Commentary

العلاقات الصينية الهندية: عندما تلتقي آلاف السنين من التعايش السلمي بالمصالح الجيوسياسية الحديثة

Chinese President Xi Jinping (L) and Indian Prime Minister Narendra Modi, arrive for the 'Dialogue of Emerging Market and Developing Countries' on the sidelines of the 2017 BRICS Summit in Xiamen, Fujian province, China, 05 September 2017. REUTERS/Wu Hong/Pool - RC1FB58EB2D0

جذب الخلاف بين الصين والهند حول هضبة دوكلام وتطبيع العلاقات بين الدولتين بعد ذلك في قمّة البريكس الأنظارَ إلى ما قد يصبح إحدى أهمّ العلاقات في النظام العالمي العتيد. ومع أنّ النصف الأخير من القرن الماضي شهد عداءً بين الهند والصين، في إطار آلاف السنين من التبادل الثقافي الحضاري، فهو يعدّ شذوذاً ناجماً عن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية. وقد يؤدّي تعزيز الوعي بهذا التاريخ العريق بين شعبَي هذَين البلدَين إلى خطو خطوة صغيرة نحو التخفيف من حدّة التوترات، في السياقات التي يرغب فيها صانعو السياسات ذلك.

وقد قال الفيلسوف والدبلوماسي الصيني هو شيه ذات مرّة إنّ الهند اجتاحت الصين ثقافياً لمدة عشرين قرناً بدون إرسال أي جندي عبر حدودها. وغالباً ما يتمّ الاستشهاد بهذا القول لتسليط الضوء على التاريخ الغني الذي يربط العلاقات الثقافية بين هاتَين الحضارتَين وليس على أيّ تفوّق قومي. فطوال آلاف السنين، تشاطرت الهند والصين أعرافاً ثقافية عميقة، وجرى ذلك بشكل أساسي عبر الديانة البوذية التي حدّدت معالم المجتمعَين بطرق فريدة. وبعد الاستقلال، تحوّل هذا التاريخ الطويل من التبادل الثقافي السلمي، عن طريق جهد سياسي واعٍ، إلى شعور من التضامن الثنائي، كما لاحظنا في معاهدة “بانشيل”. غير أنّ هذا التضامن تَركّز إلى حدّ كبير بين النخب السياسية ونخب السياسة الخارجية، ولم ينتشر بالقدر نفسه في صفوف الشعبَين الهندي والصيني.

محفّزات التعاون

حتى في يومنا هذا، تبرز قوى كبيرة تحثّ على إحلال السلام والتعاون بين بكين ونيودلهي. وفي بعض النواحي، أدّت العلاقة الاقتصادية المتنامية دور مرساة تمنع العلاقات الاستراتيجية من التحوّل إلى علاقة سلبية. فعلى سبيل المثال، تُعدّ الصين أكبر شريك تجاري للهند. وعلى الصعيد العالمي، للبلدين بعضُ المصالح المتقاربة باعتبارهما دولتَين ناميتَين صاعدتَين زميلتَين، إذ كلتاهما تسعيان إلى الوصول إلى شروط تجارية أكثر إنصافاً، وكلتاهما تدعوان إلى الحصول على نفوذ أكبر في إدارة المؤسّسات العالمية، بما في ذلك المؤسسات الاقتصادية التي تتشاطران تجاهها شكوكاً في أيديولوجيتها النيوليبرالية. وبينما تحافظ الصين والهند على رؤى متباينة، كلتاهما تفضّلان نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب.

محفّزات الصراع

مع ذلك، فإنّ العلاقات متوتّرة بين الدولتين نتيجة عوامل كثيرة تزكي احتمال نشوب الصراعات. وكانت العلاقات الاقتصادية سبباً في التنافس، بما في ذلك عجز الهند التجاري الكبير مع الصين، والنزاعات حول الوصول إلى الأسواق، والمنافسة على الموارد.

وقد نجم تصادم دوكلام الأخير عن خلافات عالقة بشأن الحدود تعود إلى الحقبة الاستعمارية. وتفجّرت هذه الخلافات في حرب عام 1962 عندما شنّت الصين هجمات في لاداخ، ممّا أدّى إلى القضاء على السلام الثنائي، وعلى مثالية رئيس الوزراء جواهر لال نهرو.

وإلى جانب النزاعات الفردية، تعتبر الهند أنّ الصين هي التهديد الخارجي الرئيسي لها. ويتجلّى ذلك بوضوح من خلال برنامج الأسلحة النووية الهندي، إذ كان يهدف بالإجمال إلى الدفاع عن نفسها من الصين أكثر منه من باكستان. فبنظر صانعي السياسات الهنود اليوم، تشكّل هيمنة بكين الاستراتيجية المتعاظمة في آسيا وفي ما هو أبعد من آسيا قوّةً غير معروفة قد تؤثّر على صعود دولتهم. ويتناقض ذلك مع هيمنة الولايات المتحدة في المنطقة، التي على الرغم من الخصومات الماضية، تُعتبر الآن قوّة معروفة. وهي قوّة سهّلت إرساء البيئة المستقرّة عموماً التي سمحت بنمو الهند الاقتصادي منذ التسعينيات. وقد ساهم ذلك في دعم الهند للمواقف الأمريكية في مسائل مثل حرّية الملاحة.

بالإضافة إلى ذلك، لطالما سعت نيودلهي إلى منع القوى الخارجية من الوصول إلى منطقة جنوب آسيا. وتُعتبر شراكة الصين الطويلة الأمد مع باكستان تحدياً لهذا السعي، بما في ذلك الممرّ الاقتصادي بين الصين وباكستان ضمن مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” (One Belt, One Road). وتسعى الهند إلى إقناع الدول الأخرى، على غرار سريلانكا، بالتخلّص من حضور بكين الاستراتيجي على أراضيها أو الحدّ منه، بما في ذلك من خلال التحذير من عبء الديون التي قد ترّتبها المبادرة على هذه الدول. وقد سعت نيودلهي أيضاً إلى بناء علاقاتها مع البلدان المجاورة للصين التي تهدف إلى تعزيز نفوذها في تعاملها مع بكين، ولا سيّما اليابان. وقد تعاونت الهند مع فيتنام في التنقيب عن المعادن في بحر الصين الجنوبي واتّخذت خطوات لبيعها صواريخ براهموس.

وفي المقابل، وعلى مدى عقود، رأت الصين في الهند مصدرَ إزعاج أكثر مما رأت فيها تهديداً، وهي اليوم تعتبرها تهديداً “مشروطاً” نوعاً ما. وفي الأساس، ستشكّل نيودلهي مشكلة لأجندة بكين الاستراتيجية إذا ما تعاونت الهند مع أيّ جهود أمريكية لاحتواء الصين. وتخشى بكين خصوصاً قطع طرقها التجارية في حال نشوب صراع مع واشنطن، إذ قد تضطلع الهند بدور محوري في ذلك نظراً إلى موقعها الاستراتيجي في المحيط الهندي بين الصين ومصادر الطاقة في الشرق الأوسط واحتياطيات الموارد الأفريقية والأسواق الأوروبية. وقد ساهمت هذه المخاوف، فضلاً عن دعم الصين لباكستان، في معارضة بكين لنيودلهي بشأن المسائل الاستراتيجية والرمزية الرئيسية، على غرار طموحات الهند بنيل العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وانضمامها إلى مجموعة المجهزّين النوويين (NSG).

ومع ذلك، لا يعتقد صانعو السياسات الصينيّون أنّ تحالفاً هندياً أمريكياً مناهضاً للصين أمرٌ مفروغٌ منه. ويشير اتجاه مواقف بكين حيال النزاعات إلى أنها تعتبر الهند هدفاً للإقناع والضغط الدبلوماسيين وليس منافساً استراتيجياً قوياً. ففي قمّة البريكس، أدلى الرئيس شي جين بينغ بخطاب مدح فيه الهند بوضوح، وسمح بورود اسم المجموعات الإرهابية الموجودة في باكستان في بيان القمّة.

لماذا إذاً بنت بكين طريقاً في دوكلام وأثارت حفيظة الهند؟ ربّما كان ذلك اختباراً كالذي لجأت إليه الصين في مناطق أخرى متنازع عليها، مثل بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، محاوِلةً تخطّي الحدود لمعرفة ردّ الفعل الذي ستبديه الدول المجاورة ومدى التدخّل الذي ستقوم به الولايات المتحدة. ومن أجل حلّ النزاع، اضطرّت القيادة في بكين إلى إيجاد توازن بين الضرورة السياسية المحلّية القاضية بالحفاظ على مظهر “الدولة غير المتساهلة” ومصلحتها بعدم دفع نيودلهي بشكل مفرط نحو واشنطن. وقد أتى قرار الصين بوقف بناء الطرق قبل قمّة البريكس في مدينة شيامن، ممّا سلّط الضوء على الأهمية التي توليها بكين ليتمّ النظر إليها على أنها قوّة خيرة وقائدة عالمية عتيدة، مع اعتماد دول البريكس كوسيلة رئيسية لتحقيق ذلك.

تسخير الوعي التاريخي

يلقى طموح البلدَين الطاغي بالارتقاء بمكانتهما الدولية الدعمَ من صفات مشتركة بين البلدين. ويشمل ذلك درجة عالية نسبياً من الوعي التاريخي لدى صانعي السياسات والشعب، بما في ذلك أفكار حول “الماضي العظيم قبل الاستعمار” والإذلال في زمن الاستعمار. زد على ذلك أنّ الدولتين كلتيهما تتمتّعان باستمرارية حضارية تفوق غيرها من القوى العالمية الكبرى. وشهدت الثقافات والهوّيات المهيمنة في الهند والصين قدراً أقلّ من التحوّل مقارنة بالحضارات الكبرى الأخرى في منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​والشرق الأوسط. ويحافظ المجتمعان على قيمة التسلسل الهرمي، وتقودهما نخبٌ في السياسة الخارجية اعتنقت هذه القيم في وجهات نظرها الجيوسياسية وفي صنع السياسات. بالتالي، تصعّب هذه السمات المشتركة المصالحة، لأنّ قضايا الأراضي والسيادة زادت من الحساسية.

لكن من جهة أخرى، قد يساعد تركيزُ هذا الوعي حيال آلاف السنين الماضية من التعايش السلمي والتبادل الثقافي صانعي السياسات في البلدين على الحدّ من الحوافز السياسية المحلّية التي تحثّ على العداء عندما يسعون للقيام بذلك. وبطبيعة الحال، من أجل تغيير التصوّرات الشعبية، سيحتاج صانعو السياسات إلى قلْب المقاربة المتّبعة في عصر معاهدة بانشيل في مرحلة ما بعد الاستقلال التي تبداً من أعلى الهرم نزولاً وبذل جهود منسّقة لإشراك الناس العاديين. فإذا رأى الشعبُ الهندي الصينَ في سياق أوسع يشمل روابط مثل اعتناق الصين البوذية الهندية، بدلاً من التركيز حصراً على مصادر العداء الحالية مثل العلاقات الصينية الباكستانية، سيحصل القادة في نيودلهي على مساحة مناورة أكبر في مسائل مثل النزاع الحدودي. وقد اختار مودي بنفسه تعزيز العلاقات عبر الديانتين البوذية والهندوسية في جهوده للتواصل في جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا. ومن أجل تسليط الضوء على العلاقات الثقافية مع شعوب الدول الأخرى، بإمكان نيودلهي وبكين اعتماد عدد من وسائل القوّة الناعمة، على غرار التبادل التعليمي ووسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية والسياحة وزيادة موارد مراكز الدبلوماسية العامة، مثل مراكز نهرو ومعاهد كونفوشيوس.

طبعاً قد تشير القوة الطاغية التي تفرضها المصالح الجيوسياسية المتباينة إلى استمرار خطر الصراع على المدى المتوسط. مع ذلك، قد يطرح بذل الجهود في الاتجاهات المذكورة آنفاً وسيلة واحدة على الأقل للمزيد من الثقة في علاقةٍ هي واحدة من أبرز علاقات القرن الحادي والعشرين.