Commentary

سوريا اليوم وإرث حرب العام 1967

A member of forces loyal to Syria's President Bashar al-Assad stands with a civilian on the rubble of the Carlton Hotel, in the government controlled area of Aleppo, Syria December 17, 2016. REUTERS/Omar Sanadiki - RTX2VH44

يشكل إرث حرب العام 1967 منذ خمسين عاماً عاملاً كلي الوجود في الحوكمة والصراع في الشرق الأوسط. ففي سوريا، يسيطر الصراع الدموي المستمر، والذي أودى بحياة مئات الآلاف وهجّر الملايين، على مجرى الأحداث في المنطقة. وفي حين شهدت المنطقة صراعات كبيرة واضحة لأخرى منذ العام 1967 – كحرب الثمانية أعوام المرهقة بين إيران والعراق في ثمانينيات القرن العشرين، وحرب الخليج في العام 1990 وحرب العراق في العام 2003 – إلا أنّ الصراع في سوريا يختلف عن أي صراع آخر تحكّم بالمنطقة في العقود الأخيرة. فهو يغيّر البنى الإقليمية، إذ تسبب بتهجير ملايين الأشخاص وغيّر ديموغرافية البلاد والدول المجاورة. وتمتد الحرب الطائفية بالوكالة إلى دول أخرى، ما أدى إلى زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكلٍ كبير.

واستمر الكثير مما حصل في العام 1967 وما تلاه مباشرة في تحديد شكل الدولة والمجتمع السوري ومن المرجّح أنه يؤثّر في كيفية تطور السياسات والصراع في الفترة المقبلة.

سوريا في الأمس

للحروب نتائجها: خضعت المنطقة سابقاً لأنظمة كانت طموحاتها كبيرة. وكانت آمال المشروع الناصري والعربي القومي كبيرة بتوفير أيديولوجية موحّدة من شأنها توحيد الأراضي العربية. صحيح أنّ غالباً ما اختلف الزعماء العرب في وجهات نظرهم (ولم تكن العروبة بأي شكلٍ من الأشكال عامل وحدة قوي)، إلا أنهم كان في تصوّرهم نظاماً عربياً يقوّي الرابط السياسي والثقافي الذي يربط مختلف مجتمعات المنطقة، ويرمي إلى إرساء نظام اعتماد متبادل وتعاون في ما بينها.

إلا أن الهزيمة أمام إسرائيل سببت إحراجاً وحالة عدم يقين. فقد تركت ندباً سياسياً على الأنظمة في مختلف أنحاء المنطقة وسببت أزمة شرعية وسلطة داخلية. وتبع هذه الهزيمة حكماً متسلطاً رجعياً وعنيفاً بشكلٍ متزايد لم يهتم بالشعب، الأمر الذي زاد من حدة التصدعات بين الدولة والمجتمع. وخسرت سوريا سيطرتها على هضاب الجولان الحيوية والتي تعطي الجيش السوري نقطة تجعله يتقدم استراتيجياً على الإسرائيليين وقادراً بالتالي على ردعهم بفعالية. على غرار دولٍ أخرى، عانى حزب البعث الحاكم (والذي لم يستلم الحكم إلا قبل أربع سنوات من حرب الأيام الستة) احتجاجات وتحديات؛ بدأ الشعب السوري يفقد ثقته بحكومته، وأكثر بقدرتها على الإبلاغ بصدق عن الأحداث المحلية والإقليمية. واجهت طريقة الحكومة في التعامل مع الحرب الانتقادات، وأدت الاحتجاجات إلى صراع قوى ضمن أعلى مستويات النظام. وفي العام 1970، أوصل انقلاب غير دموي حافظ الأسد (والد بشار الأسد) إلى السلطة وسطّر بداية حكم آل الأسد وسيطرته على الدولة السورية لعقودِ أربعةِ تالية.

أقلّه أظهرت حرب 1967 مواطن ضعف الوحدة العربية، وهي أيدولوجية غالباً ما ظهرت في الخطابات إلا أنها كانت تسقط عند التطبيق. ما إن انهارت الوحدة العربية، وجدت النخب الجو مناسباً وعملياً وشرعياً للسعي وراء تحقيق مصالح الدولة. وبالتالي، غالباً ما ترسّخ مصالح الدولة الإقليمية والأمن القومي الصراع والتوترات بين الأنظمة العربية وبين هذه الأنظمة وبين إسرائيل. وقد تسارع التحول إلى هويات الدولة مع تأطير سوريا لتنافسها مع إسرائيل كشكلٍ من أشكال التحرير القومي. وقدمت سوريا ملجأً لعصابات فلسطينية مشاركة في الحرب؛ وبدت الحرب مع إسرائيل مكلفة جداً بالنسبة للعالم العربي، فتبدلت الاستراتيجية التي توجهت إلى دعم الجهات غير الحكومية والتيارات المسلحة التي يمكنها إضعاف إسرائيل، ولكن يمكن أن تُستخدم أيضاً لتقويض الأنظمة العربية الأخرى.

وفي الوقت الذي أصبحت فيه أنظمة العالم العربي أكثر استقطاباً وشكاً بعضها ببعضها الآخر – وباحثةً عن مصالحها الخاصة – عانت الحريات السياسية والثقافة والابتكار. وعانت كذلك القدرة على بناء أيديولوجية موحِّدة قادرة على تقليل المساحة لنشوء سياسات خصوصية بين الشعوب المضطربة والمتباينة، في سوريا خصوصاً ولكن أيضاً في دولٍ أخرى كلبنان والعراق. سعى نظام حافظ الأسد إلى التعويض عن الفشل في التطوير والإصلاح بالترويج لنفسه كوريث عبدالناصر واستخدم مثال القومية العربية لإخفاء الفروق بين السكان المتباينين في المجتمع السوري. نظرياً، كان الهدف من القومية العربية تنحية أهمية سياسات الطائفة والهوية جانباً، وهو أمر مهم بشكلٍ خاص في سوريا فالأقلية العلوية هي التي تحكم الأغلبية السنية. وتمت بلورة عقيدة حول الأسد هي عقيدة الشخصية التي استخدمت الرمزية الإسلامية لإرساء خطاب من شأنه أن يجذب أغلبية السكان. حجّ حافظ الأسد إلى مكة المكرمة، وانتشرت صور رحلته للتأكيد على ولائه للإسلام (لا سيما في فترة الأزمات)؛ وعرفه مفتي دمشق السني كمسلم أصلي، وغالباً ما كان يعمد إلى الإشارة في خطاباته إلى الجهاد والشهادة، لا سيما عند الحديث عن الحرب والصراع مع إسرائيل.

تمكن مناصرو الإسلام السياسي من الاستفادة في السبعينيات من ضعف الأيديولوجيا القومية العربية والهويات الخاصة التي عانت الحكم الضعيف والتحديات الاقتصادية في السبعينيات بالإضافة إلى الاستقطاب الإقليمي والسخط الشعبي. وقعت مجزرة حماه في سوريا، التي دمرت أكثر من نصف المدينة وأوقعت نحو 25 ألف شخص رداً على انتفاضة الإسلاميين، على خلفية الأزمة الاقتصادية واللامساواة الاجتماعية المتزايدة التي سمحت للمجموعات الإسلامية بالصعود. وكان اللاعبون الإسلاميون فعّالين ليس لقدرتهم على توفير نظرة سياسية بديلة للمحرومين فحسب، إنما كذلك بسبب الدعم الذي حظي بهم خطابهم وأيديولوجيتهم من تيار القومية والظلم الاجتماعي والهوية العربية. وبينما قمع حكم الأسد المتسلط الوحشي هذه المجموعات، وكذلك ناشطي المعارضة عموماً، وُضِع حجر الأساس للبنية التحتية للمعارضة والنشاط الثوري. وساعد على ذلك تنامي أوجه عدم المساواة وأيقظتها مجدداً ثورات الربيع العربي التي قامت في العام 2011.

سوريا اليوم

ستلقي حرب 1967 وموروثاتها الضوء مجدداَ على مستقبل السياسة والصراع في سوريا بعد تحرير الرقة وهزيمة ما يُعرف بالدولة الإسلامية، وفي حال تمّ التوصل إلى تسوية حرب السنوات الستة الأهلية. كما يمكنها أن تذهب إلى أبعد من هذا فتضع خلفية لصراع آخر بين إسرائيل والعالم العربي – إلا أن هذه المرة، قد تكون المواجهة مع محور المقاومة – محور بقيادة إيران ويضم العراق وسوريا وحزب الله بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الميليشيات الشيعية التي انتقلت حالياً إلى سوريا لتحارب إلى جانب نظام الأسد والتي تتمركز عند قاب قوسين من هضاب الجولان. وتؤسس إيران وميليشياتها بالوكالة في سوريا جبهة جديدة في الجولان ويمكنها أن تنظر إلى إسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي كفرصة لتعزيز موطئ قدمٍ لها في سوريا والمنطقة. بعبارة أخرى، بينما قد يوفر الجولان خلفية لصراع آخر، وبينما قد تكون دوافع حرب 1967 حاضرة، تغيّرت طبيعة الصراع والمجموعات التي تواجه إسرائيل تغيراً جذرياً.

ويعكس الائتلاف الذي تقوده إيران لما يُعرف بالمقاومة التغير الذي طرأ على المشهد الجيوسياسي منذ العام 1967. فقد تحوّل من إطار قومي عربي إلى إطار مقاومة إسلامية، بقيادة قوى إسلامية شيعية ترمي إلى نظام إقليمي يختلف فعلياً بشدة عن تطلعات أغلبية العالم العربي (وتركيا)، ويبدو مختلفاً جداً عن المشهد الجيوسياسي الذي ساد الشرق الأوسط في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حين حرّكت القومية العربية العديد من الأحداث الإقليمية.

ومن المفارقات إلى حدّ ما، بينما تعرّض التيار الإسلامي للقمع بوحشية في الماضي، يبدو أن نظام الأسد يجد في المنظور الإسلامي منظوراً مفيداً وقوياً لمحاولة تشريع وجوده في السلطة وتعزيزه، ما إن يتم التوصل إلى تسوية في سوريا. ومن خلال تأطير الصراع مع إسرائيل بهذا الشكل، قد يجد أيضاً فرصةً لتوسيع سلطته لتشمل أجزاء أخرى من البلاد، أجزاء تسيطر عليها حالياً المجموعات المعارضة المتمردة في سوريا. إنّ الفكرة بأن محور المقاومة سيسوي الفوارق الطائفية بين الجهات الإسلامية السنية والشيعية، التي تقاتل اليوم في جبهتي الصراع، هي في الواقع نظرية بعيدة الاحتمال وغير واقعية. ولكن، بشكلٍ أو بآخر، سيكون من شبه المؤكّد أنّ من سيبقى راسخاً بعد انتهاء هذه الحرب الشرسة هم الإسلاميون الذين يقاتلون بشراسة ويملكون موارد كثيرة. وهؤلاء فاعلون لا تتعارض تطلعاتهم وخطاباتهم وقواعد دعمهم بالضرورة مع الصراع مع اسرائيل والعداوة معها. إذ لهم نشاطات وتفاعلات عابرة للحدود ومتعددة الأعراق والطوائف؛ كما أنهم قوى مرنة لا تعتمد على بنى الدولة والسيادة وسيادة القوانين الدولية ولا ترى فيها عائقا.