Commentary

Op-ed

مجلس التعاون الخليجي: إعادة النظر في التحالفات

U.S. President Barack Obama (R) meets with Saudi King Salman bin Abdulaziz in the Oval Office of the White House in Washington September 4, 2015. This is the king's first visit to the United States since ascending to the throne in January. REUTERS/Gary Cameron

أصدقاء حقيقيون؟ تدهورت العلاقات الأمريكية-السعودية بعد موافقة واشنطن على قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا)، الذي يمكّن عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر من مقاضاة المملكة العربية السعودية.

الرمال المتحركة لبيئة دول مجلس التعاون الخليجي الجيوستراتيجية

أتاح عقدان من الارتفاع شبه المتواصل في أسعار النفط الفرصة أمام دول مجلس التعاون الخليجي للاستثمار في مشاريع البنية التحتية والتعليم والصحة، إلى جانب تقديم دعم سخي لمواطنيها. وانطلاقاً من اطمئنانهم إلى أسعار الطاقة المرتفعة، لم يكتفِ حكام الخليج بالاستثمار في نمو بلادهم الاقتصادي، بل أيضاً في جيوشهم، فزادوا إنفاقهم على الشؤون الدفاعية بشكل هائل. وعلى نطاق أوسع أعادت دول مجلس التعاون، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، تموضعها كقادة العالم العربي. فنظراً للفوضى والثورات الداخلية التي تواجهها مراكز القرار العربية التقليدية مثل القاهرة ودمشق وبغداد، فتحت هذه الأخيرة المجال أمام الرياض وأبو ظبي والدوحة لملء هذا الفراغ.

ورغم هذا النمو والازدهار، تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحديات غير مسبوقة في وقتٍ بدأت فيه عباءة القيادة تنتقل من الجيل القديم إلى جيل الشباب المتعطّش لترك بصمته الخاصة. وأصبحت البيئة الجيوستراتيجية عدائية أكثر فأكثر بسبب سعي إيران الحازم لتحدي النظام الإقليمي. كما ويبدو أن الصراعات الدائرة في كلٍ من سوريا والعراق واليمن لن تجد طريقها إلى حل عسكري فوري. في غضون ذلك، وصلت حقبة أسعار النفط المرتفعة إلى نهاية مفاجئة في العام 2014، الأمر الذي أثار أسئلة اقتصادية صعبة.

أسعار النفط المنخفضة والمعايير الاقتصادية المتبدلة

أجبرت أسعار النفط المنخفضة دول مجلس التعاون على إعادة التفكير في إنفاقها العام، فأطلقت المملكة العربية السعودية خطة إصلاحية مستوحاة من ماكينزي، أطلق عليها اسم “رؤية 2030” هدفها تنويع مصادر دخل المملكة، وتشجيع المزيد من السعوديين على العمل في القطاع الخاص. وقد بدأت الإصلاحات الحكومية تؤتي بعض ثمارها، فحسب صندوق النقد الدولي، انخفض عجز الميزانية من 13 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2016 إلى 9,6 بالمئة عام 2017.

ورغم هذا، لا تزال المملكة تعاني من ارتفاع معدلات البطالة، وقد اضطُرت إلى جمع الأموال في أول عملية بيع سندات تقوم بها على الإطلاق بقيمة 16,5 مليار دولار أمريكي. كما أعلنت الحكومة الشهر الماضي أنها سوف تخفّض أجور وامتيازات عمال وموظفي القطاع العام بنسبة كبيرة.

أما دولة الإمارات، فتواصل مساعيها لتنويع اقتصادها، وحسب صندوق النقد الدولي، فقد حققت نجاحاً أكثر من باقي جاراتها حتى الآن. إذ واجهت محاولات الكويت لإجراء الإصلاحات رد فعل عنيف من الشعب ومجلس الأمة على حدٍ سواء، الأمر الذي دفع الأمير إلى حل البرلمان تماماً.

وفي البحرين، أدّى تخفيض الدعم إلى رفع أسعار البنزين بنسبة 56 بالمئة في بداية هذا العام، بينما أثّرت أسعار البنزين المرتفعة في عُمان على العادات الاستهلاكية للسائقين. وبشكلٍ عام، هناك عملية إعادة تقويم مستمرة للعلاقات يبن الحكومات والشعوب في كل أنحاء المنطقة، ولا تزال النتائج الكاملة تظهر تباعاً.

التحديّات المحلية والدولية تدفع نحو إعادة اصطفاف استراتيجي

يحمل التبدّل في المعايير الاقتصادية المحلية أثراً جيوسياسياً، فدول مجلس التعاون الخليجي تسعى لإيجاد حلفاء موثوقين يساعدونها في مواجهة التحديات الإقليمية، وفي تثبيت أسعار النفط أيضاً. هناك شعور بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تعطي الأولوية لعلاقاتها مع دول الخليج، بما في ذلك علاقاتها المميزة مع المملكة العربية السعودية، إذ تمرّ العلاقات السعودية – الأمريكية بفترة مضطربة نتيجة الاتفاق النووي الإيراني، ناهيك عن القانون الذي أقرّته الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يمكّن عائلات ضحايا 11 سبتمبر من مقاضاة المملكة. وقد ردّت السعودية ودول خليجية أخرى على هذه التحولات بتبنّي سياسات خارجية أقوى وأكثر استقلالية، بالإضافة إلى تعميق العلاقات الداخلية بينها في وجه التهديدات الخارجية.

وبالتالي، يبدو أن الخصام الدبلوماسي بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى بشأن موقفها من الشأن المصري، قد أصبح طيّ النسيان في الوقت الحاضر.

بل إن العلاقات القطرية – الإماراتية مستمرة بالتحسّن، إذ التقى أمير قطر ولي عهد أبو ظبي عدة مرات هذا العام، كان آخرها الأسبوع الماضي.

خلال هذه الاجتماعات، يقال إن الطرفين ناقشا موضوع التعاون بين البلدين في بعض القضايا الأمنية والاقتصادية. ووافقت قطر على إمداد الإمارات بالمزيد من الغاز الطبيعي عن طريق نظام خط أنابيب دولفين، مع الكميّة الإضافية المخصّصة للشارقة ورأس الخيمة.

يمتلك خط أنابيب دولفين، الذي أُنشئ عام 1999 لإمداد عُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة بالغاز من قطر، طاقة تكفي لنقل 2 مليار قدم مكعب من الغاز يومياً، أو حوالي 25 بالمئة من استهلاك دولة الإمارات اليومي.

لا بد من الإشارة أيضاً إلى تطوّر العلاقات السعودية – الإماراتية – رغم عدد من المشاكل، بما في ذلك الإشراف على حرب اليمن، والنزاع الحدودي الطويل الأمد، إذ أنشأت الدولتان الجارتان مجلساً يسعى لتدعيم التعاون الثنائي بينهما. إنّ دولة الإمارات العربية المتحدة هي إحدى أكبر الدول المستثمرة في المملكة، إذ تُقدّر قيمة استثماراتها بأكثر من 9 مليار دولار، ويتجاوز حجم تجارتها هناك 19 مليار دولار، وهو يعادل حوالي نصف تجارة دول مجلس التعاون الخليجي الداخلية للعام 2014.

أخيراً، فإن دول مجلس التعاون الخليجي مستمرة في تعميق روابطها الاقتصادية التنظيمية، وستبدأ بفرض ضريبة على القيمة المضافة في كل المنطقة بدءاً من العام 2018. وهي الآن بصدد الموافقة على إطار قانوني مشترك لنظام الضريبة على القيمة المضافة.

صفقة أوبك.. للفترة الحالية

لقد حفّزت أسعار النفط المنخفضة على مدى عامين منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) أيضاً للتوصل إلى اتفاق بتخفيض الإنتاج. وما يعقّد أي الاتفاق هو التوتر بين المملكة العربية السعودية وإيران، وهما دولتان رئيسيتان في منظمة أوبك. فإيران التي تحرّرت مؤخراً من العقوبات الاقتصادية تحرص على زيادة الإنتاج، رغم أسعار النفط المنخفضة، وهو موقف تعارضه المملكة العربية السعودية.

لكن وفي تحوّل في السياسات قاده ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عبّرت المملكة العربية السعودية عن استعدادها لإبداء المزيد من المرونة في هذه القضية. فبعد عدد من الاجتماعات التي عُقدت في روسيا وسعت إلى إيجاد أرضية مشتركة بين المملكة وإيران وروسيا، قال وزير النفط السعودي: “إن الهوّة بين دول أوبك تضيق في ما يتعلق بمستويات التجميد.. والآراء تتقارب كثيراً”. جاء ذلك تأكيداً على أن المملكة العربية السعودية وروسيا، ورغم خلافاتهما بشأن الصراع في سوريا، لديهما مصلحة بالتعاون لرفع أسعار النفط من جديد.

وقد نتج عن هذه الاجتماعات وعن موقف السعودية الملطَّف اتفاق الجزائر في 28 سبتمبر 2016. وبحسب صحيفة ذا فايننشال تايمز، فقد التزمت أوبك بتخفيض الإنتاج ما بين 32,5 مليون برميل يومياً إلى 33 مليون برميل يومياً. وهدف الإنتاج الجديد هذا هو تخفيض ما بين 240,000 برميل و740,000 برميل يومياً، من أصل الـ 33,24  مليون برميل يوميا، التي ضخّها اتحاد المنتجين في أغسطس.

يشير هذا إلى تغيير في استراتيجية أوبك تقوده المملكة العربية السعودية، التي كانت في السابق مستمرة في ضخ النفط لمستويات أعلى من أجل المحافظة على الحصّة السوقية وزيادة الضغط على منتجي النفط الصخري ذي التكلفة المرتفعة. وقد جاءت الاستراتيجية الجديدة بنتائج فورية، إذ ارتفع سعر برنت الخام، لكن يجب الانتظار لمعرفة ما إذا كان تخفيض الإنتاج المتواضع سيترك آثاراً مستدامة وطويلة المدى على الأسعار.

وبعيداً عن أسعار النفط، لقد حرصت الرياض أيضاً على التواصل مع موسكو من أجل المزيد من التعاون الاقتصادي، وللتأثير على موقفها من سوريا. ولكن في هذا الصدد، لم يتوصّل الفريقان بعد إلى أرضية مشتركة، رغم إشارة بوتين إلى أنه يجد محمد بن سلمان “شريكاً موثوقاً جداً”.

السيسي: لا مزيد من الشيكات على بياض

بعد الإطاحة بالرئيس مرسي في انقلابٍ مدعوم من قطاعات واسعة من الشعب المصري، هرعت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت لدعم نظام عبد الفتاح السيسي مادياً، فقدمت مليارات الدولارات إلى خزائن القاهرة طيلة ثلاث سنوات. لكن داعمي السيسي الخليجيين أصيبوا بالإحباط بسبب عجز النظام عن إعادة توجيه الاقتصاد المصري نحو مسار مكتفٍ ذاتياً، ناهيك عن غياب الدعم المصري في الصراع اليمني. والأهم من ذلك كله، تسبب دعم القاهرة الأخير اللقرار  مجلس الأمن بشأن سوريا تدعمه روسيا مزيداً من السخط، ودفع السعودية إلى قطع بعض شحنات النفط إلى مصر.

إنّ دعم مصر للقرار الروسي هو جزء من تقارب أوسع في العلاقات المصرية – الروسية. ففي ظل البرود الذي أصاب العلاقات المصرية – الأمريكية، يستمر فلاديمير بوتين – الذي وجد الفرصة سانحة –  في التودّد إلى السيسي، ويبدو أن هناك نوعاً من التآلف الروحي بين الرئيسين، فكلاهما كان مسؤول في الاستخبارات وأصبح زعيماً بعد ذلك.

لقد أبرم الروس صفقة بتمويل مفاعل نووي مصري وبنائه، وبدأت الدولتان مؤخراً تدريباتهما العسكرية المشتركة الأولى من نوعها في الصحراء الغربية المصرية. حتى وأنّ صحفاً روسية أوردت تقارير حول مفاوضات لإقامة قاعدة عسكرية روسية في مصر، بعد مرور 44 عاماً على طرد الرئيس السادات بشكل غير رسمي الإستشاريين العسكريين الروس من مصر. كما وأنّ مصر تشجّع بقوة عودة السيّاح الروس الذين من شأنهم إعادة الحياة إلى السياحة المصرية المتراجعة.

ورغم التأكيدات العلنية للمسؤولين المصريين والسعوديين بأن الصداقة مستمرة بين الدولتين، إلا أن قطع بعض شحنات النفط يؤكد استياء المملكة، ويشير إلى أن دعم نظام السيسي لن يكون شيكاً على بياض بعد اليوم. والمفارقة هي أن المملكة كانت قد استخدمت النفط كسلاح لدعم مصر في حرب أكتوبر عام 1973، أما اليوم، فهي تستخدمه ضدها.

علاقات أعمق مع تركيا

في الوقت الذي وصلت فيه العلاقات المصرية – السعودية إلى نقطة صعبة، تستمر العلاقات التركية – السعودية بالتنامي.

وصل حجم التجارة بين البلدين إلى 8 مليار دولار، وقام جيشاهما بأربعة تدريبات عسكرية مشتركة في العام 2016 وحده. وفي 30 سبتمبر، أشاد الرئيس أردوغان بزيارة ولي العهد السعودي إلى أنقرة لإجراء مباحثات ثنائية بين البلدين، وقال إنها “رسالة قوية تؤكد تضافر السعودية مع تركيا”. وفي أوائل أكتوبر، وقّعت شركة أرامكو السعودية اتفاقات مع 18 شركة تركية للعمل في مشاريع كبرى خاصة بالبنية التحتية، كجزء من رؤية السعودية 2030.

كذلك رأبت تركيا الصدع في علاقاتها مع دولة الإمارات العربية المتحدة خلال السنة الماضية، رغم الخلافات المستمرة بشأن مصر وليبيا. وفي أبريل، أصبح وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو أول مسؤول تركي رفيع المستوى يزور دولة الإمارات منذ ثلاث سنوات، حيث التقى ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد. وفي اليوم التالي للزيارة، أعلنت دولة الإمارات أنها ستعيد إعادة سفيرها إلى أنقرة بعد غياب دام ثلاث سنوات.

لا شك أن أقوى حلفاء تركيا في دول مجلس التعاون الخليجي هي قطر، كما أنّ الدولتين قد عمّقتا علاقاتهما الاقتصادية والسياسية والعسكرية خلال السنوات القليلة الماضية. وفي العام الماضي، أعلنت تركيا أنها ستبني قاعدة عسكرية في قطر، هي الأولى من نوعها في المنطقة منذ العهد العثماني. وبحسب جيورجيو كافيرو ودانييل واغنر، فإن تعميق الروابط بين تركيا وقطر له دلالة استراتيجية “إذ تواجه الدولتان أعداءً مشتركين، وترعيان نفس الجهات الفاعلة غير الحكومية، ولديهما نفس المواقف حيال العديد من الأزمات الإقليمية، وتتشاركان العديد من الأهداف الطويلة المدى”.

أخيراً، فإن حكومة أردوغان هي أيضاً مسرورة لتصنيف جماعة غولن، عدوها اللدود، كمنظمة إرهابية من قبل دول التعاون الخليجي.

رمال متحركة

كل هذه التغيرات والمراجعة في التحالفات تتزامن مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي تركز على مشاكل الداخل الأمريكي أكثر من أية انتخابات سابقة منذ عقود. وعلينا أن ننتظر لنرى ما إذا كان الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب سيسعى إلى تقليص تدخل بلاده في المنطقة أو سيزيده..

ومهما كانت الظروف، لاسيّما إذا بقيت أسعار النفط منخفضة، فإن روسيا ستواصل سعيها إلى تثبيت نفسها، وستستمر الصراعات في سوريا والعراق واليمن، سيكون حينها على حكام دول مجلس التعاون أن يكونوا أكثر إبداعاً ومرونة في سياساتهم الداخلية والخارجية.

ويجب أن نتوقع المزيد من التغيرات في العلاقات مع الحلفاء والإصلاحات المالية، من أجل تحقيق نتائج أفضل على المستويين الداخلي والخارجي.