صعبٌ، لكن تحقيقها يصبح ممكناً أكثر – رغم صعوبته الحالية – حين يستفيد كل طرف من تحقيق التوازن في التنازلات المطلوبة منه، وبضغطٍ من الجهات الدولية المعنية التي تقف وراء هذه الأطراف. إلا أنّ اقتراحنا هذا يواجه العديد من العقبات ومن المحتمل ألا يحظى بموافقة جميع الأطراف المعنية في الوقت الحاضر. لن يكون نجاح الاقتراح ممكناً إلا بضغوط كبيرة تواجهها الأطراف وسط حرب أخرى، أو من خلال تغييرات في القيادة أو في السياسات من قِبَل إسرائيل والفلسطينيين والولايات المتحدة.

مع ذلك، وفي ظلّ غياب سلامٍ شامل، يبقى هذا الإطار الخيارَ الأكثر قابلية للتطبيق لإنهاء الأزمة الدائمة في غزّة، والذي يشكّل في حد ذاته مكوِّناً رئيسياً من مكوِّنات السلام الإسرائيلي – الفلسطيني الأوسع. من هنا يمكن للمجتمع الدولي، لا بل عليه، أن يبدأ العمل الآن لوضع جدولٍ لهذا الحل، حتى وإن كان تحقيقه يحتاج إلى سنوات. يستحق الإسرائيليون والفلسطينيون ظروفاً أفضل تخرجهم من دائرة العنف والضائقة الاقتصادية التي يرزحون تحتها.

Authors