Commentary

Op-ed

الذاكرة الجماعية والنسيان الجماعي بعد الحرب في لبنان

A man walks past concrete barriers erected by authorities to block a street leading to the parliament building in Beirut, Lebanon January 24, 2020. REUTERS/Aziz Taher

أدّت الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990) إلى نتائج كارثية، ولا سيّما اختفاء 41517 شخصاً وسقوط 144240 قتيلاً. في العام 1982، وبسبب اختطاف زوجي، أسّستُ جمعية “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان” للمطالبة بالإفراج عن المخطوفين وبتحقيق العدالة. وعندما بدأنا العمل لم نكن قد سمعنا بعبارة “العدالة الانتقالية”، فكلّ ما أردناه هو العدالة، من دون أيّ نعوت أو صفات. لكنّنا اكتشفنا لاحقاً أنّ ما قمنا وما زلنا نقوم به بحثاً عن الحقيقة والعدالة للمفقودين وعائلاتهم يتطابق مع مصطلح العدالة الانتقالية.

في خلال ورشة العمل التي نظّمها مركز بروكنجز الدوحة حول العدالة الانتقالية في مارس 2020 والتي تسنّتْ لي فرصة المشاركة فيها، جرى نقاش قضية المفقودين والمخفيّين قسراً في عدّة دول عربية ودور العاملين على هذه القضية، بمَن فيهم عائلات الضحايا والناشطون الحقوقيون والسياسيون. وفيما تختلف حيثيات هذه القضية ومساراتها بين بلدٍ وآخر نظراً إلى السياقات السياسية المختلفة المرتبطة بها، فهي تلتقي على مبدأ واحد: حقّ معرفة مصير الأحباء الذين غُيِّبوا.

وقد أنشأت لجنة الأهالي، كجزءٍ متمّمٍ لعملها، أرشيفاً خاصاً بالأشخاص المفقودين من منظور المفقودين وعائلاتهم (أسماؤهم وأعدادهم وتواريخ اختطافهم وأماكنها، بالإضافة إلى جمع وثائق تسلّط الضوء على الأوضاع السياسية والأمنية السائدة في خلال الحرب وفترة ما بعد الحرب في لبنان). ونعمل حالياً على مأسسة هذا الأرشيف تمهيداً لجعله متاحاً أمام الجميع. وتسرد موادّ هذا الأرشيف مرحلة طويلة وقاتمة عاشها لبنان (1975-1990) لا ينبغي تجاهلها أو طمسها أو تحسين صورتها ، وتشكّل بالتالي جزءاً من تاريخ البلد الحديث الذي ينبغي نشره على نطاق واسع.

هذا بالإضافة إلى أنه في حال عدم عثور عائلات المفقودين والمخطوفين على جثث أحبّائهم أو بقاياهم، فإنّ الأرشيف يؤكّد على الأقل وجود هؤلاء الأشخاص. وإذا كانت الدولة تستطيع منع الأفلام والدراسات والبيانات والنشاطات التي تسلّط الضوء على الحقائق التي تريد إبقاءها طيّ الكتمان ومدفونة في الماضي، فلن تتمكّن من منع هذا الأرشيف أو حذفه أو طمسه كما فعلت بأجساد المفقودين.

 

الطائفية وازدواجية العدالة

لقد ترسّخت الطائفية في لبنان أكثر فأكثر في فترة ما بعد الحرب، ممّا أفقد مفهوم المواطنة معناه. فقد أُنيطت مسؤولية إدارة البلد بقيادات الجهات الفاعلة في الحرب. فتقاسمت هذه الأخيرة المناصب وتوزّعت خيرات البلاد ضاربة بعرض الحائط مصالح لبنان وشعبه، الأمر الذي حال ويحول حتى اليوم دون إنشاء دولة فعّالة يمكنها أن تؤمّن قدرة وصول ملائمة إلى العدالة. وتطيّف العقاب والجريمة بدورهما، فمعاقبةُ شخص على جرمٍ ارتكبه تستوجب موافقة مرجعيته الطائفية، التي لها حقّ القبول أو الرفض، وغالباً ما ترفض حفاظاً على سمعة الطائفة التي ينتسِب إليها المُرتكِب.

وعوضاً عن تحقيق العدالة عبر مساءلة مجرمي الحرب، سارع المسؤولون إلى إصدار قانون عفو عام رفعَ من شأنِ مَن ارتكب الجرائم وهمّش ضحاياهم تحت راية إحلال السلام ومقولة “عفا الله عمّا مضى”.

انتفاضة تشرين (أكتوبر) والعدالة الانتقالية

في خلال الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في 17 تشرين 2019 ضدّ النهج السياسي الرسمي، تخلّت نسبة لا بأس بها من اللبنانيات واللبنانيين عن انتماءاتها الطائفية والمذهبية وتوحّدتْ من أجل المطالبة بمساءلة الحكّام الذين تعاقبوا على الحكم على مدار السنوات الثلاثين التي تلتْ الحرب حتى اليوم (1990-2019). فكان هذا الحدث بمثابة دعوة ضمنية بوجوب التعامل مع الماضي مهما كان سوداوياً أو مؤلماً، وبوجوب محاسبة مجرمي الحرب.

وكانت مشهديةُ ساحاتِ الانتفاضة تظهِّرُ وعيَ الناس ولفظَهم للتطييفِ والتمذهبِ والتمنطقِ والتعصب. هذه المشهدية تذكِّرُ بتشكُّلِنا منذ 38 سنة – نحن أهالي المفقودين – طائفةً عابرة للطوائفِ والمذاهب والمناطق. وتُذكِّر بأنّ كل المرتكبين “كلّن يعني كلّن” ما زالوا، حتى اليوم، يتحكّمون بمفاصلِ البلادِ والعباد بسبب عدم محاسبتهم.

وقد تأكّد موقف اللجنة الدائم أنّه ينبغي على المجتمع اللبناني إجراء المحاسبة على الفظائع المُرتكَبة خلال الحرب وفي مقدّمتها ملف المفقودين. فهل فتحت الانتفاضة الباب أمام حوار حول العدالة الانتقالية في لبنان؟ وهل علينا جميعاً أن نحرص على بقاء هذا الباب مفتوحاً؟

 

الإنجازات والتحديات التي واجهتها لجنة الأهالي

عملت اللجنة بلا كلل وواجهت شتّى التحديات والعراقيل في زمن الحرب حينما كانت شريعة الغاب هي السائدة، وكانت الحياة تسري بأمرة الميليشيات المتقاتلة التي كانت سلطتها أقوى من سلطة الدولة، من دون أي اعتبار لأمن السكّان المدنيين وسلامتهم.

إن التحدّي الأكبر في مرحلة ما بعد الحرب هو اضطرارنا إلى التعامل مع قيادات الميليشيات ذاتها التي تعاملنا معها خلال الحرب. فعضضنا على الجرح، وجَهَدْنا لأجل تخطّي ما أمكن من العراقيل والأخطار، ولا سيّما الانقسامات العميقة والاصطفافات المذهبية والسياسية. فنجحنا في البقاء على مسافة واحدة من الجميع، وتابعنا مسيرة المطالبة بمعرفة مصير المفقودين بالرغم من كلّ محاولات الابتزاز والرشوة والتهديد ومنَعنا الاستغلال السياسي للقضية.

المهمّ أنّ اللجنة، في مسار بحثها عن ذويها، استطاعت غرس بذور يمكن الارتكاز عليها سعياً إلى تحقيق سلام حقيقي. وروّجت لفكرة وجوب التعامل مع الماضي ومواجهته من أجل السير نحو مستقبل مستقرّ وآمن. واستطاعتْ خرق حائط اللامبالاة الذي اتّسم به المجتمع ودعته لتحمُّل مسؤولياته عبر إنشاء إطار أصدقاء للقضية، وتمكّنا معاً (لجنة الأهالي والأصدقاء) من إطلاق حملات شعبية طالبت بمعالجة هذه المأساة، فضلاً عن باقي مطالب لجنة الأهالي، ولا سيّما مطلب إعلان يوم 13 نيسان ( تاريخ بداية الحرب في لبنان) يوماً وطنياً للذاكرة وإقامة نصب تذكاري لجميع ضحايا الحرب بما في ذلك المفقودين.

وفي العام 2014، قدّمت اللجنة إلى مجلس النوّاب مسودّة قانون للكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسراً. واستطاعت، بتاريخ 13 نوفمبر 2018، انتزاع قانون كرّس حقّ الأهالي بمعرفة مصير أحبائهم. واستطاعت أيضاً فرض تعيين أعضاء الهيئة الوطنية المستقلّة للكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسراً في 3 تموز (يوليو) 2020. هذه خطوات مهمّة تمّ إنجازها بصبر الأهالي وهمّتهم ودموعهم وتمسكّم بحقّهم، في خلال مسار طويل وعسير بغية الوصول إلى الحقيقة والعدالة للمفقودين. فمهما طال المسار لا بدّ من أننا سنصل ذات يوم.