Commentary

Op-ed

كيف سيحتوي العراق وكلاء إيران؟

Volunteers, who have joined the Iraqi Army to fight against predominantly Sunni militants, carry weapons and a portrait of Grand Ayatollah Ali al-Sistani during a parade in the streets in Baghdad's Sadr city June 14, 2014. An offensive by insurgents that threatens to dismember Iraq seemed to slow on Saturday after days of lightning advances as government forces regained some territory in counter-attacks, easing pressure on the Shi'ite-led government in Baghdad. REUTERS/Wissm al-Okili
Editor's note:

تم نشر هذا المقال باللغة الانكليزية في موقع ذا أتلانتيك.

في يونيو 2014، دعا آية الله السيّد علي السيستاني، أحد أبرز المراجع الدينية للشيعة في العالم، جميع الجهات العراقية القادرة إلى الدفاع عن بلادها ضد تنظيم الدولة الإسلامية. فقد انهارت القوات المسلحة العراقية المدربَّة من قبل الولايات المتحدة في وجه تقدم داعش، الذي استولى على الموصل وجزء كبير من شمال العراق. وقد حشدت الفتوى التي أطلقها السيستاني قوة قتالية قوامها 100 ألف شخص عُرِفت باسم الحشد الشعبي، أو قوات الحشد الشعبي، التي كان مقاتلوها، وأغلبهم من الشيعة، أساسيين جدّاً في القتال ضد داعش. تتألف قوات الحشد الشعبي من ميليشيات شيعية متعددة تأسَّست بعد العام 2014 كمجموعات متطوِّعة حملت السلاح تجاوباً مع فتوى السيستاني، وملأت الفراغ الذي خلَّفه انهيار الجيش العراقي. تصطَّف غالبية هذه الجماعات مع الدولة العراقية وتأخذ أوامرها من الحكومة العراقية.

لكن ضمن قوات الحشد الشعبي هناك مقاتلون ينتمون إلى مجموعات متحالفة مع إيران، والتي أصبحت أقوى الميليشيات التي تتألف منها هذه القوّات. ورغم أنّ هذه الميليشيات تخضع من الناحية الفنية لقيادة بغداد منذ العام 2016، إلا أنها في الواقع تتبع أهواء رعاتها في طهران. وقد استغلت هذه المجموعات منذ فترة طويلة الصراع والفوضى اللذين انطلقا في العراق منذ سقوط نظام البعث، وأديّا إلى توسُّع نفوذ إيران في البلاد. لقد اتُهمت هذه المجموعات بارتكاب فظائع طائفية ساعدت على تكريس وجود مجموعات مثل داعش، وأدّت دوراً حاسماً في الحرب الدموية التي اندلعت في العام 2006 بين العرب السنَّة والشيعة. وقد قاومت بعنف محاولات الدولة العراقية والولايات المتحدة لنزع سلاحها. منذ ظهور داعش وفتوى السيستاني، استغلت هذه المجموعات الفراغ الأمني وضعف القوات النظامية العراقية لتوطيد نفوذها. واليوم، يبدو أنها باتت مستعدة لترجمة الشعبية التي حصدتها خلال زمن الحرب، إلى مكاسب سياسية في الانتخابات المقبلة في مايو، حيث ستخوض الانتخابات ككتلة تحمل اسم “الفتح المبين”.

ومع هزيمة داعش وإعادة تشكيل قوات الأمن العراقية وتنظيمها (بفضل التدريب والدعم الأمريكيين)، توقَّع البعض أن يلغي السيستاني فتواه، ويحلَّ قوات الحشد الشعبي في ديسمبر الماضي. لكن السيستاني لا يستطيع فعل ذلك ببساطة، فقوات الحشد مؤسسة حكومية توفِّر سبل العيش والمهابة لمقاتليها، وتصرُّف من هذا النوع كفيل بإثارة رد فعل شعبي عنيف، قد ينجم عنه تقويض المؤسسة الدينية الشيعية في العراق. كما أنه لا يستطيع مواجهة وكلاء إيران وحده، فقد أثبتوا، هم والميليشيات الشيعية بشكلٍ عام، أنهم جهات فاعلة هائلة. (حاولت الولايات المتحدة مقاتلتها بأكثر من 100,000 جندي خلال فترة الاحتلال وفشلت).

إلا إنّ وكلاء إيران إذا تُركوا لعبثِهم، سيستمرون في مفاقمة التوترات الطائفية، التي يمكن أن تؤدي إلى عودة ظهور داعش. وسوف يضطر السيستاني إلى مواجهتهم في نهاية المطاف، ولكن ليس بنفسه، وليس بالطريقة التي قد يتوقَّعها البعض.

أحد الأمور المهمة التي ساهمت في بقاء الميليشيات الشيعية واستمرارها على مرِّ السنين، هو قدرتها على التكيُّف مع القيود السياسية والقانونية المفروضة عليها. فهي كانت تلجأ إما إلى إنشاء تحالفات مع أحزاب طويلة الأمد، أو تعيد تقديم نفسها كحركات اجتماعية – ثقافية توفِّر الخدمات الاجتماعية للمجتمعات المحلية، التي غالباً ما كانت مجتمعاتٍ معدمة. لقد شكّلت إيران جماعات مثل جماعة عصائب أهل الحق، التي كانت متواطئة في هجمات على عناصر ومدنيين أمريكيين وعراقيين بعد العام 2003، والتي تحوَّلت منذ ذلك الحين إلى جماعات مسلحة قوية قادرة على الوصول إلى مؤسَّسات الدولة ومواردها، مع المحافظة على استقلالها في الوقت نفسه. لقد قدّمت الميليشيات الشيعية الموالية لإيران نفسها في الجوهر، كنسخة عراقية من حزب الله اللبناني: حركتان اجتماعيتان- ثقافيتان مع جناح عسكري- يُعنى بالرعاية الاجتماعية، تعملان بشكلٍ مستقلٍ عن الدولة.

وليست عصائب أهل الحق الميليشيا الشيعية الوحيدة في العراق التي استفادت من موارد بغداد، دون أن تخضع مطلقاً لسيطرتها أو لرقابتها المدنية، فهناك مثال بارز آخر هو فيلق بدر، وهو منظمة أنشأتها إيران خلال الحرب الإيرانية- العراقية في الثمانينيات. ورغم أنها انطلقت كميليشيا، إلا أنها باتت تسيطر على وزارة الداخلية العراقية منذ العام 2003 وتتولى اليوم قيادة قوات الشرطة الاتحادية وقوامها 37 ألف شرطي. أما وزارة الداخلية العراقية، فلا تخضع لسلطة رئيس الوزراء، بل للتسلسل الهرمي لفيلق بدر الذي يقوده زعيم الفيلق هادي العامري، الذي قاتل إلى جانب القوات الإيرانية خلال الحرب الإيرانية العراقية. وهو يقود الآن قوات الحشد الشعبي. ورغم أنّ لواء بدر هو الوكيل الإيراني الوحيد الذي يسيطر على إحدى الوزارات العراقية، إلا أنّ الأمر لن يبقى على هذه الحال لفترةٍ طويلة.

إنّ الجيش العراقي ليس قوياً بما فيه الكفاية لمواجهة هذه المجموعات. ولكن السيستاني يمتلك المصداقية الكافية لقيادة هذه العملية. فقد مارس لفترة طويلة مهمة التدقيق ومراقبة سلطات النخبة الحاكمة الفاسدة في العراق. وبعد الاطاحة بنظام صدَّام، أصرَّ على أن تقود جمعية منتخبة عملية كتابة الدستور الجديد بدلاً من النخب العراقية المفضَّلة لدى واشنطن. وعلى الرغم من فشله في منع اندلاع الحرب الطائفية، إلا أن دعوته إلى التهدئة وضبط النفس وتوحيد الكلمة ساعدت على ضمان عدم تحويل الصراع إلى إبادة جماعية ضد السنَّة. وفي أغسطس 2014، وبعد شهرين فقط من دعوته إلى مقاتلة داعش، أجبَرَ رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، الذي أدّى حكمه الاستبدادي الفاسد إلى انهيار الجيش العراقي، على التنحّي.

لقد قاوم آية الله تاريخياً جهود إيران لتصدير ثيوقراطيتها إلى العراق. وقد انتقد وكلاء إيران من خلال خطبه وسوف يواصل الضغط عليها. وعلى الرغم من أنّ سجل السيستاني يشير إلى استعداده لمحاربة وكلاء إيران، إلا أنّه سيحتاج إلى مساعدة. وقد تأتي هذه المساعدة من الأصوات القومية المعادية لإيران مثل مقتدى الصدر وأتباعه. فقد دعم كل من الصدر والسيستاني احتجاجات العراق في مجال مكافحة الفساد، التي قادها أفراد من المجتمع المدني، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان ومنظمات غير حكومية أخرى. فعلى سبيل المثال، احتشدت مئات الآلاف من أنصار الصدر في العام 2016 للدعوة إلى الإصلاح وإنهاء الحكم الطائفي. وردَّد الكثيرون شعارات مناهضة لإيران. كما أنّ زيارات الصدر إلى الخليج عزَّزت أيضاً علاقات العراق بالعالم السنّي العربي. ويمكن لهذه العلاقات أن تؤدي إلى تحالفات طائفية لاحتواء الفصائل الموالية لإيران.

وتؤدّي الولايات المتحدة الأمريكية دوراً هاماً في خضمِّ كل هذه الأحداث. فالمحافظة على وجودها العسكري في العراق سيساعد على احتواء وكلاء إيران، شريطة ألّا تُضعِف منافسي طهران مثل الأكراد والسنَّة. وهذا هو بالضبط ما حدث في أكتوبر الماضي، عندما استعادت قوات العبادي ووكلاء إيران كركوك الغنية بالنفط والمناطق المحيطة بها من الأكراد. وفي الواقع، فإن العبادي، المحسوب على أمريكا في بغداد، اعتمد على الميليشيات المدعومة من إيران للحفاظ على سيطرة بغداد على الأراضي المتنازع عليها مع الأكراد.

ونتيجة لهذا الهجوم، بات وكلاء إيران الآن يتحكَّمون بكركوك وغيرها من المدن والبلدات الحيوية الاستراتيجية. ومع كل شبر يكسبه وكلاء إيران من الأرض يصبح نفوذهم أقوى فأقوى في باقي أنحاء العراق. بل أنّ العبادي فكّر حتى في إقامة تحالف مع وكلاء إيران، وهي خطوة انتقدها كلٌ من السيستاني والمؤسسة الدينية في النجف والصدر والفصائل السنّية العربية والكردية. وسيكون من الجيّد بالنسبة لواشنطن أن تستفيد من دروس الماضي، وتتجنب زرعَ رجلٍ قوي في بغداد قد يدير ظهره في يومٍ من الأيام لأمريكا.

لاحتواء طهران، يمكن للولايات المتحدة أن تساعد أيضاً على منع هذه الجماعات من الاستئثار بالمليار دولار المخصّصة لقوات الحشد الشعبي من الميزانية الوطنية العراقية، ولَجْم وصولها إلى مليارات الدولارات التي يعتزم المجتمع الدولي المساهمة بها لإعادة إعمار العراق. تعزّز هذه الموارد تفوّق وكلاء إيران في ساحة المعركة، كما تسمح لهم بتشكيل النظام السياسي في العراق وفقاً لإيديولوجياتهم الخاصة، وقولبة نسيجه الاجتماعي من خلال الحرب الدعائية المتطورة.

ويمكن للسيستاني، الذي يناصر قيام دولة عراقية تعددية تمثيلية، أن يؤدّي دوراً مهماً في احتواء وكلاء إيران. بيد أنه لا يستطيع أن يفعل الكثير لوحده.