Research

برنامج صندوق النقد الدولي في مصر: تقييم تحديات الاقتصاد السياسي

A customer exchanges U.S. dollars to Egyptian pounds in a foreign exchange office in central Cairo, Egypt, March 7, 2017. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany

في 11 نوفمبر 2016، وقّع صندوق النقد الدولي ومصر اتفاقية قرض بقيمة 12 مليار دولار بهدف “معالجة نقاط الضعف في الاقتصاد الكلّي وتعزيز النمو الشامل وتكوين فرص العمل”. وقد تضمّنت نقاط الضعف التي استهدفها البرنامج، سعر صرفٍ مبالغ في قيمته (مع ارتفاع مقابل لسعرِ الصرف في السوق السوداء) وشحّ العملات الأجنبية في السوق الذي أدّى إلى تقويض نشاط القطاع الخاص بشكل كبير، وانخفاضاً حادّاً في احتياطي العملات الأجنبية، وعجزاً مالياً كبيراً، ومعدلاً مرتفعاً في الدين العام.

بناءً على ذلك، شملت النقاط الأساسية في برنامج “تسهيل الصندوق الممدّد” (Extended Fund Facility) الذي قدّمه صندوق النقد الدولي والذي يسري لفترة ثلاث سنوات: تحريرَ نظام سعر الصرف (أي تعويم الجنيه المصري) وضبط أوضاع المالية العامة لخفض نفقات الموازنة وزيادة الضرائب وإجراء إصلاحات هيكلية عميقة وإلغاء تنظيمات مرتبطة بشركات الأعمال لتحفيز النمو الاقتصادي. وكان من المتوقّع أيضاً أن ينال برنامج “تسهيل الصندوق الممدّد” ثلاثة مليارات دولار إضافية من البنك الدولي ومليار ونصف دولار من بنك التنمية الأفريقي و6 مليارات دولار من جهات مانحة ثنائية الطرف.

ومع أنّ لهذا البرنامج فوائد تقنية، فلا يزال تنفيذُه يواجه تحدّيات سياسية خطيرة، ممّا قد يؤدّي إلى إخفاقه في تحقيق هدفه بتكوين أساسٍ من شأنه أن يساعد على تحويل الاقتصاد المصري. وقد يؤدّي انعدامُ ثقة المستثمرين في حكومة الرئيس عبد الفتّاح السيسي إلى فشل الاتفاقية بين صندوق النقد الدولي ومصر.

يقيّم الموجز السياسة هذا العناصر الرئيسية في برنامج صندوق النقد الدولي مع مصر من خلال معلومات استقاها من مقابلات أُجريت مع جهات معنية. ويناقش الموجز ضرورة أن تطبّق مصر إصلاحات هيكلية أساسية من أجل بلوغ الأهداف الموضوعة التي تتمحور حول تحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات وزيادة التوظيف، ولا سيّما بين الشباب والنساء. وبعد مناقشة العلاقات بين مصر وصندوق النقد الدولي، يقدّم الموجز اقتراحات حول الطريقة التي تستطيع مصر فيها تحقيق هذه الأهداف بفعالية أكبر والتعامل مع مسائل الاقتصاد السياسي التي تهدّد بتقويض استراتيجية البرنامج الاقتصادية.

خلفيّة العلاقة بين مصر وصندوق النقد الدولي

وصولاً إلى الأزمة المالية الدولية في العام 2008 والثورة المصرية في العام 2011، طبّقت مصر إصلاحات هيكلية كبيرة لتسهيل النمو الاقتصادي. وعلى الرغم من أنّ هذه الإصلاحات لاقت النجاح في تحسين النمو الاقتصادي، فشلت الحكومة في أن تعالج بشكل مباشر المسائل المتعلّقة بالفقر والبطالة العالية (ولا سيّما بين النساء والشباب) وعدم المساواة والفساد. وقد شكّلت هذه المسائل جزءاً من العوامل الأساسية التي أدّت إلى معارضة حكومة حسني مبارك في العام 2011. وبعد الثورة المصرية، استمرّت التطوّرات السياسية والإقليمية في تقويض الاقتصاد المصري. ومع انخفاض عدد السيّاح وتضاؤل المدخول من قناة السويس (بسبب الكساد في الاقتصاد العالمي)، تباطأ النمو الاقتصادي. علاوةً على ذلك، زادت الحكومة الدين العام لتمويل نفقاتها لكنّها فشلت في معالجة التحديات الهيكلية الكامنة، ممّا أدّى إلى تراكم الاختلالات في الاقتصاد الكلّي.

ومع تفاقم المناخ السياسي بعد ثورة 25 يناير 2011، دفعت التحديات الهيكلية الراسخة في مصر (من ضمنها ارتفاع الدين العام وسوء توجيه الإعانات المالية وتزايد إجمالي الأجور في القطاع العام والاعتماد على استيراد الأغذية ومغالى فِي تقييم العُملة المحلّية) إلى أن تلجأ الدولة إلى التفكير في توقيع عقد قرض مع صندوق النقد الدولي. وقد اعتمدت مصر سابقاً على جهات مُفضِلة خارجية، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت، لتمويل العجز في ميزانيتها وتقديم الدعم النقدي للبنك المركزي المصري. وقد قدّمت السعودية قرابة 25 مليار دولار للاقتصاد المصري بين العامَين 2013 و2016. لكن من غير المتوقّع أن تدعم دول الخليج الاقتصادَ المصري إلى أجل غير مسمّى من دون إجراء إصلاحات هيكلية.

وبحلول منتصف العام 2016، عندما بدأ انخفاضٌ حاد في العملات الأجنبية يعيق الاقتصاد المصري، ولا سيّما في قطاع التصنيع، سعت القاهرة رسمياً إلى توقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي. لكن كان على مصر أوّلاً أن تحصل على تمويل خارجي بقيمة 6 مليارات دولار كشرطٍ مسبق لنيل الموافقة من صندوق النقد الدولي. وقد استطاعت جمع هذا المبلغ بفضل دعم مادّي أمّنته الإمارات العربية المتحدة والصين ومجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى. واللافت في الأمر أنّ السعودية، على الرغم من أنها دعمت مصر سابقاً، لم تشارك في هذا التمويل بسبب معارضتها لمواقف الرئيس السيسي التي دعمت الرئيس السوري بشّار الأسد.

وأرفِقت أجندةُ إصلاح بالقرض الذي قدّمه صندوق النقد الدولي لمصر بقيمة 12 مليار دولار لمدّة ثلاث سنوات. ركّزت هذه الأجندة على ثلاثة محاور أساسية: الإصلاحات النقدية والمالية والهيكلية. فعلى الصعيد النقدي، كان على مصر أن تنتقل إلى سياسة سعر صرف مرنة (يحدّد فيها السوق قيمة سعرَ الصرف) وأن تحتوي التضخّم المالي. وأهمّ ما يعنيه ذلك تعويمُ الجنيه المصري. وعلى الصعيد المالي، كان على الدولة أن تخفّض الدين العام من خلال تقليص إعانات الوقود وزيادة الإنفاق على المجموعات الضعيفة مثل الشباب والنساء. وعلى الصعيد الهيكلي، كان على مصر أن تبسّط عملية منح التراخيص الصناعية وتوفر التمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم وتلغي قانون تجريم الإعسار وتبسّط قوانين الإفلاس (راجع الجدول رقم 1). وبعد إصرار كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، ضمّت اتفاقية الصندوق تدابير لدعم النساء والأولاد عبر زيادة التمويل للحضانات ووجبات الطعام في المدارس، بالإضافة إلى سياسات تهدف إلى جعل وسائل النقل العام أكثر أماناً وأسهل للنساء.الجدول رقم 1: شروط تقديم قرض من صندوق النقد الدولي لمصر في العام 2016

Table 1
الجدير بالذكر أنّ “مصاعب مصر الاقتصادية والتنموية لم تبدأ بعد الثورة، بل تراكمت على مرّ العقود الماضية وأدّت في الواقع إلى بروز ظروف تمخّضت عنها الثورة ومطالبها”. بالإضافة إلى ذلك، لا يُعدّ البرنامج القائم بين مصر وصندوق النقد الدولي الذي هو قيد الدرس في موجز السياسة هذا سوى الجولة الأحدث في تعاملات المنظّمة مع مصر. ولطالما ركّزت هذه الاتفاقيات على وجه الخصوص على سياسات تهدف إلى خفض نسبة التضخّم وضبط الدين وتشجيع الاستثمار وتحرير الاقتصاد كما أظهرته سياسات التعديل الهيكلية التي وضعها صندوق النقد الدولي في بداية الثمانينيات. وبحسب محمدية:

تُظهر الإحصاءات بين العامَين 1996 و2009 نتائج هذه السياسات. ففي خلال هذه السنوات، تراوحت نسبة النمو الاقتصادي السنوي الحقيقي بين 2,8 و6,4 في المئة في مصر، لكنّ الإنتاجية لم ترتفع سوى بنسبة يتراوح متوسّطها بين 0,3 و3,7 في المئة. وبقيت نسبة القوى العاملة على حالها، أي حوالي 44 في المئة من السكان العاملين، ويعود السبب بشكل رئيسي إلى عدد النساء العاملات المنخفض. وبقيت نسبة البطالة تقارب 10 في المئة، مع ارتفاعها أكثر بكثير في صفوف النساء والشباب… بالتالي، على الرغم من أنّ الاقتصاد المصري بدا أنه ينمو في الظاهر، كانت حالات الفقر وعدم التكافؤ تتزايد.

وتبرز بوضوح خطوط التوازي بين سياسات صندوق النقد الدولي السابقة والحالية في مصر: فهي تركّز على متابعة النموّ الاقتصادي، لكنّها تغضّ النظر عن تحديات الاقتصاد السياسي الملحّة المرتبطة بهذه المتابعة (فتؤدّي بالتالي إلى تفاقمها). وقد تقع مصر في الفخّ عينه مجدداً في حال لم تجرِ إصلاحات هيكلية أساسية للتخفيف من القيود والهواجس التي تهدّد تنفيذ برنامج تسهيل الصندوق الممدّد بنجاح.

تحديات الاقتصاد السياسي في الأفق

على الرغم من هدف برنامج صندوق النقد الدولي مع مصر بتصحيح اختلالات الاقتصاد الكلّي المصري، فهو يضع جانباً مسائل الاقتصاد السياسي ويهمّش مجموعات سياسية اجتماعية مهمّة. وعلى الأرجح أن يقوّض ذلك قدرة البرنامج على تحقيق أهدافه الأساسية.

يقول شُكر مثلاً إنّ لسياسات مصر تأثيراتٍ متنوّعة على شرائح مختلف من المجتمع:

ستعاني اقتصادياً أقسامٌ كبيرة من الطبقة الوسطى المتنوّعة في مصر، أقلّه على المدى القريب، في ظلّ سياسات التقشّف الحالية. ومن شأن هذه السياسات التي تفيد أشخاصاً من الطبقتين الوسطى والعليا تربطهم صلة بالجيش المصري وبنشاطاته الاقتصادية أن تسرّع الاتجاهات نحو عسكرة الحكومة وقاعدتها الاجتماعية.

وقد أسكتت حكومة السيسي أيضاً أصوات المعارضة عبر سجنها ناشطين وأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين، مضعفةً بالتالي المقاومة ضدّ إجراءات برنامج تسهيل الصندوق الممدّد التي وُضعت حتّى الآن، بما فيها تعويم الجنيه المصري. علاوة على ذلك، أقفلت الحكومة أكثر من مئة موقع إعلامي ومنعت المنظّمات غير الحكومية من القيام بأنشطة مثل نشر استطلاعات الرأي، مقيّدةً أكثر فأكثر النقاشات العامة حول قرارات الحكومة.

من هذا المنطلق، تناقش الأقسام الآتية عوامل الاقتصاد السياسي الأساسية التي تستمرّ بتحدّي فعاليّة الاتفاقية بين صندوق النقد الدولي ومصر.

الإصلاحات النقدية: الجنيه المصري يعوم والتضخّم يزداد

قبل تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016، كانت السوق السوداء قد استعادت نشاطها بعد عقود من الخمول النسبي. وقد غدا سعر الصرف في السوق السوداء أكثر ملاءمة من أسعار الصرف في المصارف. نتيجةً لذلك، لجأ الأشخاص والشركات الذين يملكون عملات صعبة إلى السوق السوداء أو انتظروا مترقّبين احتمال انخفاض قيمة العملة. فأدّى ذلك إلى نقص في كمّية الدولارات في أنحاء البلاد.

ردّاً على ذلك، حدّت الحكومة المصرية من التحويلات بالدولار إلى الخارج، ممّا سبّب تكديساً وارتفاعاً أكبر في أسعار الصرف في السوق السوداء. والمقلق أكثر أنّ المصريين الذين يعملون في الخارج تجنّبوا الإجراءات المصرفية الرسمية للقيام بالتحويلات المالية إلى بلدهم الأمّ لأنّ هذه المصارف تقدّم أسعار صرف أقلّ ربحاً بكثير من تلك التي تقدّمها السوق السوداء أو أنظمة الحوالة (القائمة على تحويل أموال بين شخصين مبنيّ على الثقة).

واعتبر صندوق النقد الدولي أنّ تحرير سعر الصرف في مصر عنصرٌ أساسي للتعويض عن المشاكل الناشئة، وقد ساعد فعلاً هذا الإجراء. والواقع أنّه على المدى الطويل قد يعالج تخفيض قيمة العملة الاختلالاتِ الماليةَ في حال تمّت إدارته بشكل صحيح. فقد وصلت تحويلات العمّال المصريين إلى 8 مليارات دولار في الربع الثاني من العام 2017، مرتفعةً بنسبة 13 في المئة. بالإضافة إلى ذلك، بدءاً من شهر مارس 2017، استمرّت التحويلات بالارتفاع، وأفاد المصرفيّون أنّ السوق السوداء للعملات شارفت على الاختفاء، وتحسّنت سيولة الدولار في المصارف.

غير أنّ نسبة التضخّم وصلت إلى 22 في المئة في ديسمبر 2016، بعد أن تراوحت بين 8 و15 في المئة بين العامَين 2011 و2016. وبشكلٍ عام، من المتوقّع أن تترافق فترات انخفاض قيمة العملة بفترات تضخّم شديد. لكنّ قيمة الجنيه المصري انخفضت أكثر ممّا توقّعه صندوق النقد الدولي، وربّما يعود ذلك جزئياً إلى “البيانات العامة التي صرّح بها الصندوق حول انخفاضٍ مرتقب لقيمة العملة في الأيام السابقة للتعويم”. وبقيت نسبة التضخّم في مصر تفوق 30 في المئة لمعظم العام 2017 “مسبّبةً هواجس وصعوبات كبيرة لدى الشعب”.

والأكيد أنّ انخفاض قيمة العملة قد رفعَ أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، بما فيها السكّر والزيت وحليب الرضّع الصناعي والأرزّ. وقد دفع هذا الوضع البائعين العديمي الضمير إلى تكديس السلع لاستغلال الوضع ولتحقيق الأرباح. وتبقى مصر أيضاً معتمدةً بشكل كبير على الموادّ الأولية المستورَدة التي تدخل في صناعة الأدوية المحلّية. فمع انخفاض قيمة العملة، ارتفعت أسعار الأدوية بشكل ملحوظ، علماً أنّ بعضاً من هذه الأدوية ضروريٌ لمعالجة الأمراض المزمنة.

أخيراً، شدّد برنامج تسهيل الصندوق الممدّد على أنّ تحرير نظام صرف العملات في مصر سيحفّز الاستثمار والصادرات. وقد ازداد الاستثمار المالي الأجنبي والمباشر منذ تعويم الجنيه المصري. بيد أنّ المستثمرين لا يزالون يريدون أن يروا إدارةً أفضل لاقتصاد مصر ككلّ. وتقف عوائق في وجه الإجراءات الهادفة إلى زيادة الشفافية وتعزيز إدارة المالية العامة في مصر، بما فيها الجهود الآيلة إلى جعل الممارسات الاستثمارية متوافقة مع أفضل الممارسات الدولية. وقد يعيق هذه الإجراءات غيابَ المحاسبة المزمن لحكومة السيسي في إنفاقها الأموال العامة واستمرارَ تفشّي المحسوبية التي ما زالت تقضّ مضجع النظام السياسي المصري. علاوة على ذلك، يساور المستثمرون المحتملون القلق في أن نسبة الدين المحلي في مصر ما زالت حوالي 95 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وأنّ عجز ميزانيتها في العام المالي المنتهى في يونيو 2016 قد بلغ 12,2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.إصلاحات مالية: تجديد الإعانات وإضافة ضرائب

يهدف برنامج صندوق النقد الدولي إلى معالجة مشكلة العجز في ميزانية الدولة المصرية من خلال تعزيز الإيرادات وتخفيض نفقات الحكومة، بما فيها النفقات على الإعانات. وحتّى الآن، قلّصت الحكومة إعانات الوقود بهدف التوافق مع شروط برنامج تسهيل الصندوق الممدّد من أجل تخفيض الإنفاق، ونتج عن ذلك ارتفاع أسعار الوقود في يونيو 2017 بنسبة 50 في المئة. وقيل أيضاً إنّ التخفيضات في إعانات الوقود كانت ضرورية لأنها لم تعد بفائدة كبيرة على الفقراء. لكن يبدو أنّ هذا الأمر فاقم من الأعباء الملقاة على كاهل المصريين العاديين، فالكثير منهم مثلاً يعانون ليتأقلموا مع هذا الارتفاع الكبير في أسعار الوقود في وقتٍ ارتفعت فيه كلفة المعيشة كثيراً بسبب انخفاض قيمة العملة.

وتمحور تركيز آخر على تحسين طريقة توزيع الإعانات في مصر، من ضمنه عبر إحداث تغييرات في نظام البطاقة الذكية في البلاد. وقد طُرحت بطاقات ذكية في العام 2014 للمساعدة على تنظيم السلع والخدمات المدعومة والقضاء على الفساد في شرائها وتوزيعها. لكن مع أنّ برنامج البطاقة الذكية يُعدّ خطوة في الاتجاه الصحيح للحرص على أن تصل الإعانات إلى الأشخاص الأكثر حرماناً في مصر، أظهرت المقابلات التي أُجريت مع مجموعات من المجتمع المدني في جنوب مصر أنّ الكثير من المصريين الفقراء والأميين وغير المسجّلين غير قادرين على تقديم طلب للحصول على بطاقات ذكية. ومع نسبةِ أميّةٍ تبلغ 25 في المئة وعدد المواطنين غير المسجّلين في مصر يبلغ 7 مليون فرد، لا عجب في أنّ “77 في المئة من أعلى الفئات إنفاقاً تملك بطاقات ذكية تمكّنها من الحصول على سلع مدعومة، في حين أنّ 82 في المئة من الفقراء لا يستفيدون من برنامج الضمان الاجتماعي المصري”. وما زال الفساد والغش يستشريان في نظام البطاقة الذكية أيضاً.

بالإضافة إلى ذلك، بموجب برنامج صندوق النقد الدولي، حصل حاملو البطاقات الذكية على إعانات إضافية بلغت 21 جنيه مصري للفرد الواحد (بعد أن كانت 12 جنيهاً)، لكنّ هذه الإعانات بالكاد غطّت أسعار السلع الأساسية المتضخّمة. ورُفعت الزيادات على الإعانات مجدداً في يونيو 2015 لتصل إلى خمسين جنيهاً مصرياً. غير أنّ نسبة التضخّم بقيت عالية وتقارب 30 في المئة حتّى بعد أن انخفضت من أعلى نسبة وصلت إليها في يوليو 2017، فحدّت بالتالي من المنافع الناجمة عن الزيادات في الإعانات المقدّمة لحاملي البطاقات الذكية. وقد وزّعت الحكومة المصرية “بطاقات ذهبية” في المناطق الأكثر فقراً على الأشخاص الذين لا يملكون بطاقة ذكية أو ينتظرون الحصول عليها، لكن تمّ تخفيض المساعدات في مارس 2017، ممّا سبّب احتجاجات في المناطق الأفقر في مصر. في ردّ على ذلك، رفعت الحكومة من مخصّصات الحصص لمزوّدي البطاقات الذهبية.

وبهدف المساعدة على الحدّ من تأثير عملية التعديل التي فرضتها الإصلاحات المشترطة في برنامج تسهيل الصندوق الممدّد، “سيتمّ تحويل حوالي واحد في المئة من قيمة إجمالي الناتج المحلي في الوفورات المالية لإعانات الأغذية الإضافية ولتحويلات أموال نقدية للكبار في السن والعائلات ذات الدخل المنخفض وبرامج اجتماعية مستهدفة أخرى”، بما فيها مثلاً الإعانات لأدوية الأطفال. وتخطّط الحكومة أيضاً لتوسيع برامج شبكة الأمان الاجتماعية الأساسية، بما فيها برنامجا تكافل وكرامة اللذان تأسسا في العام 2015 واللذان سيتمّ توسيعهما ليغطّيا مئتي ألف أسرة إضافية في العامين 2017 و2018. لكن يجب الانتظار لرؤية ما إذا كانت هذه الإجراءات ستتمكّن من التخفيف من الآثار المعاكسة الناجمة عن نسبة التضخّم المرتفعة في مصر، ولا سيّما نظراً إلى الإنفاق الاجتماعي المنخفض نسبياً في مصر وعدم إمكانية محاسبة حكومة السيسي.

وبالإضافة إلى لجم الإنفاق الإجمالي على دعم الأسعار، قلّصت مصر أيضاً نفقات القطاع العام بموجب اتفاقيتها مع صندوق النقد الدولي في أغسطس 2016. ونتيجةً للإصلاحات كلفة الأجور، شهد إجمالي أجور القطاع العام انخفاضاً سنوياً مستمراً من نسبة 8,1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2014/2015 إلى 5,3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2017/2018 . غير أنّ الإصلاحات الآيلة إلى تخفيض إجمالي الأجور سبق أن تمّت الموافقة عليها كجزء من اتفاقية قرض صندوق النقد الدولي في العام 1991، ممّا يلقي بظلال الشك على فعالية هذه التخفيضات الأخيرة.

في غضون ذلك، وبهدف زيادة الإيرادات، فرضت الحكومة ضريبة على القيمة المضافة ورسوماً جديدة وباعت أيضاً أراضيَ وتراخيصَ لقطاع الاتصالات. وقد بلغت الضريبة على القيمة المضافة 13 في المئة على معظم السلع والخدمات في السنة المالية 2016/2017، وستزداد هذه النسبة لتصل إلى 14 في المئة في السنة المالية 2017/2018. وتتجاهل سياسات من هذا النوع بالإجمال معاناة الطبقة الفقيرة في مصر. فبحسب تقديرات هبة الليثي مثلاً، أستاذة في علم الإحصاء في جامعة القاهرة، يُرجّح أن تزيد سياسةُ الضريبة على القيمة المضافة نسبةَ السكان الفقراء في مصر (الذين يعيشون بأقلّ من 26 دولاراً في الشهر) من 27,8 في المئة في العام 2015 إلى 35 في المئة على الأقلّ. واللافت أنّ مصر قد وضعت هذه السياسة بعد أن خفّضت معدّلَ الضريبة المفروضة على فئة السكان ذات الدخل الأعلى من 25 في المئة إلى 22,5 في المئة في العام 2015، وقد اعتُبر هذا التخفيض كتخفيف من الأعباء الضريبية على أثرياء مصر.إصلاحات هيكلية ونموّ شامل

أدخل برنامج صندوق النقد الدولي للعام 2016 تغييرات في تنظيمات الأعمال بقصد جذب استثمارات أجنبية ومساعدة الشركات الأصغر على التوسّع. وقبل وضع هذا البرنامج، كانت عملية إنشاء شركة في مصر مسألة معقّدة تشتمل على الكثير من التنظيمات والروتين الإداري. وقد خنقت هذه الترتيبات الشركات الأصغر وحمت المنشآت الصناعية الأكبر، فأتاحت مجالات أوسع لتسرّب الفساد إلى مختلف الوزارات. وقد قلّل قانونُ الاستثمار الجديد، الذي وُضع كشرط مسبق للحصول على قرضٍ من صندوق النقد الدولي، من هذه التنظيمات لكنّه ما زال يقدّم أراضي مجانية أو بسعر مخفّض جداً لبعض المشاريع، ممّا يعزّز الفساد والمحسوبية.

ومن شأن قوانين الإفلاس المُحسَّنة، التي وضعها برنامج صندوق النقد الدولي والتي يتداولها حالياً البرلمان المصري، أن تبسّط إجراءات الإفلاس والتصفية، وأن تُسهّل بالتالي قدوم المستثمرين إلى مصر، شأنها شأن تسهيلُ شروط الحصول على تراخيص صناعية. لكن لا يزال الشك قائماً في أنّ تكون هذه الإصلاحات كافية لجذب الاستثمارات الأجنبية. على سبيل المثال، بحسب ثلاثةُ خبراء من القطاع الخاص أُجريت معهم مقابلة من أجل كتابة هذا الموجز، فإنّ توقّعات صندوق النقد الدولي متفائلة جداً بشأن الاستثمارات الأجنبية.

وبحسب المصرفيين، تشغل بالَ المستثمرين الأجانب “مخاطرُ التنفيذ”. فمع أنّ إشراف صندوق النقد الدولي على التزام مصر ببرنامج الإصلاح الاقتصادي قد يدعو إلى الثقة بالتزام الحكومة، لا يزال بعضهم يخشى أن تتسبّب الضغوطُ الاجتماعية الناجمة عن التضخّم والسقف على أجور القطاع العام وتقليص الإعانات بتخلّي السلطات عن مسيرة الإصلاح”. وقال أحدّ المحلّلين إنّ إشراف صندوق النقد الدولي يعطي مصداقية أكبر للإصلاحات في مصر، لكن تبرز بعض المخاوف بأنّ عقبات الإصلاح سياسيةٌ بشكل رئيسي.

كذلك، يعتقد أولئك الذين أجريت معهم المقابلات أنّ توقّعات صندوق النقد الدولي حول ارتفاع إجمالي الناتج المحلّي بنسبة 5 إلى 6 في المئة على المدى المتوسط طموحةٌ جداً. فعلى الصعيد المحلّي، يبقى الحصولُ على قرض مشكلةً. ففيما تملك الشركات الأجنبية رأس المال، لا تزال الشركات المحلّية تعتمد على الوكالات المحلّية التي تعاني غياب الشفافية التنظيمية والفساد والإدارة الخانقة للمشاكل الاقتصادية وضعف كفاءة السوق في مصر، وكلّها عوامل تعرقل الاستثمار والنموّ على الأرجح.

وعلى وجه الخصوص، يبقى قلق المستثمرين قائماً بشأن الاتفاقيات المُبرمة بين الحكومة والمستثمرين (اتفاقيات شراء الطاقة). إذ يساورهم القلق بأنّ نظام القانون المصري لن يكون محايداً في النزاعات مع السلطات المحلّية. وقد بدا غياب آليات الضبط الإداري جلياً بعد صدور قرار أبريل 2017 القاضي بمنح الرئيس سلطة تعيين رؤساء الهيئات القضائية، فخفّف بالتالي هذا القرار أكثر فأكثر من ثقة المستثمرين بالسلطة القضائية المصرية. نتيجةً لذلك، أخذ عددٌ من المستثمرين الذين سبق أن عقدوا اتفاقيات شراء طاقة يغادرون مصر.

لكن على نطاق أوسع، بدأ تردّد بعض المستثمرين يتبدّد. ففي مايو 2017، باعت مصر عدداً أكبر مما كان متوقّعاً من سندات يوروبوند (3 مليارات دولار) إلى أمريكا الشمالية وأوروبا وبمعدّل فائدة يقلّ عن المعدّل الذي وصلت إليه منذ أشهرٍ قليلةٍ، ممّا يشير إلى تضاؤل المخاوف لدى المستثمرين الأجانب. غير أنّ ريتشل زييمبا، المديرة العامة لشركة “روبيني غلوبال إيكونوميكس”، أشارت في أبريل قائلةً: “شكّل برنامج صندوق النقد الدولي وتخفيض قيمة العملة في مصر شرطين ضروريين لكن غير كافيين لاستعادة ثقة المستثمرين”.

وإلى جانب جذب الاستثمارات، يسعى برنامج صندوق النقد الدولي إلى معالجة مسألتَي النموّ المتدنّي والبطالة المرتفعة في مصر من خلال طرح برامج تدريب مهنية متخصّصة للشباب، بالإضافة إلى اتّخاذ تدابير لزيادة نسبة النساء العاملات. وبرهنت الكثير من الدراسات على الفوائد الاقتصاديةَ المتأتية عن انضمام عدد أكبر من النساء إلى القوى العاملة، ولا سيّما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تسجّل نسبة العمالة النسائية في القطاع الرسمي الأقلّ في العالم. غير أنّ دراسةً أُجريت في العام 2013 بطلب من الأمم المتحدة أظهرت أنّ 86,5 في المئة من النساء المصريات اللواتي شملهنّ الاستقصاء لا يشعرن بالأمان عند استخدام وسائل النقل العام، ممّا يشكّل حتّى الآن عائقاً أساسياً أمام تحقيق قدراتهنّ الاقتصادية الكاملة. لذلك، من شأن إجراءات برنامج تسهيل الصندوق الممدّد المعنيّة بتعزيز الأمان في وسائل النقل العام وتوفير عدد أكبر من الحضانات العامة، أن تساعد النساء على المباشرة بالعمل والبقاء فيه. غير أنّه لم يتمّ تخصيص سوى 14 مليون دولار من قرض صندوق النقد الدولي الذي تبلغ قيمته 12 مليار دولار من أجل تحسين هذا النوع من البنى التحتية للنساء المصريات، وهو مبلغ يبدو أنه من المستبعد أن يحسّن الأوضاع الحالية بشكل ملحوظ.

مسألة الجيش التي يتمّ تجاهلها

تبرز مسألة مهمّة في الاقتصاد المصري لا يتوقّف عندها برنامج صندوق النقد الدولي مع أنّ أهمّيتها ستزداد في المستقبل، ألا وهي دور المؤسسة العسكرية. فقد تدخّلت بدايةً هذه المؤسسّة في الاقتصاد لملء الفراغ الذي خلّفته انسحاب الاستثمارات الخاصة في مصر، غير أنّها لا تزال تتطاول على القطاعات الاقتصادية في البلاد وقد اعتبرها المستثمرون مصدراً آخر للقلق.

وفي العام 2012، قال اللواء محمود نصر إنّ حصّة المؤسّسة العسكرية من ميزانية مصر بلغت 4,2 في المئة وإنّ مؤسساتها كسبت 198 مليون دولار سنوياً. لكنّ هذه الأرقام تستصغر كثيراً حجم تدخّل الجيش في الاقتصاد المصري. وما دام الحصول على بيانات يسهل التحقّق منها ليس سهلاً، يقدّر المحلّلون أنّ الجيش يستأثر بما يتراوح بين 5 و40 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي الإجمالي في مصر. وتشير زينب أبو المجد:

تملك المؤسّسة العسكرية المصرية مؤسّسات أعمال تنتشر تقريباً في كلّ قطاع وتنتج مجموعةً واسعة جداً من الخدمات والسلع. فهي تدير فنادق ومنتجعات على شاطئ البحر وأبنية سكنية، بالإضافة إلى فيلّات فخمة. وتملك مصانع إسمنت وحديد وسيارات بدفع رباعي وأسمدة وأدوات منزلية ومعكرونة وغيرها من المصانع، وتدير محطات وقود، وتبني طرقاً سريعة تتطلّب رسوم مرور.

وليس دور المؤسسة العسكرية واسعاً فحسب بل متميّزاً عن غيره أيضاً. ففي ديسمبر 2015، أصدر الرئيس السيسي مرسوماً “يسمح للمؤسسة العسكرية بأن تؤسّس شركات وشراكات من أجل تملّك الأراضي مع مستثمرين محلّيين وأجانب. ويمنح المرسوم القوّات المسلّحة حصّة من الإيرادات متى بيعت الشركة مع قدرة الاحتفاظ بملكية الأرض. في غضون ذلك، أعفى قانونٌ آخر حوالي 600 شركة تابعة للجيش من الرسوم العقارية. وقد تلقّت أيضاً شركات يديرها الجيش قروضاً مدعومة من مصارف حكومية، ممّا أدّى إلى إحداث خلل في منظومة السوق.

ويعتقد الكثيرون، من بينهم المستثمرون المحتملون، أنّ نطاق الشركات التي تديرها المؤسسة العسكرية يدعو إلى القلق الشديد. فقد أشار أصحاب الشركات في القاهرة أنّ المستثمرين المحلّيين غير مستعدّين لزيادة رؤوس أموالهم عندما يبرز احتمال تنافس الجنرالات مع الشركات الخاصة. ففي النهاية، في بلاد يستشري فيها الفساد، يترافق التنافس مع الجيش بمخاطر كبيرة.

توصيات السياسة قد تساعد السياسات الآتية الموصى بها على تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي في مصر بنجاح والتخفيف من بعض نتائجه السلبية. وقد يتطلّب ذلك أن تتعاون مصر أكثر مع البنك الدولي وغيرها من وكالات المساعدة بهدف مواجهة بعضٍ من التحديات السياسية المذكورة سابقاً.

زيادة الشفافيّة – حتّى في الجيش

لا يزال الكثير من المصريين يتساءلون كيف خُصّصت مليارات الدولارات التي قدّمتها الجهات الداعمة الخليجية في العام 2013 ولمَن خُصّصت. واستمرار هذا التساؤل بحد ذاته يسلّط الضوء على غياب الشفافية والمساءلة حول النفقات الحكومية في مصر. لقد صرفت الحكومة أموالاً طائلة على مشاريع ضخمة مثل مشروع قناة السويس الذي يبدو أنّه يخدم أهدافاً سياسية أكثر منها اقتصادية، منها إظهار عظمة الدولة. لذلك يترتّب على الحكومة أن تحسّن الشفافيّة حيال النفقات العامة وتفسّر الفوائد الاقتصادية لهذه النفقات لكي تزيد ثقة الشعب والمستثمرين بالحكومة وببرنامج صندوق النقد الدولي.

علاوة على ذلك، يبقى شراء المؤسسة العسكرية المصرية أصولاً خاصة عقبةً أمام الاستثمار المحلّي والأجنبي، إذ “يخشى القطاعُ الخاص… أنّه لن يتمكّن من التنافس مع مؤسسة قوية تربطها علاقات وطيدة بالقوى السياسية”. بالتالي، يولّد هذا النوع من التدخّلات في القطاع الخاص اختلالاتٍ في السوق – ولا سيّما عندما لا ترتبط هذه التدخّلات بوضوح بالحاجات أو الخبرات العسكرية. ويمكن أن يؤدّي نقصٌ الإشراف السياسي والقانوني على الأنشطة الاقتصادية العسكرية إلى المزيد من عدم الطمأنينة في نفوس المستثمرين. إذ تخضع مثلاً الشركات التابعة للجيش للرقابة الداخلية فقط. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال المخاوف قائمة حيال تنفيذ المؤسسة العسكرية شروطَ برنامج صندوق النقد الدولي بشكل انتقائي، ولا سيّما تلك المتعلّقة بتقليص النفقات العامة على السلع الأساسية مع توسّع سيطرة الجيش على قطاعات اقتصادية رئيسية، بما فيها الزراعة والبناء والأدوية.

وينبغي على مصر أن تضع قوانين وآليّات سياسية للحرص على إحداث توازن أعدل بين المؤسسات الاقتصادية والعسكرية. فيتعيّن على الحكومة مثلاً أن تشكّل لجنة خارجية للإشراف على دور المؤسسة العسكرية الاقتصادي، وإلّا فإنّ رفع ثقة المستثمرين بمصر لمستوى أعلى من المستوى الحالي (الذي هو المُتحسّن نوعاً ما) قد يصبح صعباً.

ضريبة تصاعدية

يصعب جمع ضرائب الدخل في مجتمع قائم بمعظمه على النقد ويضمّ قطاعاً غير رسمي واسع. غير أنّ باستطاعة مصر أن تزيد من الإيرادات الضريبية وتساعد على حلّ مشكلة التفاوت في توزيع الدخل من خلال فرض أشكال ضريبية ذات تأثيرات تصاعدية، يزداد فيها معدّل الضريبة مع تزايد العائدات والثروة. ويمكن أن تتضمّن هذه الأشكال الضرائب على الممتلكات والأرباح الرأسمالية والسلع الكمالية.

وقد فرضت مصر ضريبةً نسبتها 10 في المئة على المكاسب الرأسمالية للأسهم المدرجة في البورصة في العام 2014، لكنّها أوقفت العمل بها في مايو 2015. وقد ضغط صندوق النقد الدولي على مصر لإعادة فرض هذه الضريبة، بحجّة إمكانية نموّ الإيرادات من هذه الضريبة بشكل كبير على المدى البعيد. وتوقّعت التقديرات الرسمية أنّ الضريبة ستحصّل 4 مليارات جنيه مصري سنوياً كحدّ أدنى. غير أنّ حكومة السيسي مدّدت في يونيو 2017 تعليق الضريبة على المكاسب الرأسمالية وفرضت عوضاً عنها رسوم طوابع تُفرض على كلّ معاملة تتمّ في البورصة.
وتفتقر مصر أيضاً إلى القدرات الإدارية في مجال تسجيل الممتلكات، ممّا يحبط الجهود بجمع الضرائب على الممتلكات والضرائب على المكاسب الرأسمالية للأرباح العقارية. ويُعتبر هذا الأمر مهمّاً، إذ تشكّل الحيازات العقارية مكوّنَ ثروةٍ مهمّاً في الشرق الأوسط. وبإمكان قسم الدعم الفني في صندوق النقد الدولي أن يساعد مصر على إيجاد طرق أكثر فعالية لتحصيل الضرائب على الممتلكات. ويمكن الاستفادة من مثال اليونان التي عقدت أيضاً اتفاقية مع صندوق النقد الدولي حيث بلغت فيها حالات التهرب الضريبي مستويات عالية.

حماية اجتماعية أكبر للفقراء

بحسب التقييم الأوّل الذي أجراه صندوق النقد الدولي لبرنامج تسهيل الصندوق الممدّد، ساهم إصلاح إعانات الطاقة وكبح الأجور وفرض الضريبة على القيمة المضافة الجديدة في تخفيض العجز المالي وساعد على تخصيص مبلغ للإنفاق الاجتماعي بغية دعم الفقراء”. غير أنّ تقييم صندوق النقد الدولي يقرّ أيضاً أنّ هذه الإجراءات لن تكفي لحماية الفئات الضعيفة مع تقدّم مصر في برنامجها الإصلاحي.

بالإضافة إلى ذلك، تبيّن أنّ تقليص الإعانات على الأغذية مصدرٌ للمشاكل. فقد شُبّهت احتجاجات الخبز التي اندلعت في مارس 2017 في الإسكندرية والجيزة وكفر الشيخ والمنيا بانتفاضة الخبز التي وقعت في يناير 1977 حينما خفّضت أيضاً مصر آنذاك الإعانات على الأغذية تبعاً لنصيحة صندوق النقد الدولي. وتُبرز هذه الاضطرابات ضرورة أن تُفهِم السلطاتُ المصرية المواطنين بوضوح مبرّرات هذه الإجراءات وغايتها ومنافعها، ولا سيّما عند التعاطي مع أساسيات على هذا القدر من الأهمّية الاجتماعية والثقافية مثل الخبز.

من هذا المنطلق وبهدف دعم العائلات الأكثر فقراً في مصر بشكلٍ أفضل، تنوي السلطات “توسيع برامج تحويل النقود وزيادة الإعانات النقدية جزئياً بموجب برنامج إعانة الأغذية”. لكن يتعيّن على الحكومة أيضاً أن تركّز على زيادة الحصص والمخصّصات لحاملي البطاقة الذهبية في المناطق الأكثر فقراً. بالإضافة إلى ذلك، على الحكومة أن تزيد الغرامات وتسحب تراخيص البيع من أولئك الذين يستغلّون نظام إعانة الأغذية. لذلك، من اللازم معالجة مصدر هذا الاستغلال من دون تقليص نظام الإعانة للحرص على حماية المصريين الأكثر ضعفاً.

وتُعدّ أيضاً مسألة حصول المصريين الأقل حظاً على الأدوية الموصوفة الضرورية مسبب قلقٍ رئيسياً في أنحاء البلاد. فقد ارتفعت أسعار الأدوية بشكلٍ كبيرٍ بسبب انخفاض قيمة الجنيه المصري. لذلك، المطلوب وضع استراتيجية وطنية للتخفيف بشكل فعّال من الأثر السلبي لبرنامج تسهيل الصندوق الممدّد للحؤول دون تعرّض الفقراء في مصر لمعاناة هم بغنى عنها.

الاستثمار في النساء لزيادة النموّ الاقتصادي

بإمكان برنامج صندوق النقد الدولي، من خلال تركيزه على زيادة نسبة النساء العاملات، أن يرفع من مستويات المعيشة لدى الكثير من النساء ويشجّع النموّ في الاقتصاد المصري. غير أنّ المجموع المستثمَر في الوسائل الاجتماعية لحماية المرأة، مثل التمويل لتحسين المنشآت العامة، كالحضانات مثلاً، بهدف السماح للنساء بالبحث بنشاط عن وظائف، زهيدٌ بالمقارنة مع حجم برنامج صندوق النقد الدولي. فقد تمّ تخصيص 250 مليون جنيه مصري في 2016/2017 و500 مليون جنيه مصري في 2017/2018 فقط لا غير لهذه الغاية. وتبلغ نسبة الأموال المخصّصة لأمور مثل تحسين نوعيّة رعاية الأطفال وقدرة الوصول إلى وسائل نقل عامّة آمنة 0,2 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي، وهي نسبة منخفضة مقارنةً بمجموع الاستثمارات.

علاوة على ذلك، ستعرقل على الأرجح المشاكل الكامنة التي لم تتمّ معالجتها بعد أيَّ تقدّم تمّ تحقيقه وفقاً لأحكام الاستثمار في النساء في برنامج تسهيل الصندوق الممدّد الحالي. وتتضمّن هذه المشاكل غيابَ التعريفات القانونية للتحرّش الجنسي وعدمَ توافر بيانات تظهر حالات التحرّش المبلَّغ عنها وانعدامَ تدريب الشرطة والجهات المدّعية على التعامل مع حالات التحرّش الجنسي. بالتالي، من الضروري أن تعطي الحكومة أولويّة للاستثمار في هذه المشاكل الأساسية.

الخاتمة

سيضخّ برنامج تسهيل الصندوق الممدّد في مصر الذي وضعه صندوق النقد الدولي والذي يسري لفترة ثلاث سنوات أموالاً ضرورية لمساعدة البلاد على حلّ بعضٍ من مشاكل اقتصادها الكلّي. لكن على الرغم من فوائد البرنامج الفنيّة، لا تزال تحديات الاقتصاد السياسي قائمة ولا يمكن تجاهلها. وعلى الأرجح ألّا يتمكّن البرنامج، بوضعه الحالي، من تحقيق النموّ الاقتصادي الذي وعد به، ولن يعالج مشاكل الفقر وعدم المساواة والفساد التي لا تزال تلقي بحملٍ ثقيل على كاهل مصر.

تُعدّ توصيات السياسة المذكورة أعلاه ضروريةً من أجل مساعدة مصر على التخفيف من التداعيات غير المؤاتية المتأتّية عن برنامج صندوق النقد الدولي في مصر. ولن تكون هذه الإصلاحات سهلة: إذ ستبقى الإجراءات الرسمية الإدارية وقمع الأصوات المعارضة وغياب الشفافية المستمرّ في قرارات السياسة عقبةً أمام الجهود لتحسين اقتصاد مصر المتعثّر. لهذه الغاية، يتطلّب تنفيذ هذه السياسات الموصي بها التزاماً كبيراً من الجهات المعنية من أجل إحداث تغييرات ضرورية في البيئة المصرية الاجتماعية والسياسية الحالية.