Commentary

Op-ed

الجهة الضحية: العدالة الانتقالية كدعوى جماعية في تونس

A demonstrator hits a drum during a demonstration against a bill that would protect those accused of corruption from prosecution in front of Assembly of People's Representatives headquarters in Tunis, Tunisia, July 28, 2017. REUTERS/Zoubeir Souissi

في يونيو 2015، تقدّم “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” و”منظّمة محامون بلا حدود” بملفٍّ إلى هيئة الحقيقة والكرامة يتعلّق بجهة القصرين. وطالب الملفّ الحكومة بالبحث في الوضع الاجتماعي والاقتصادي المُقلق في القصرين وباتّخاذ الإجراءات الملائمة من خلال هيئة الحقيقة والكرامة لمعالجتها. وتقع القصرين في وسط غرب تونس وهي تعاني الفقر والتهميش المستمرَّين منذ فترة الاستعمار، مثل عديد الجهات الداخلية الاخرى. وقد قدّم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الذي كنت رئيسه وأحد مؤسّسيه، هذا الملفّ تبعاً لعدد من القواعد القانونية والتاريخية والدستورية.

والقاعدة الأولى في الفصل العاشر من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 ويتعلّق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، وهو يختصّ بجبر الضرر وردّ الاعتبار للضحايا. وينصّ هذا الفصل على أنّ “الضحية هي كلّ من لحقه الضرر سواء كان فرداً أو جماعة أو شخصاً معنوياً”. ويشدّد على أنّ “هذا التعريف يشمل كل منطقة تعرضت للتهميش والاقصاء الممنهج”. وكان أغلب مَن تقدم بالملفّات إلى هيئة الحقيقة والكرامة قد فعلوا ذلك على أساس ما تعرّضوا له أو ما تعرّض له ذويهم من تعذيب أو اختفاء قسري أو سجن أو طرد تعسفي أو حرمان من العمل. لكنّنا ارتأينا السير بعدالة قانونية للجهة بأسرها، مثلما تضمّن قانون العدالة الانتقالية، من أجل إبراز الشكاوى التي عانتها القصرين ومعالجتها.

وكان الدافع الثاني للملفّ الذي تقدّمنا به لهيئة الحقيقة والكرامة التهميش الذي تعيشه جهة القصرين. فحتّى العام 2012، سجّلت أدنى معدّلات التنمية البشرية بين الولايات التونسية الأربع والعشرين وضعفَي المعدّل الوطني على مستوى الفقر (المعدّل الوطني للفقر: 15,5 في المئة، القصرين: 32 في المئة). وفي خلال الثورة التي استمرّت أكثر من ثلاثة أسابيع، كانت القصرين الولاية الثانية التي تشهد اضطرابات بعد سيدي بوزيد، وقد سقط فيها عشرات الشهداء والجرحى من الشباب الثائر، الذي يطالب بالعمل والكرامة والعدالة الاجتماعية.

أما الدافع الثالث فهو الدستور التونسي للعام 2014 الذي صاغه المجلس الوطني التأسيسي بعد فترة ثلاث سنوات طويلة، والذي يقرّ “التمييز الايجابي لبعض الجهات الداخلية بناء على ما عانته وتعانيه من تهميش وفقر وبطالة ، حيث نصّ على “أنّ الدولة تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة […]، اعتمادا على مبدأ التمييز الإيجابي”، وهذا يعني أنّ الدستور لا يقرّ بانعدام المساواة بين الجهات فحسب، بل يطلب اتّخاذ إجراءات خاصّة لإفادة الجهات المحرومة.

وأعتقد أنّ إدراج الجهة الضحية في مسار العدالة الانتقالية سلّط الضوء على مسألة مهمّة، ألا وهي العوامل الاقتصادية الاجتماعية التي أدّت إلى ثورة الجهات الداخلية في تونس. ومن هذه العوامل المركزيةُ المفرطة للسلطة في العاصمة وإقصاءُ الجهات الداخلية من المشاريع الإنمائية وعدمُ إيفاء الدولة بالتزاماتها في تأمين الوظائف والصحّة والتعليم والبنية التحتية.

مستقبل مسارات العدالة الانتقالية

في مسار العدالة الانتقالية، لا يكفي التعويض للضحايا عن الانتهاكات المرتكبة، بل على المسار أيضاً البحث في الأسباب التي أدّت إلى الانتهاكات. فقد انتهجت تونس مثلاً منذ بداية السبعينيات سياسات إنمائية عمّقت الفوارق الاجتماعية وأوجه انعدام المساواة بين الجهات. وهدفت هذه السياسات إلى تعزيز نسبة النموّ العليا على حساب التنمية الجهوية والمحلّية التي كانت لتُحدث تغييرات هيكلية. وهذا الحرص الشديد على دمج البلاد في الاقتصاد العالمي، مع التغاضي عن الاندماج الوطني، عاد بالنفع على الجهات الساحلية بالإجمال. فتبعاً لدراسة أجراها البنك الدولي في العام 2014، تستأثر الولايات الثلاثة الكبرى في تونس، وهي تونس العاصمة وسوسة وصفاقس، بتحقيق 85 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي.

ويطرح ضمّ جهة داخلية مُهمّشة في مسار العدالة الانتقالية مسألةَ دور الدولة في تعزيز النمو الجهوي المتوازن عبر التدخّل في المسارات الاقتصادية، ويطرح كذلك قضية العدالة بمفهومها الشامل الذي ينبغي أن يتجاوز مفهوم الضحايا كأفراد من أجل معالجة عذاب مجموعة وطنية بأسرها عانت الإساءة الاجتماعية لعقود بسبب سياسات غير مناسبة. فمع أنّ الجهات الداخلية تضمّ 50 في المئة من المياه والنفط والغاز وتؤمّن 70 في المئة من قمح البلاد، معدّلات الفقر في هذه المناطق أعلى بكثير من المعدّل الوطني. وحتّى العام 2016، استأثرت جهات الشمال الغربي والوسط الغربي والجنوب الغربي بنسبة 70 في المئة من حالات الفقر الشديد في تونس، علماً أنّها لا تضمّ سوى 30 في المئة من السكّان.

وتتخطّى الغاية من المطالبة بمنح ولاية القصرين صفة “الجهة الضحية” مجرّد لفت الانتباه لمعاناة الجهات الداخلية، فهي تهدف إلى طرح قضية نعتبرها رئيسية، ألا وهي إدراج العوامل الاقتصادية الاجتماعية في مسار العدالة الانتقالية. ومن المهمّ ضَمّ هذه العوامل ليس لأنّها من أهمّ الدوافع للثورة التي اندلعت في هذه الجهات المحرومة فحسب، بل أيضاً لأنّ الانتقال الديمقراطي وكلّ الحرّيات التي يعدُ بها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بما يمكن أن يحقّقه مفهوم شامل للعدالة الاجتماعية.

لذا إن أرادت الحكومة الجديدة معالجة الويلات الاجتماعية والاقتصادية في المناطق الداخلية، ينبغي عليها تطبيق مقاربة إنمائية شاملة يمكن أن تضمّ تأسيس بنية تحتية لتعزيز تنقّل اليد العاملة بين مختلف الولايات ولتحفيز القطاع الخاصّ على الاستثمار في الجهات الداخلية. ولا يسع هذه الخطّة النجاح إلّا عبر تطبيق لامركزية سياسية واقتصادية بدعم من أصحاب المصلحة المحلّيين، من ضمنهم نقابيو العمال  والصناعة والتجارة والفلاحة وناشطو المجتمع المدني والقادة السياسيون المحليون.