Commentary

هل الطريق نحو استقرار ليبيا تمرّ عبر القاهرة؟

A boy wearing a Libyan flag takes part in a celebration marking the sixth anniversary of the Libyan revolution, in Benghazi, Libya February 17, 2017. REUTERS/Esam Omran Al-Fetori TPX IMAGES OF THE DAY - RTSZ7CB

تكرّر ذكر ليبيا في نشرات الأخبار في الأسابيع الماضية، لأسبابٍ مروّعة. فمنفّذ تفجير مانشستر، سلمان العابدي وهو بريطاني من أصل ليبي، ويُشتبه في أنه اتجه نحو التطرّف على يد داعش في ليبيا، وأنه ذهب إلى هناك قبل أيام فقط من الاعتداء. وفي مصر، زعمت الحكومة المصرية أنّ الهجوم المميت الذي وقع يوم الجمعة 26 مايو ضد مسيحيين في المنيا، جنوب القاهرة، نفّذه مقاتلون تدرّبوا في ليبيا، وأمرت بتنفيذ ضربات جوّية انتقامية ضد مخيّمات للتدريب هناك. وفي الوقت نفسه، أسفر القتال الأخير بين المليشيات المتناحرة في العاصمة الليبية طرابلس عن مصرع العشرات. كما تترك حالة عدم الاستقرار والصراعات المستمرة في البلد تداعيات محلية وإقليمية ودولية.

بشكلٍ متزايد، يعتبر العديد من العواصم الغربية مصر عنصراً أساسياً لحل الدبلوماسي في ليبيا. ولكن في الوقت الذي قد تقدّم فيه مصر وكلاءها الليبيين، سيكون من الصعب على الأمم المتحدة المساواة بينهم وبين أولئك الذين دعموا وساطتها منذ البداية، والذين تعتبرهم القاهرة إسلاميين إلى حد كبير.

وبعد مرور عام ونصف على توقيع الاتفاق السياسي الليبي برعاية الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات المغربية، أصبحت العملية السياسية في ليبيا بحاجة إلى تحديث. فقد سعى الاتفاق السياسي الليبي إلى إنشاء حكومة وحدة وطنية لكل ليبيا- وها نحن بعد خمس سنوات من الصراع الذي تلى سقوط القذافي، نرى ثلاث حكومات تتنافس على السيطرة. أولاً، حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في طرابلس، بزعامة رئيس الوزراء فايز السرّاج، والتي أثبتت قدراً كبيراً من عدم الفاعلية حتى الآن. وفي الشرق هناك مجلس النواب الداعم لرجله القوي المشير خليفة حفتر، الذي لم يعترف أبداً بالاتفاق السياسي الليبي، في حين ما تزال الحكومة المؤقتة التي يرأسها عبدالله الثني تمارس عملها في هذا الجزء من البلاد. وأخيراً هناك حكومة ثالثة مقرّها طرابلس هي حكومة الإنقاذ الوطني، والتي تمثّل الميليشيات الأكثر راديكالية ضد نظام القذافي، وموالية لمفتي البلاد.

دأبت مصر ودولة الإمارات على دعم حفتر سياسياً ومادياً منذ بداية الصراع. ورغم عدم قناعة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بالمشير، إلا أنّهما أقرّتا أخيراً خلال العام الماضي أنه بسبب ذلك الدعم، يجب أن يكون حفتر جزءاً من الحل، وإلا فلن يكون هناك حل. وبصورة شبه حتمية، كانتا تعتبران مصر الدولة التي تستطيع – بالتعاون مع داعميها الإماراتيين- تقديم حفتر.

وبالتزامن مع تراجع مهمة الأمم المتحدة في ليبيا، اكتسبت الدبلوماسية المصرية زخماً أصبح العديد من العواصم الغربية تعتبره المفتاح لاتفاق جديد. وبالإضافة إلى دبلوماسية القوة الناعمة، أظهرت مصر أن القوة الصلبة مطروحة هي الأخرى على الطاولة وبقوة. فالموجة الثانية من الضربات الجوّية ضد المسلحين، بغضّ النظر عما إذا كانوا متورطين في هجوم المنيا أم لا، هي بمثابة تصعيد في مشاركة الجيش المصري، التي باتت واضحة جداً في ليبيا.

إذا اعتبرنا تدخّل مصر في ليبيا أمراً أساسياً، فالعكس أيضاً صحيح. إذ إنّ ليبيا لها دور محوري في مصالح مصر الأمنية والاقتصادية. وقد ذكر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في كلمته الأخيرة التي ألقاها في الرياض أنّ تفكك مؤسسات الدولة قد أفاد المنظمات الإرهابية، وأنّ مصر تؤيد كلياً الجهود الرامية للحفاظ على وحدة دول المنطقة وسيادتها ووحدة أراضيها. يمكن القول إنّ ليبيا تشغل باله بشدة وإنّ القاهرة تعمل جاهدة لتحقيق نتائج مثمرة. لكن هل تمرّ طريق الاستقرار في ليبيا عبر القاهرة؟

أهمية ليبيا لمصر

تشير تصريحات السيسي إلى مصالح مصر الأمنية والاقتصادية والأيديولوجية في ليبيا.

بالنسبة للجانب الأمني، تسعى مصر لتجنب تفتيت الدولة الليبية ولمحاربة العناصر المتطرّفة هناك، بما في ذلك العناصر التابعة لتنظيميّ القاعدة وداعش. تعاني حدود مصر الطويلة مع ليبيا منذ العام 2011 بمرور الأسلحة والمسلحين والمخدرات فيها جيئة وذهاباً. وفيما تحارب مصر مجموعات مصرية تابعة لداعش في شرق البلاد، إلا أنّ استقرار حدودها الغربية وأمنها أمرٌ في غاية الأهمية. وقد ازدادت صعوبة التحكم بهذه الحدود المفتوحة على مصراعيها، والتي تمتد على مسافة 1,115 كم. ففي العام 2015، قُتل ثمانية سائحين مكسيكيين أثناء قيامهم برحلة سفاري في الصحراء الغربية عندما ظنتهم طائرة مروحية تابعة للجيش المصري مجموعة من المسلحين وأطلقت عليهم النار بالخطأ.

أما بالنسبة للجانب الاقتصادي، فهناك حوالي 750,000 مصري يعيشون ويعملون في ليبيا. ورغم أن هذا الرقم قد تراجع كثيراً عن المليونيّ مصري الذين كانوا يقيمون في ليبيا قبل إسقاط نظام القذافي، إلا أنه لا يزال رقماً كبيراً. كما تخطط شركات النفط المصرية إلى استئناف عملياتها في ليبيا، بما في ذلك استيراد المركبات الهيدروكربونية على نطاق واسع.

الدافع الثالث للقاهرة هو الجانب الأيديولوجي، فبعد الإطاحة بحكومة الإخوان المسلمين في مصر العام 2013 أعلنت القاهرة جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، وهدفت إلى قمع حركتهم في ليبيا أيضاً. وتخشى القاهرة، إذا ما وجد الإخوان المسلمون وغيرهم من المجموعات الإرهابية موطئ قدم قوي لهم في ليبيا، أن تصبح ليبيا ملاذاً آمناً لإخوان مصر (كما هو الحال في تركيا وقطر). وبالنسبة لهذه النقطة الأخيرة بالذات فإن حفتر، الذي اعتبر مؤخراً الانقلاب الذي حدث في مصر العام 2013 مصدراً للإلهام، هو حليف طبيعي. فهو منذ البداية وضع المعركة ضد الإخوان المسلمين ضمن إطار مكافحة الإرهاب على نطاق واسع.

رجلنا في ليبيا

تقدم حفتر للصدارة من خلال شنّه حرباً على الإسلاميين على تنوع أشكالهم في شرق ليبيا. وبسبب التوافق الأيديولوجي، راهنت مصر ودولة الإمارات على حفتر وعلى الجيش الوطني الليبي التابع له. كما يوفّر حفتر إمكانية تحقيق الاستقرار إلى حد ما، لذا لم يكن أمام القاهرة خيار أفضل من دعمه رغم سأمها من عدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته.

وبفضل الدعمين المصري والإماراتي، تحسّنت حظوظ حفتر العسكرية في العام 2016. إذ سيطر الجيش الوطني الليبي على معظم بنغازي، وأحرز تقدماً في منطقة الهلال النفطي، وهي منطقة حيوية غنية بالموارد تقع إلى الشرق من سرت. وقد حاولت مصر الاستفادة من هذا التوازن الجديد في القوى من خلال الدبلوماسية وذلك بعقد اجتماع مع أعضاء من مجلس النواب الليبي في ديسمبر 2016.

تضمن “إعلان القاهرة” الذي نتج عن الاجتماع العناصر الرئيسية لما يمكن أن يصبح قريباً خارطة طريق لليبيا مؤيَّدة من قبل الأمم المتحدة. طالب الإعلان بالحصول على تفويض من مجلس النواب ومن المجلس الأعلى للدولة، ومقرّه طرابلس، للموافقة على تقليص عدد أعضاء مجلس الرئاسة من تسعة إلى ثلاثة، وتسريع الموافقة على دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في أوائل العام 2018.

من جانبه، رفض حفتر الجلوس مع السرّاج في القاهرة في فبراير 2017، رغم الضغط الكبير الذي مارسه الجانب المصري. لكن في 2 مايو حدث ما سُمّى بتقدّم مهم حين التقى الرجلان في أبو ظبي. وقد أشادت مصر ودولة الإمارات بهذا اللقاء واعتبرته دليلاً على قرب التوصّل إلى اتفاق جديد. ويرغب الكثيرون في العواصم الغربية بتصديق ذلك أيضاً.

ترامب ضد الإسلاميين

لقد أسهم انتخاب دونالد ترامب في تغيير موازين القوى في ليبيا. فقد أحضر ترامب معه إلى السلطة زمرة من المستشارين الملتزمين بمحاربة الإسلاميين فوق أي اعتبار آخر في المنطقة. وهذا بدوره أنعش آمال حفتر والكثير من أعضاء معسكره بأن المشير الليبي سيكون محور تقاربٍ جديد بين مصر ودولة الإمارات والولايات المتحدة الأمريكية، باسم مكافحة الإسلاميين من كل التوجّهات، سواء أكانوا متطرّفين أم معتدلين.

ينظر عدد من أعضاء الدائرة المقرّبة من الرئيس ترامب، مثل ستيف بانون، إلى الإخوان المسلمين بعدائية منذ سنوات، ويشككون في أنهم يقومون بدور حصان طروادة لتحويل الولايات المتحدة إلى “الولايات الإسلامية الأمريكية”. وكان الأمر التنفيذي بتسمية جماعة الإخوان المسلمين مجموعة إرهابية قد بدأ يتبلور في البيت الأبيض- ورغم أنه وُضع جانباً في الوقت الحاضر، لأنه يهدد بإبعاد بعض الحلفاء الإقليميين، إلا أن الإدارة تنظر إلى العناصر الفاعلة السياسية الإسلامية وداعميها بالمزيد من العداء.

تحاول حركة حماس، وهي الجناح الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، جاهدة التنصّل من هذه التسمية وفك ارتباطها بنظيرتها في مصر. لكنها مع ذلك وجدت نفسها على خط النار. فقد طُرح مشروع قانون جديد في مجلس النواب الأمريكي يهدد بفرض عقوبات على الدول المؤيّدة لحماس، مثل قطر. وفي مؤتمر عُقد مؤخراً في واشنطن، ذكر وزير الدفاع الأسبق روبرت غيتس أنّ قطر تخاطر بالتعرّض لعقوبات أمريكية إذا ما واصلت دعمها لجماعة الإخوان المسلمين وحماس. وبالعموم، فإن هناك تصلّباً في موقف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه كل الإسلاميين، ما يعني أنه بالنسبة لليبيا فإن هناك توافقاً في المصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة ومصر ودولة الإمارات العربية من جهة أخرى.

علاوةً على ذلك، من المحتمل أن يسرّع هجوم مانشستر هذا التحرّك الغربي لجعل الجيش الوطني الليبي التابع لحفتر شريكاً يمكن الاعتماد عليه في مكافحة الإرهاب. وقد أشارت الإدارة الفرنسية الجديدة بالفعل إلى أن أولويتها تكمن في بناء جيش ليبي، وأنّ هذا يجب أن يشمل حفتر. ولا يزال السؤال ما إذا كان هذا التحوّل المؤيد للجيش الوطني الليبي سيؤدي إلى اتفاق جديد وشامل، بانتظار الإجابة.

ماذا الآن؟

في الوقت الذي أثار فيه اجتماع حفتر والسرّاج آمالاً كبيرة على الصعيد الدولي، فقد ظهرت ردود فعل متباينة تجاهه في ليبيا. فميليشيات مدينة مصراتة، التي تعتبر الداعم الرئيسي للسرّاج، والتي حاربت داعش في الماضي، منقسمة الآن. ينحاز البعض بشكلٍ متزايد إلى حكومة الإنقاذ الوطني الخصمة في طرابلس، وهي ائتلاف مكوّن من متطرفين مدعومين من المفتي الغرياني. ومن الواضح الآن أن هذا الائتلاف سوف يعارض أي تقدم يقوم به السرّاج في حواره مع حفتر، الأمر الذي يهدد توازن القوى الهش في طرابلس.

بالنسبة لجميع القوى تقريباً المتواجدة في غرب ليبيا، حيث تعيش غالبية الليبيين، هناك خطّان أحمران في المحادثات الحالية. الأول، وهو أنّ الجيش يجب أن يكون تحت إشراف مدني، إذ لا يمكن للجيش أن يتألف فقط من الجيش الوطني الليبي التابع لحفتر. والثاني، وأقل وضوحاً، وهو أن الاتفاق يجب أن يتضمن أيضاً قوى يعتبرها حفتر والمصريون “من تيار الإسلام السياسي”. ومن غير المرجّح أن يُفلح الضغط الدولي على طرابلس ومصراتة في إزالة هذين الخطين الأحمرين.

أما مهمة سبر هذا الحقل من الألغام فمتروكة للأمم المتحدة. إذ مهّدت مصر الطريق أمام مبادرة دبلوماسية جديدة، لكن يجب على الأمم المتحدة الآن أن تحوّل هذه المبادرة إلى عامل استقرار وليس إلى محفّز صراع جديد في النصف الغربي الآمن نسبياً من ليبيا. ويكمن التحدي في إشراك حفتر من دون فقدان غالبية مصراتة وطرابلس. وفي نهاية المطاف، فإنه يتوجّب على الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتيرس وعلى الممثل الخاص الجديد الذي سيقوم بتعيينه قريباً، أن يوسّعا قاعدة الدعم لاتفاق القاهرة بحيث يشمل شرق ليبيا، لا أن ينقلا مركزه من طرابلس إلى مرج حيث يوجد مقرّ حفتر.

وفي النهاية، فإن طريق الاستقرار في ليبيا تمرّ عبر القاهرة بالفعل، ولكن أيضاً عبر نيويورك وبروكسل وأبوظبي وواشنطن وموسكو- والأهم هو أنها تمرّ عبر طرابلس ومصراتة. من المهم جداً تحقيق تسوية إقليمية ودولية من أجل الاستقرار لكن التسوية الليبية هي الأهم. فالاتفاق المبني على “استقلال” الجيش عن الحكومة المدنية (كما يصرّ حفتر) واستبعاد القوى التي تعتبرها القاهرة “من تيار الإسلام السياسي” من غير المرجّح أن يحصل على دعم الفصائل الرئيسية في غرب ليبيا. وفي النهاية، فإن هذا الغموض في الخطة المصرية قد يعرّض الاتفاق الأساسي بين القوى المحلية في طرابلس ومصراتة ومرج للخطر، ويجعل أي اتفاق للاعبين خارجيين هشاً في أحسن الأحوال.

مع أن الاجتماع في أبو ظبي أثار آمالاً نحو الانفراج في عدد من العواصم الغربية، إلا أن نجاح الوساطة المصرية (والإماراتية) غير محتمل، ما لم تكن هاتان الدولتان ووكيلهما الليبي خليفة حفتر جاهزين لتسوية حقيقية. وهذه التسوية يجب أن تشمل قضايا حساسة مثل إشراك كافة العناصر الفاعلة في الإطار السياسي والإشراف المدني على الجيش. إذا تم التغاضي عن هذه الأمور فستستمر الاضطرابات، بل ربما تتصاعد وتكون جزءاً دائماً من المشهد الليبي.