Commentary

Op-ed

مراجعة كتاب: ماذا حدث للإسلاميين؟

Ibrahim Fraihat
Ibrahim Fraihat زميل سابق في بروكنجز

June 16, 2013

يرى الكاتبان أمل بوبكر وأوليفر روي أن مرحلة السبعينيات والثمانينيات قد تميزت بظهور حركات إسلامية تناقضت بالأيديولوجية والجوهر مع الرأسمالية والثقافة الغربية، وسعت للتغيير الجذري الشامل مثل “الثورة الإسلامية في إيران والمجاهدين في أفغانستان وحزب الله وحماس وجبهة الإنقاذ في الجزائر”.

إلا أنه ومنذ التسعينيات، بدأ العديد من المفكرين الإسلاميين بالتوجه نحو “الديمقراطية الإسلامية”، مؤيدين بذلك بناء التحالفات السياسية والتعددية الانتخابية. ولعل الانتصار الانتخابي الذي أعقب الثورات العربية عام 2011، يُظهر كيف يواصل مشروع الإسلام السياسي تأقلمه بعدة طرق؛ ففي تونس ومصر، جاء التصويت الهائل للإسلاميين على أمل أن تقوم هذه الحركات بالإيفاء بوعودها بممارسة سياسية ذات بُعد أخلاقي، ومحاربة الفساد، وإعادة التوزيع الاقتصادي، والإصلاح والعدالة، وليس على أساس تطبيق الشريعة وخلق مؤسسات إسلامية جديدة.

التحولات التي اجتاحت مشروع الإسلام السياسي أدت لظهور اتجاهين أيديولوجيين:

الأول: ما يمكن تسميته بـ”الأصولية الجديدة” (neo-fundamentalism). ما يميز هذا الاتجاه هو عدم ارتباطه بمفهوم الدولة الوطنية حيث يتشكل بمعزل عن الحدود الجغرافية؛ فهو بطبيعته عالمي و(ليس وطنيًا) ويرتكز على مفهوم الأمة. الأصولية الجديدة لا تُعنى كثيرًا بالقضايا السياسية، وعوضًا عن ذلك تركز على الروحانية لأفرادها. من أهم جماعات الأصولية الجديدة: السلفيون الذين يركزون على مُثُل ومسلكيات السلف الأول وليس على رموز ومُثل إسلامية نشأت في القرن العشرين.

الاتجاه الثاني: ويمكن تسميته بـ”ما بعد الإسلامية” (post-Islamism) الذي أقلع عن الأفكار الراديكالية وحتى العنف كطريقة للتغيير، متجنبًا الخطر المصاحب لمفهوم الدولة الدينية ومستعيضًا عنه برؤية تعددية للمشروع الإسلامي. وبذلك، فقد لجأ اتجاه ما بعد الإسلامية إلى القضايا العملية والحلول الأيديولوجية الوسطية فيما يخص العمل السياسي. إن ظهور حزب الوسط في مصر في التسعينيات كبديل للعمل الإسلامي المسلح وللإخوان المسلمين، وظهور التعددية في الأحزاب الإسلامية التركية (انشقاق حزب الرفاه إلى حزبي سعادات والعدالة والتنمية)، يمثلان بشكل واضح بروز اتجاه ما بعد الإسلامية.

الإسلاميون في عالم متغير إذًا؛ عملوا على إيجاد استراتيجيات ومناهج عمل جديدة تتعايش مع المتغيرات العالمية، ويظهر ذلك في المواطن التالية:

1- ثقافة استهلاكية: الاستخدام الإسلامي للإعلام والفن الجديدين

بينما اعتمد الإسلاميون التقليديون على الفكرة وكتابات المفكرين التاريخيين لنشر الدعوة، اعتمد الإسلاميون المعاصرون أكثر على وسائل اتصال حديثة، بما فيها الإعلام المرئي والإنترنت والفضائيات والأقراص المدمجة. إنهم ينتجون ثقافة استهلاكية لنشر رسائلهم وحشد مؤيديهم الذين أصبحوا مستهلكين لهذا الإنتاج الثقافي الإسلامي بشكل مستمر. لقد بدأ الشباب في جماعة الإخوان المسلمين المصرية بممارسة ما يمكن تسميته بالجهاد الإلكتروني، وهم بذلك عملوا على تعديل مفهوم الجهاد من معناه التقليدي إلى مطالبة أتباع الجماعة بممارسته إلكترونيًا من خلال الاشتراك بمراسلات البريد الإلكتروني والمدونات وتوقيع عرائض إلكترونية ذات محتوى اجتماعي إسلامي. كذلك تم إنتاج ثقافة إسلامية أنيقة تتسم بالحداثة حيث أُنتجت مواد ثقافية مثل لباس إسلامي عصري، ومشروبات غازية إسلامية، ومغنين إسلاميين وحتى كوميديين إسلاميين. وحتى احتجاجات الشوارع، التي اتسمت بها ذروة نضال الإسلاميين في السابق، أصبحت تواجه منافسة شديدة من قبل حفلات نجوم الراب الإسلامي. ومن المهم هنا ملاحظة أن هذا النمط من الاستهلاك الثقافي الإسلامي الحديث، يقوم على جذور علمانية غربية بقيم ليبرالية، وهو بذلك يتجاوز القيم التقليدية السياسية للنشاط الإسلامي.

2- محو الهيكليات التنظيمية وأسلمة التجارة والأعمال

يرى الكاتبان أن الحركات الإسلامية اليوم تعمل على إعادة هيكلة أنفسها، بحيث إنها تخلت عن التركيبة التقليدية للسلّم التنظيمي الديني. صحيح أن جماعة الإخوان المسلمين، مثلاً، ما زالت تحافظ على اجتماعات أسبوعية وتأخذ اشتراكات سنوية من الأعضاء، ولكنها أصبحت تعتمد أكثر على لا مركزية، بحيث أصبح هناك “أعضاء بحكم الواقع” بالجماعة يعملون ضمن رؤيتهم الخاصة ودون تعليمات مباشرة من القرار المركزي.

إضافة لذلك، فقد بدأت الرموز الإسلامية غير التقليدية، كرجال الأعمال مثلاً، بخلق اقتصاد إسلامي، تعتبر الشركات الإسلامية المحرك الأساسي فيه؛ فعلى سبيل المثال، تحولت رموز إسلامية ماليزية إلى رجال أعمال من خلال الدمج بين مفاهيم قرآنية وثقافة الشركات التي يديرونها؛ فهم لا يقومون فقط بإيجاد مبادئ مالية تتفق والشريعة الإسلامية ولكنهم أيضًا أصبحوا يطبقون مفهوم الشورى داخل الشركة، ومبدأ الزكاة من خلال تشجيع رجال الإحسان بدعم مشاريعهم الخيرية.

3- تغير طبيعة العمل السياسي: هل ما زال الإسلاميون يريدون قيام دولة إسلامية؟ ولماذا دخل السلفيون معترك الحياة السياسية؟

يرى الكاتبان أن الحركات الإسلامية قد أخذت فعلاً بالتركيز على الجوانب الثقافية والاجتماعية أكثر من غيرها. بعض هذه الحركات قد تخلى عن فكرة التغيير الجذري للنظام السياسي والسيطرة على الدولة. لقد غيروا أولويات مشروع الإسلام السياسي، وفي كثير من الأحيان شرعنوا سلطة الدولة لأسباب عملية، رغم أنهم ما زالوا يتحدون الدولة أحيانًا من خلال مقاومة أسباب الظلم بأساليب جديدة. لقد قبلوا الانتخابات ليس فقط لربحها ولكن أيضًا لإدارة مشهد سياسي متنوع، كما أنهم قبلوا التحالف مع قوى سياسية علمانية.

التغيير لم يقتصر على تغيير الأهداف السياسية للحركات الإسلامية ولكن شمل أعضاءها أيضًا؛ بحيث أصبحنا نرى الأعضاء ينتمون أكثر للطبقة المهنية الحديثة المتأثرة بالجوانب الثقافية للإسلام أكثر من الجوانب والأهداف الأيديولوجية. وبسبب هذا التغير في الأهداف السياسية والأعضاء، فإن علاقة هذه الحركات مع العنف أيضًا قد تغيرت وتطورت؛ فجماعة الإخوان المسلمين المصرية رفضت العنف واعتمدت خطاب التعددية والتسامح والتعايش مع الأحزاب السياسية الأخرى.

بالإضافة لكل ما تقدم، يرى الكاتبان أن الإسلاميين اليوم ينهلون من موروث سياسي عالمي ذي مفاهيم قائمة على الديمقراطية والمنافسة والتضامن والمساواة، وذلك من أجل إعادة تعريف الإسلام السياسي الحديث. وهذا يعني أن الأيديولوجيات التي تزودنا بمفاهيم وتفسيرات لماهية العمل السياسي الاجتماعي لا تموت، ولكنها في حالة تحول وتطور مستمرين. وبذلك، فإن الأيديولوجية الإسلامية -حسب الكاتبين- قد سارت بطريق مشابه لذلك الذي سلكته أيديولوجيات عالمية أخرى كالشيوعية والاشتراكية. التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط الآن أظهرت أن الإسلاميين آخذون بالتأقلم مع التغيرات السياسية الحديثة أكثر من كونهم يقومون بتشكيل ورسم هذه التطورات. الدافع لهذا التأقلم جاء من قبل الجيل الشاب في عصر “ما بعد الإسلامية” الذي انخرط بجزئيات السياسة الصغيرة بواسطة الفيسبوك وشبكات التواصل الاجتماعي ومن خلال الحديث عن الديمقراطية والحرية، وليس بالحديث عن الهدف الأكبر المتمثل بالدولة الإسلامية. ويبقى السؤال: كيف سيواصل الإسلاميون تأقلمهم مع التغيرات العالمية؟ هو موضوع البحث حول الإسلاميين في المستقبل.

الإسلاميون: التحول أو الاستمرار

لقد رصد الكاتبان، ببراعة فائقة، التحولات التي أصابت مشروع الإسلام السياسي لاسيما في المناهج المتبعة من قبل الحركات الإسلامية، وبالتحديد بالعقد الأخير، مقارنة مع ما كانت عليه الحال في منتصف القرن العشرين. تقديم الكاتبين لمصطلح “الأصولية الجديدة” جاء في التوقيت المناسب وعلى درجة عالية من الدقة، حيث شكّل دخول السلفيين معترك الحياة السياسية في مرحلة الربيع العربي وخوضهم الانتخابات النيابية في مصر وغيرها مرحلة جديدة في العمل السياسي الإسلامي، ربما يكون لها تأثير استراتيجي على مشروع الإسلام السياسي ككل، بحيث يُدخِله مرحلة ما زالت أطوارها آخذة بالتشكل.

وصْف الكاتبين للطريقة التي تتأقلم بها الحركات الإسلامية مع تطور الثقافة العالمية في القرن الحادي والعشرين جدير بالاهتمام، لما له من قدرة على تسليط الضوء على ظواهر يعايشها مشروع الإسلام السياسي الآن. وبالتحديد، فإن مناقشة الكاتبين للكيفية التي ينهل بها الإسلاميون من الموروث السياسي العالمي، القائم على مفاهيم الديمقراطية والمنافسة والتضامن، لإعادة تعريف الإسلام السياسي الحديث، هي مسألة تهم الإسلاميين بالدرجة الأولى، بحيث، من جانب، تشجعهم على التقييم البنّاء للطريقة التي يتفاعلون بها مع الموروث العالمي، وتحديد موقفهم فيما إذا وصلوا إلى مرحلة أصبحوا فيها جزءًا لا يتجزأ من هذا الموروث يأخذون منه ويؤثرون به، ومن جانب آخر، تناقش فرضيات التزام قوى إسلامية بالنهج التقليدي القائم على بناء المشروع الإسلامي المتكامل المستند على تجربة السلف.

إلا أن هناك العديد من التحديات التي تواجه التصور الذي يضعه الكاتبان للحالة التي وصل لها مشروع الإسلام السياسي:

أولاً: في حين يمكن اعتبار مفهوم “الأصولية الجديدة”، الذي يقدمه الكاتبان، دقيقًا في تفسير دخول الحركة السلفية إلى معترك الحياة السياسية إلا أن ما يطلقون عليه مصطلح “ما بعد الإسلامية” يعاني من تناقضات كثيرة؛ فالإسلام السياسي لغير السلفيين أو حتى للاتجاه البارز في المنطقة العربية والإسلامية، لا يشهد حالة انسجام واحدة موحدة حتى يتم التعاطي معه كتيار متجانس وصل إلى درجة يمكن وصفها بـ”ما بعد الإسلامية”. وعلى سبيل المثال، فالإسلام السياسي في اليمن يختلف لحد كبير في درجة “تفاعله مع الموروث السياسي العالمي” عنه في تونس أو تركيا. فدرجة التباين ما بين تيار الإسلام السياسي، حتى في منطقة المغرب العربي نفسها، كبيرة جدًا، لدرجة دعت البعض إلى القول بأن “إسلاميي تونس يماثلون ليبراليي (علمانيي) ليبيا أو العكس”.

ثانيًا: مسألة تخلي إسلاميي التسعينيات عن مشروع التغيير الجذري؛ فالأمثلة التي يوردها الكاتبان لا تدل على ذلك. فإيران ما زالت تعمل على “تصدير الثورة” لاسيما لجيرانها العرب، وطالبان ما زالت ترفع مشروع “التغيير الجذري” ولم تعدّل حتى من ضرورة التحاق الإناث بالمدارس. أما بالنسبة لحركة حماس فهي لم تطرح أصلاً أي مشروع خارج المسألة الفلسطينية ومحاربة الاحتلال الإسرائيلي، وما زالت ملتزمة ببرنامجها حتى يومنا هذا. بل إن الإخوان المسلمين خاضوا التجربة الانتخابية قبل التسعينيات، وتحالفوا مع أحزاب علمانية مثل حزب الوفد في مصر، وهم يواصلون مشروعهم للإسلام السياسي بنفس المحتوى القائم على التغيير باللاعنف والانتخابات. فعمل الحركات الإسلامية لم يختلف كثيرًا من حيث الجوهر. نعم، هناك تغيير في الأدوات والأساليب بحيث تطورت لتشمل “الجهاد الإلكتروني والمدونات وتوقيع العرائض الإلكترونية والمشروبات الغازية الإسلامية والمغنيين الإسلاميين”، ولكن هذه كلها وسائل للوصول إلى الهدف وليست مؤشرات على تغيير في جوهر المشروع.

الإخوان المسلمون يطرحون مسألة اللاعنف منذ مرحلة التأسيس؛ حيث يظهر ذلك في كتابات المؤسس حسن البنا؛ فنهج الجماعة بجوهره لا عنفي حتى وإن وُجدت مراحل محددة تجاوزت فيها الجماعة هذه الأدبيات اللاعنفية. ولا يغيب عن الذهن الانشقاقات التي حصلت بتاريخ الجماعة في السابق بسبب التزامها بنهج اللاعنف، كما حدث مع الجماعة الإسلامية مثلاً. فاختلاف الوسائل لا يعني اختلاف الجوهر أو اختلاف المشروع، وحتى تُحسم مسألة “انتهاء مشروع الإسلام السياسي”، كما يناقش الكاتبان، فهناك حاجة إلى مؤشرات تتعلق بالهدف والرؤية الاستراتيجية وليس بوسائل العمل الإسلامي. فلربما أصبح التغيير بالوسائل الحديثة عامل قوة وتدعيم لمشروع الإسلام السياسي وليس بقصد الإقلاع عن أهدافه الاستراتيجية؛ فالجهاد الإلكتروني والمدونات يمكن رؤيتها على أنها حالة من ركوب موجة العولمة بدلاً من مواجهتها؛ فتعمل الحركات الإسلامية بذلك على تجديد نفسها ضمن المعطيات العالمية الجديدة التي تؤهلها للحياة والاستمرارية.

ثالثًا: يعتبر الكاتبان ظهور أحزاب جديدة برؤية مختلفة، مثل حزب الوسط، مؤشرًا على تحول في جوهر مشروع الإسلام السياسي. ولكن حزب الوسط، الذي انشق عن جماعة الإخوان المسلمين عام 1996 لم يتمكن من حشد قاعدة جماهيرية تؤهله لمنافسة الأحزاب التقليدية الإسلامية. فعلى سبيل المثال، لم يحصل إلا على 10 مقاعد في انتخابات مجلس الشعب المصري لعام 2011 مقابل مقاعد الإخوان والسلفيين التي وصلت إلى 223 مقعدًا. وهذا مؤشر دقيق على أن أحزاب ذات برامج وسطية أو “ليبرالية إسلامية” ما زال أمامها تحديات كبيرة جدًا حتى تُعتبر منافِسة فعلاً وتستطيع أن تؤثر في جوهر أو رؤية مشروع الإسلام السياسي. جدير بالذكر أن حالة الاستقطاب وديناميات العمل التي يشهدها مشروع الإسلام السياسي الآن تجري ما بين الأحزاب المحافظة نفسها وليس بين الأحزاب المحافظة والأحزاب الليبرالية أو الوسطية. بمعنى آخر، فإن الاستقطاب في مصر اليوم يقوم بين الإخوان المسلمين والسلفيين الذين أصبحوا يشكّلون منافسًا صلبًا لقيادة الإخوان المسلمين التقليدية للمشروع الإسلام السياسي. الدلالة المهمة لهذا النوع من ديناميات العمل هي أنها ستؤدي بالأحزاب المحافظة إلى التنافس فيما بينها على موقع “الأكثر محافظة” وليس “الأكثر ليبرالية”؛ فالإخوان سيحاولون أن يثبتوا للسلفيين -منافسهم القوي- أنهم ليسوا أقل محافظة منهم، وهذا النوع من العمل سيؤدي بالمحصلة النهائية إلى مشروع إسلام سياسي أكثر محافظة، وهو ما يختلف مع طرح الكاتبين بخصوص التحول الجذري لمشروع الإسلام السياسي نحو العولمة والإقلاع عن الأهداف التقليدية. بكل تأكيد كان الأمر سيختلف لو أن المنافسة أو الاستقطاب، في مصر مثلاً، يقوم بين جماعة الإخوان المسلمين وحزب الوسط، حيث سيكون التنافس عندها بين مشروعين: محافظ و”ليبرالي نسبيًا”، فإذا تفوَّق الأخير نكون قد أدركنا حقيقة التحول في مشروع الإسلام السياسي، ولكن هذا ليس هو واقع الحال.

رابعًا: يقفز الكاتبان إلى استنتاجات مبكرة تقول بتخلي الإسلاميين عن مشروع الدولة الإسلامية، كونهم دخلوا الانتخابات ووصلوا إلى السلطة في مرحلة الربيع العربي. مما لا شك فيه أن وصول الإسلاميين إلى السلطة، بدون أن يكون لهم خبرة سابقة في الحكم، قد جعلهم يغيِّرون في سلم أولوياتهم؛ فالاقتصاد والبطالة وتدعيم أواصر الحكم، تأخذ بكل تأكيد الأولوية فوق أي شيء آخر في المرحلة الراهنة. فالإسلاميون لهم خبرة سابقة في العمل الحزبي والجماهيري والخيري، خصوصًا في مجالات الصحة والتعليم والعمل الإنساني، ولكن هذا كله يختلف عن الخبرة المطلوبة في مجالات الحكم الرشيد وإدارة الدولة. فإسلاميو تركيا، على سبيل المثال، كانوا قد شغلوا مناصب رؤساء بلديات ومحافظين وإداريين في الدولة قبل وصولهم إلى سدة الحكم، ولهذا لوحظ نجاح التجربة التركية حتى الآن في مجالات النمو الاقتصادي وإدارة الدولة، أما إسلاميو الربيع العربي مثلاً فقد جاء جزء منهم من السجون (مصر) وجزء آخر من المنافي (تونس)، وفي الحالتين تختلف هذه التجارب مع ما تحتاجه إدارة الدولة في مرحلة اقتصادية حرجة تصل فيها البطالة إلى أعلى مستوياتها. ولذا من المبكر جدًا الحكم على الأهداف الاستراتيجية والمشروع السياسي لمجرد التغيير في الأولويات فقط.

خامسًا: يطرح الكاتبان مسألة خلافية كبيرة؛ حيث يريان أن الحركات الإسلامية أصبحت تعتمد على اللامركزية؛ مما أدى إلى محو الهياكل التنظيمية التقليدية لهذه الأحزاب، ويستدل الكاتبان على ذلك بوجود ما يسمونه تشكيلات “أعضاء بحكم الواقع”، تعمل ضمن رؤيتها الخاصة وبعيدًا عن الهيكلية التنظيمية. ولكن في حقيقة الأمر فإن تشكيلات مثل “أعضاء بحكم الواقع” قد وُجدوا دومًا وليس فقط حديثًا؛ حيث اعتُبروا سابقًا كفئة “المناصرين أو المؤازرين”، وهؤلاء لم يكن لهم علاقة بالتنظيم الداخلي للأحزاب السياسية الإسلامية. ولعل تجربة الربيع العربي قد أثبتت أن الأحزاب السياسية الإسلامية كانت الأقدر من غيرها من الأحزاب على المحافظة على بنيتها الداخلية ومركزية القرار فيها رغم كل التحديات التي واجهتها، فجماعة الإخوان المسلمين المصرية، كما يقر الكاتبان، استطاعت المحافظة على اجتماعاتها الأسبوعية وجمع الاشتراكات السنوية من أعضائها. وفوق كل ذلك، هناك قرار واحد وهو قرار المرشد العام في النهاية. ما يغفل الكاتبان عن الإشارة إليه فيما يتعلق بمسألة الهيكليات والمركزية في الحكم هو مفهوم “الأمير” لدى الجماعات الإسلامية، وهو مفهوم مقدس مركزي لا تنازعه أية سلطة أخرى حزبية، وهو مفهوم مدعم عقائديًا وأيديولوجيًا بـ”أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”. إطاعة أولي الأمر هي سلطة لا يمكن التأثير فيها من خلال وجود “أعضاء بحكم الواقع”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، قد قامت بفصل العديد من القيادات الشابة من صفوفها في ما بعد سقوط مبارك، عندما حاولت هذه القيادات الشابة طرح رؤية تجديدية مخالفة لحد معين للرؤية المركزية للمرشد وقيادة الجماعة. لذا، من الصعب وجود مؤشرات حقيقية وصلبة تفيد بأن المركزية ضمن حدود الأحزاب الإسلامية التقليدية قد تراجعت أو تغيرت وأصبحت تحكم بلا مركزية.

أخيرًا، وبالرغم من الاختلاف مع الكاتبين في عدد من القضايا التي تناولاها في معالجتهم لمشروع الإسلام السياسي إلا أنه لابد من التأكيد على أهمية قراءة الكتاب ونقاشه بطريقة ناضجة ومسؤولة، كونه يطرح قضايا فلسفية تتعلق بحاضر ومستقبل مشروع الإسلام السياسي، ولابد للمتخصصين في شؤون الحركات الإسلامية بل والحركات الإسلامية نفسها من مناقشتها؛ فإعادة تعريف مشروع الإسلام السياسي وعلاقته بالموروث السياسي والثقافي العالمي هي مسألة ملحة لاسيما بعد التغييرات التي اجتاحت المنطقة مع وصول الربيع العربي ووصول الإسلاميين للحكم.

معلومات عن الكتاب
عنوان الكتاب: ماذا حدث للإسلاميين؟
المؤلف: أمل بوبكر وأوليفر روي
عرض: د. إبراهيم شرقية
السنة: 30 أكتوبر/تشرين الأول 2012
الناشر: سن هيرست، لندن/منشورات جامعة كولومبيا
عدد الصفحات: 224

 لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا