Commentary

التكامل الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عصرٍ من التفكّك

Containers are seen at a port terminal in Bizerte, Tunisia, March 27, 2018. Picture taken March 27, 2018. REUTERS/Zoubeir Souissi - RC1740C51860

لم تلحق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بركاب التكامل الاقتصادي مع باقي العالم. فتستأثر هذه المنطقة بنسبة 5,5 في المئة من سكّان العالم و3,9 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، لكنّ حصّتها من التجارة العالمية غير النفطية تبلغ 1,8 في المئة، لترتفع إلى 6,2 في المئة عند ضمّ النفط. وتحُول طبيعة القطاع النفطي، مع توزّعه غير المتساوي، والسياساتُ الحمائية الأوسع دون تحقيق النمو الأعلى والتوظيف المنتج اللذَين تتحلّى بهما دولٌ بأنظمة تجارة واستثمار ليبرالية، ولا سيّما تلك التي في شرق آسيا.

وقامت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعدّة محاولات للتكامل ضمن المنطقة. فقد أنشئت الجامعة العربية لتنسيق التعاون بين الدول العربية في العام 1945، أي قبل استقلال معظم الدول الأعضاء الـ22. وفي العام 1997، طرحت الجامعة العربية منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى (GAFTA)، وتمّ الاتفاق في العام 2011 على إلغاء معظم التعريفات الجمركية بحلول العام 2005. وتمّ تحقيق بعض النجاح، إذ ارتفعت التجارة بين الدول الأعضاء بنسبة 20 في المئة بين العامين 1998 و2012، لكن بالكاد أثّر ذلك في الاقتصادات الإقليمية.

وكانت للاتفاقات دون الإقليمية آثارٌ متفاوتة. فبقي اتّحاد المغرب العربي (1989) الذي ضمّ خمس دول شمال أفريقية غيرَ فعّال، ويُعزى ذلك بالإجمال إلى التوتّر في العلاقات بين الجزائر والمغرب. كذلك، خيّبت الآمالَ اتفاقيةٌ مع الاتحاد الأوروبي واتفاقيةُ أغادير لتأسيس منطقة تجارة حرّة بحلول العام 2007 بين مصر والأردن والمغرب وتونس، على أن تضمّ لاحقاً لبنان وفلسطين. وكان مجلس التعاون الخليجي المشروع الأنجح مع وحدة جمركية وشبكة طاقة كهربائية مشتركة، لكنّه فشل في مواءمة النظام الضريبي وتأسيس عملة موحدة. وحالياً، مع فرْض البحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حصاراً على قطر، لا شكّ في أنّه تقهقر. وتمّ التوقيع على عدّة اتفاقات ثنائية بين دول عربية فردية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتركيا، فضلاً عن دول أخرى ودول عربية أخرى.

فما الخطب الذي حدث؟ يقول شانتا ديفاراجان، كبير الخبراء الاقتصاديين سابقاً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي إنّه ربّما تمّ الإفراط في الادّعاءات حول منافع التكامل الإقليمي. ويوضح قائلاً: “ركّزت أكثرية الدراسات على التكامل التجاري، أي المنافع التي تستقيها دول في (منطقة واحدة)… من ممارسة التجارة مع بعضها”. بيد أنّ “للتكامل التجاري منفعةَ خلق التجارة، بما أنّ الدول تتاجر أكثر، ومشكلةَ تحويل التجارة، إذ تتاجر البلدان ضمن الكتلة التجارية التي تنتمي إليها بينما من الأنفع أن تُتاجر مع باقي العالم”. وتكمن المكاسب الكبيرة في التكامل أكثر مع أوروبا والولايات المتحدة وليس في ما بينها. وقد حاولت عدّة دول اعتماد هذين المسارين لكنّ جهودها لم تكلّل سوى بنجاح محدود.

بعيداً عن الحجج الاقتصادية، أدّت السياسة دوراً حاسماً في سجلّ الإنجازات المخيّب للآمال. وقد لام بعضهم التدخل الخارجي للحؤول دون التكامل. أما العوامل الأخرى فهي أقلّ غموضاً، ومنها الانشقاقات بفعل الحرب الباردة والحروب مع إسرائيل. وتابعت الصراعات الراهنة في العراق وليبيا وسوريا واليمن المنحى الذي بدأته النزاعات المناهضة للاستعمار في الخمسينيات والحرب الأهلية في اليمن في الستينيات والصراعات في الصحراء الغربية والحروب الأهلية في الجزائر ولبنان واليمن (من جديد) والحرب بين العراق وإيران والحروب بقيادة الولايات المتحدة على العراق وغيرها من الحروب المتفاوتة الحدّة. فقد قسّم كل صراع المنطقة وحوّل التركيز بعيداً عن الاقتصاد والحلول الإقليمية الفعّالة.

وتواجه مسألة التكامل تحديات تتخطّى الصراعات. فصحيح أنّ متوسّط التعريفات الجمركية في المنطقة قد انخفض، لكنه لا يزال مرتفعاً نسبة إلى شرق آسيا والأمريكيتين وأوروبا. وتضع الإجراءات العالية غير الجمركية عوائق أكبر. وتبقى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واحدة من أكثر المناطق التقييدية في تجارة الخدمات، وهو قطاع يشهد النمو الأسرع عالمياً. وتعيق تكاليف النقل العالية والعوائق التقنية التقدّم، وعلى الرغم من التطوّر في الخليج وغيره من المناطق، تعتبر اللوجستيات متأخّرة، ولا سيما عندما يتعلّق الأمر بخفض كلفة التجارة عبر الحدود. ومن العوائق الأخرى أيضاً غياب المعايير المشتركة والروتين الإداري. وغالباً ما تضاف إلى هذه التحديات اقتصاداتٌ حمائية بنظرة موجّهة إلى الداخل، مع موظّفين في القطاعين العام والخاص يحمون “أسواقهم”، فيحُولون بذلك دون تنافسية السوق، وهي عنصر أساسي للانفتاح على الخارج.

بالتالي، يبدو التقدّم في مسألة التكامل الاقتصادي الإقليمي تحدياً مهولاً. بيد أنّ الفكرة لم تفقد جاذبيتها، وما زالت الجهود مستمرة. ففي مارس 2019، أقام صندوق النقد العربي مؤتمراً حول التكامل المالي الإقليمي. وفي فبراير 2019، أصدر صندوق النقد الدولي تقرير “التكامل الاقتصادي في المغرب: مصدر نمو غير مستغلّ”. وتجري جهود أخرى أيضاً. ويحرص الوعدُ بنيل المكاسب الاقتصادية والمؤسساتُ العربية الكثيرة بأن يبقى التكامل الاقتصادي على جدول الأعمال في المستقبل المنظور.

وبالفعل، مجالات التقدّم متاحة، وترتكز كلّها تقريباً على عمل سابق أو جارٍ. فالترابط في مجال الطاقة الكهربائية مجال واعد لنيل المزيد من الترابط، شأنه شأن الجهود المشتركة حول مسألتي المياه وتغيّر المناخ المهمّتين. وتشكل المواءمة في الأنظمة التعليمية والمعايير التي تطال الخدمات وصولاً إلى البضائع عملاً جارياً على قدم وساق. ومن المجالات الناشئة تنظيم التقنيات الرقمية والاقتصاد الجديد، بما في ذلك وضع نظام ضريبي لها. ويمكن العمل على تحرير أسواق العمل، ويمكن كذلك تحقيق إنجازات سهلة المنال ترتكز على قرارات سياسية، مثل السماح للشركات الخاصة بمتابعة التجارة على الرغم من التوتّرات السياسية. وهذا ليس بمستحيل، إذا تحافظ إسرائيل وتركيا على تجارة ناشطة، على الرغم من الاختلافات السياسية الحادة، شأنهما شأن مصر وتركيا.

وتبرز بعض الفرص الأخرى أيضاً. فيمكن أن يحدّ الإنتاج عبر الدول والأثر المتنامي لسلاسل القيمة العالمية من تحويل التجارة المرتبط عادة باتفاقات التجارة الإقليمية. لكن ليحدث ذلك ينبغي اعتماد التعريفات الجمركية المنخفضة والاقتصادات المفتوحة المرتبطة بسلاسل القيمة العالمية. وتبرز احتمالات بتكامل أوثق مع مناطق أخرى، إذ ينظر الكثير من الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أفريقيا جنوب الصحراء بعين الاهتمام.

وتشكّل استمرارية فكرة التكامل الإقليمي شهادة على اقتناع المنطقة العميق بأنّ الكثير من الدول والمجموعات المختلفة يمكنها الالتفاف حول أهداف ومنافع اقتصادية مشتركة.

Authors