Research

التنويع الاقتصادي في الخليج: آن الأوان لمضاعفة الجهود

An oil tanker is being loaded at Saudi Aramco's Ras Tanura oil refinery and oil terminal in Saudi Arabia May 21, 2018. Picture taken May 21, 2018. REUTERS/Ahmed Jadallah

المقدّمة

لقد عادت مسألة التنويع الاقتصادي لتصبح من جديد مسألة ملحّة في الدول الخليجية العربية. فقد أدّى التباطؤ الاقتصادي العالمي الذي سبّبته جائحة فيروس كورونا المستجدّ إلى انخفاض أسعار خام برنت من 64 دولاراً للبرميل في بداية العام 2020 إلى 23 دولاراً في أبريل  2020 (راجع الرسم البياني رقم 1) .ومن المتوقّع أن تبقى أسعار النفط تحت 50 دولاراً للبرميل حتّى أواخر العام 2022. وقد وضع ذلك ضغطاً كبيراً على المواقف المالية لدول مجلس التعاون الخليجي، التي من المتوقّع أن تشهد عجوزات في الموازنة معدّلها 9,2 في المئة في العام 2020 و5,7 في المئة في العام 2021.

Nader & Nejla_Arabic_Figure 1

وقد ساور دول مجلس التعاون الخليجي القلق حيال استدامة عائداتها من الهيدروكربون طوال عقود. فعلى المدى الطويل، ستنفد احتياطات النفط والغاز في نهاية الأمر. والبحرين وعمان هما في الوضع الأصعب، إذ من المتوقّع أن تنفد الاحتياطات في غضون العقد المقبل لدى البحرين وفي غضون 25 سنة لدى عمان. وعلى المدى المتوسّط، من المتوقّع أن تنخفض العائدات من النفط إزاء التراجعات في الطلب العالمي ابتداء من العام 2040 تقريباً، إن لم يكن قبلاً. وسيكون السبب ارتفاع الطلب الأعلى على الطاقة المتجدّدة والتحسينات في كفاءة الطاقة وتخزينها. وعلى المدى القصير، سبق أن بدأت دول مجلس التعاون الخليجي بالاستعانة بأصول مالية بقيمة ألف مليار دولار راكمتها على مدى عقود واستثمرتها في صناديق الثروة السيادية للأجيال المقبلة (راجع الرسم البياني رقم 2). وقد قدّر صندوق النقد الدولي قبل الجائحة أنّه في حال لم تطبّق دول مجلس التعاون الخليجي إصلاحات مالية واقتصادية جوهرية، سوف تستنفد ثروتها المحفوظة بحلول العام 2034. وعلى الأرجح أنّ الجائحة قصّرت من هذه المدّة.

Nader & Nejla_Arabic_Figure 1

ولطالما حثّ الهبوط المتوقّع في احتياطات الهيدروكربون وعائداتها دولَ مجلس التعاون الخليجي على تنويع اقتصاداتها عبر تطوير قطاعات

إنتاجية خارج قطاع النفط والغاز. لكن ما زال نشاط القطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي يعتمد بشدّة على الاستهلاك والمشاريع التي تموّلها الحكومة والتي تدعمها في النهاية عائدات النفط والغاز. وينبغي على صانعي السياسات في دول مجلس التعاون الخليجي تخطّي هذه الشوائب التي واجهتها جهود التنويع السابقة وإنشاء تحفيزات لتنمية اقتصادية حقيقية لا تعتمد على قطاع النفط والغاز، بشكل مباشر أو غير مباشر. وينبغي على دول مجلس التعاون الخليجي أيضاً تنويع مصادر عائداتها عبر تعزيز صناديق الثروة السيادية وتفادي المشاريع التي تتطلّب دعماً أو إعانات حكومية مستمرّة، علماً أنّ الكثير من المشاريع الضخمة المموّلة من الحكومات هي مشاريع تفاخرية تندرج ضمن هذه الفئة. أخيراً، ينبغي على دول مجلس التعاون الخليجي أن تُشرك مواطنيها بشكل وثيق أكثر في جهود تنويع الثروات والاقتصاد. وينبغي أن يشمل ذلك التشجيع على الادّخار والاستثمار على المستوى الفردي.

وقد قدمت مراكز البحوث والمنظّمات الدولية والشركات الاستشارية الكثير من التوصيات حول السياسات التي يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي تطبيقها لتنويع اقتصاداتها والتحضير لمستقبلٍ بعد مرحلة الهيدروكربون. لكن غالباً ما لم تعالج هذه التوصيات الوقائع السياسية الاقتصادية للعقد الاجتماعي الحاكم الذي تعتمد فيه حكومات دول مجلس التعاون الخليجي على قنوات اقتصادية محدَّدة لتحويل ثروة الهيدروكربون إلى مواطنيها. وغالباً ما تقف هذه القنوات عثرة أمام الإصلاحات اللازمة. ويهدف هذا الموجز بشأن السياسات إلى عرض الإصلاحات الاقتصادية التي على دول مجلس التعاون الخليجي تطبيقها بغية تنويع اقتصاداتها وتعزيز النموّ المستدام، مع الأخذ بعين الاعتبار القيود التي يفرضها العقد الاجتماعي الحاكم.

ريوع الموارد: نعمة وتحدٍّ

لقد نُعم على دول مجلس التعاون الخليجي بوفرة الموارد الطبيعية، فاستثمَرت الدول هذه الثروة لتحسين حياة مواطنيها وتطوير البنى التحتية والتحضير لمستقبلٍ خالٍ من النفط. وقد حقّقت دول مجلس التعاون الخليجي تقدّماً كبيراً في الوصول إلى الهدفَين الأوّلين، إذ شيّدت مدناً عصرية والبنية التحتية لخدمتها، مؤمّنة بذلك أساساً متيناً للتنمية الاقتصادية المستقبلية. وتتحلّى هذه الدول كافّة بتصنيفٌ يفوق 0,8 في مؤشّر التنمية البشرية، ممّا يضعها في الطليعة بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كلّها وعلى قدم المساواة مع بعض الدول في الاتّحاد الأوروبي.

بيد أنّ دول مجلس التعاون الخليجي واجهت الصعاب لتحقيق التقدّم نحو الهدف الثالث، أي تنويع اقتصاداتها. ومع أنّ هذه النوايا تنعكس في رؤياها الوطنية وخططها للتنمية الاقتصادية،تبقى اقتصادات مجلس التعاون الخليجي متشبّثة في اعتمادها على الهيدروكربون. وللحدّ من هذا الاعتماد أبعادٌ متعدّدة. أولاً، يتطلّب الأمر استبدال إنتاج النفط والغاز بإنتاج السلع والخدمات التي لا تعتمد على قطاع النفط والغاز، بشكل مباشر أو غير مباشر. ويتطلّب أيضاً استبدال عائدات الحكومة الآتية من النفط والغاز بعائدات من مصادر أخرى، مثل الضرائب على الاستهلاك والقطاعات غير النفطية، لكن ليس إلى حدّ يجعل هذه القطاعات الناشئة معرقَلة وغير تنافسية. بالتالي، لتحقيق النجاح، يتطلّب التنويع مكوّنات أساسية أخرى، منها التخفيف من الإنفاق الحكومي وزيادة الصادرات غير النفطية وزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر.

وفيما حقّقت دول مجلس التعاون الخليجي بعض التقدّم في العقد المنصرم (راجع الرسم البياني رقم 3)، ما زال إنتاج النفط والغاز يمثّل أكثر من 40 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في معظم تلك الدول، باستثناء الإمارات العربية المتّحدة (30 في المئة) والبحرين (18 في المئة). ومع ذلك، معظم النشاطات الاقتصادية الأخرى في المنطقة، مثل البناء وتطوير البنى التحتية، مدعومة مباشرة بعائدات النفط والغاز. أما في حالة البحرين، فيستأثر النفط بنسبة صغيرة من الناتج المحلّي الإجمالي لأنّ البلاد استنفدت عموماً احتياطاتها النفطية. بيد أنّ النفط ما زال يدعم نشاطها الاقتصادي بشكل غير مباشر من خلال التحويلات والإنفاق من الدول المجاورة. على نحو مماثل، فيما شهد تنويع العائدات الحكومية تحسينات، يستأثر الهيدروكربون بنسبة 70 في المئة أو أكثر من مجموع العائدات (راجع الرسم البياني رقم 4)، باستثناء المملكة العربية السعودية (68 في المئة) والإمارات العربية المتّحدة (36 في المئة). مع ذلك، يأتي كذلك الكثير من مصادر العائدات المتنوّعة في هذَين البلدين من النشاطات الاقتصادية المدعومة من قبل النفط والغاز.

Nader & Nejla_Arabic_Figure 3Nader & Nejla_Arabic_Figure 4

وتنتج الدول الخليجية سلعاً وخدمات داخل حدودها، وذلك بشكل أساسي للاستهلاك المحلّي. وتشمل هذه المنتجاتُ والخدماتُ المنتجاتِ الزراعية والمنتجات المصنَّعة وخدمات الأعمال. بيد أنّ السلع والخدمات المصنوعة محلّياً لن تستبدل قريباً الكمّية الكبيرة من السلع والخدمات المستوردة اللازمة لإعالة 27 مليون مواطن و29 مليون عامل أجنبي يعيشون في المنطقة. علاوة على ذلك، يتطلّب التنويع الاقتصادي الحقيقي إنتاج سلع وخدمات، غير الهيدروكربون ومشتقّاته، يمكن المتاجرة بها مع باقي العالم. وفي هذا المجال، ما زال الطريق طويلاً أمام الدول الخليجية. ففي العام 2018، شكّل الهيدروكربون والمنتجات المرتبطة به أكثر من 90 في المئة من الصادرات الإجمالية في الكويت وقطر وأكثر من 80 في المئة من الصادرات الإجمالية في المملكة العربية السعودية وعمان وأكثر من 50 في المئة من الصادرات الإجمالية في الإمارات العربية المتّحدة والبحرين (راجع الرسم البياني رقم 5).

Nader & Nejla_Arabic_Figure 5

ويشكّل الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي يعكس رغبة الكيانات الأجنبية في الاستثمار في بلد ما، مؤشراً آخر للتنافسية المحتملة لاقتصاد معيّن. والاستثمار الأجنبي المباشر متأخّر أيضاً في دول مجلس التعاون الخليجي. فبين العامَين 2015 و2019، استقطبت الإمارات العربية المتّحدة وعمان وحدهما تدفقات استثمارات أجنبية مباشرة (كحصّة من الناتج المحلّي الإجمالي) أعلى من المتوسّط العالمي البالغ 2,5 في المئة. فلم تبلغ التدفّقات الصافية من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مجلس التعاون الخليجي ككلّ سوى 1,1 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي. ويمثّل هذا الرقم أقلّ من نصف المتوسّط العالمي وأقلّ بثلاثة أضعاف تقريباً من تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الاقتصادات العالية الدخل (راجع الرسم البياني رقم 6).

Nader & Nejla_Arabic_Figure 6

وتشكّل بيئة الأعمال الضعيفة في معظم دول مجلس التعاون الخليجي جزءاً من السبب خلف تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر المنخفضة إلى هذا الحدّ. فمن الصعب على الشركات التي لا صلات لها بالمطّلعين دخول السوق والمنافسة فيها. علاوة على ذلك، غالباً ما تجري التعديلات في السياسات على أساس مرتجَل بدون إنذار أو مراجعة. وقد تشمل هذه التعديلات الحدّ من تراخيص العمل من دول معيّنة والحدّ من تحويل الأموال إلى الخارج وقطع العلاقات الاقتصادية مع الدول المجاورة. ويزيد هذا الغموض في السياسات من الخطر للشركات الدولية، وحتّى المحلّية، التي ترغب في الاستثمار في المنطقة. فعندما كانت دول مجلس التعاون الخليجي تحقّق مداخيل فائضة من النفط والغاز، كانت تتحلّى برفاهية اتّخاذ قرارات اعتباطية بشأن السياسات وحتّى ارتكاب أخطاء مكلفة في السياسات. بيد أنّ الوقائع المالية الأضيق في المرحلة الراهنة تفرض عليها أن تكون أكثر استجابة لحاجات المستثمرين ومخاوفهم.

ويبقى العنصر الأساسي للتنويع الاقتصادي تطوير القطاعات غير النفطية التي تستطيع اقتصادات مجلس التعاون الخليجي المنافسة فيها. ومع أنّه من غير الواضح ما قد تكون هذه القطاعات، فإن هذا سؤال تصعب الإجابة عنه من دون المحاولات والوقوع في الأخطاء. وفيما من المستبعد أن تصبح دول مجلس التعاون الخليجي تنافسية في القطاع الزراعي، يمكن أن يكون ذلك مصدرَ بديلٍ عن الاستيراد. ويعتَبر التصنيع قطاعاً واعداً، لكن على دول مجلس التعاون الخليجي بناء البنى التحتية وإنشاء المناطق الحرّة لتنافس المصنّعين المنخفضي الكلفة في آسيا. وقد جعلت دبي نفسها مركزاً للخدمات المالية واللوجستية والأعمال في المنطقة، وهذا أمر كان يصعب تصوّره منذ خمسين سنة. فهل تستطيع المنطقة استيعاب مراكز أخرى كهذه؟ ترغب أكثرية دول مجلس التعاون الخليجي في إنشاء اقتصادات معرفة متقدّمة التكنولوجيا، لكنّ ذلك يتطلّب مستوى من المهارات ومراكزِ البحوث ما زال غير متوفّر بكثرة. وقد تتمكّن دول مجلس التعاون الخليجي من بناء منظومة تكنولوجية تنافسية عبر استيراد المواهب من دول عربية وآسيوية أخرى. وقد بدت السياحة قطاعاً واعداً في عمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة، فيما تحاول قطر جعل نفسها مركزاً للسياحة الثقافية والرياضية. ويمكن أن يشكّل العمل المصرفي الإسلامي مجالاً قد تتحلّى فيه دول مجلس التعاون الخليجي بأفضلية تنافسية.

ويتطلب التنويع الاقتصادي الناجح والنمو الاقتصادي المستدام بناءَ قطاعات مستقلّة فعلاً عن النفط والغاز. فعلى مرّ الزمن، مع انخفاض عائدات النفط والغاز، بإمكان هذه القطاعات المستقلّة التوسّع مع ابتعاد النشاط الاقتصادي عن القطاعات المدعومة بالهيدروكربون. وترتكز القدرة على إنشاء قطاعات مستقلّة على ثلاثة أسس: (1) اعتماد إطار عمل مالي يخصِّص عائدات النفط والغاز للريوع القصيرة الأمد أو للاستثمارات الطويلة الأمد مع الحد الأدنى من التشوهات الاقتصادية و(2) تمكين قطاع خاص موجّه نحو التصدير لا يعتمد على النفط والغاز لكي ينمو ويزدهر و(3) بناء يد عاملة قادرة ومحفَّزة خارج القطاع العام تتضمّن روّاد الأعمال. وقد حقّقت الدول الخليجية بعض التقدّم في هذه الجبهات الثلاثة كلّها، بيد أنّها مالت أكثر إلى السير بإصلاحات جزئية تعطي الانطباع بالتنويع الاقتصادي، لكنّها في الواقع تستمرّ بالاعتماد إلى حدّ بعيد على العائدات من الغاز والنفط.

عجلة جهود التنويع تتحرّك

سعت حكومات مجلس التعاون الخليجي إلى تنويع اقتصاداتها عبر دعم القطاعات التي غالباً ما تعكس تفضيلات صانعي السياسات أكثر منها مكامن القوّة التنافسية لاقتصاداتها. بيد أنّ معظم دول مجلس التعاون الخليجي أدركت أنّ نماذج التنويع هذه هي بحدّ ذاتها غير مستدامة وبدأت بإتاحة المجال أمام تطوير حقيقي للقطاع الخاص. وكانت البحرين في طليعة هذه الجهود في البداية، إذ لديها مستوى احتياطات النفط الأدنى في مجلس التعاون الخليجي. بيد أنّ إمارة دبي، التي لديها أيضاً مستويات محدودة من الاحتياطات، تفوّقت على البحرين وفتحت الباب أمام باقي الإمارات العربية المتّحدة. وتقود الإمارات العربية المتّحدة الآن دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى من ناحية تأمين بيئة ممكِّنة للأعمال وريادة الأعمال. مثلاً، على مدى العقد المنصرم، حقّقت كلّ دول مجلس التعاون الخليجي تقدّماً من ناحية سهولة البدء بنشاط تجاري في مؤشّر البنك الدولي لسهولة ممارسة أنشطة الأعمال (راجع الرسم البياني رقم 7).

Nader & Nejla_Arabic_Figure 7

وطوّرت الدول الخليجية مقاربات أكثر شمولية لجهود التنويع التي تبذلها في السنوات الأخيرة الماضية. فقد أدرجت التنويع الاقتصادي في رؤياها الوطنية وأنشأت لجاناً لدمج القطاع الخاص في النشاطات الاقتصادية الجارية. وقد أسّست أيضاً وكالات لدعم عملية تطوير الشركات الصغيرة والمتوسّطة وتمويلها، على غرار الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسّطة في المملكة العربية السعودية وبنك قطر للتنمية وهيئة تنمية المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة (ريادة) في عمان. وتُعتبر الشركات الصغيرة والمتوسّطة حجر الأساس لجهود التنويع، إذ يولّد نموّها فرصَ عمل وقيمةً اقتصادية حقيقية.

وقد استُكملت هذه الخطوات بشأن السياسات عبر إنشاء مناطق تجارة حرّة ومناطق اقتصادية خاصّة تعمل بدرجات متفاوتة خارج التشوّهات التنظيمية في القطاع الخاص. وتساعد هذه المناطق على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتعمل كمراكز للابتكار يمكن إدراجها مع الوقت ضمن الاقتصاد الوطني. ولدى الإمارات العربية المتّحدة 45 منطقة حرّة تسمح بملكية أجنبية بنسبة مئة في المئة. وخطت البحرين خطوة أبعد من ذلك وسمحت بملكية أجنبية بنسبة مئة في المئة في عدّة قطاعات، من بينها العقارات والاتّصالات والخدمات الإدارية. وأنشأت الدول الخليجية أيضاً مراكزَ للابتكار ضمن منظوماتها، مثل منطقة البحرين العالمية للاستثمار وواحة قطر للعلوم والتكنولوجيا وواحة الأمير عبد الله بن عبد العزيز للعلوم (PASP) في المملكة العربية السعودية.

وطرحت الدول الخليجية أيضاً إصلاحات تعليمية لكي تتماشى مهارات الخرّيجين بشكل أفضل مع حاجات السوق. وفي الدول حيث تميل الأكثرية العظمى من الشباب إلى وظائف القطاع العام عادة، ازداد الاهتمام بريادة الأعمال ووظائف القطاع الخاص. وقد انتشرت المبادرات التي تدعم روّاد الأعمال الشباب والتي تقدّم لهم التدريب والمشورة في أرجاء الخليج. ففي عمان، أطلقت مراكز التدريب المهني والكلّيات الفنّية برنامج “تعرّف على عالم الأعمال (KAB)” ، الذي طوّرته منظّمة العمل الدولية لدعم المعرفة حيال القطاع الخاص. وتستهدف “إنجاز العرب”، وهي منظّمة غير حكومية إقليمية، روّاد الأعمال الشباب الطامحين في دول مجلس التعاون الخليجي الستّة وتقدّم لهم الدعم والتدريب اللازمَين.

لكن مع أنّ تنظيمات الأعمال تحسّنت ومنظومة الشركات الناشئة تطوّرت كثيراً على مدى العقدَين الماضيين، ما زالت دول مجلس التعاون الخليجي متأخّرة في تأمين بيئة أعمال ممكِّنة وما زالت تعاني ضعفاً في القدرات في صفوف مواطنيها. فالقطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي، مثله مثل معظم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مُفرط التنظيم ويحكمه نظامٌ مترسّخ من المحسوبيات والمعارف. ويتفاقم هذا الأمر أكثر فأكثر لأنّ معظم نشاط القطاع الخاص تديره شركات عامّة أو شبه عامة ويعتمد على العقود الحكومية ويتمّ تمويله من خلال المؤسّسات المالية العامة وينال الدعم من خلال الإعانات الحكومية. وفي بيئة كهذه، يصعب على القطاع الخاص أن ينمو بشكل طبيعي أو على شخص بلا معارف سياسية أن يؤسّس عملاً ناجحاً وينمّيه. وترجع جذور هذه العوامل إلى الاقتصاد السياسي وإلى العقد الاجتماعي الحاكم في دول مجلس التعاون الخليجي.

الاقتصاد السياسي للدول الخليجية الريعية

بدأت الدول الخليجية بتصدير النفط في الأربعينيات والخمسينيات، ممّا أدّى إلى زيادات ضخمة في العائدات والثروات. وتقدّم حكومات مجلس التعاون الخليجي هذه الثروات لمواطنيها من خلال ثلاث قنوات أساسية. أوّلاً، وسّعت الخدمات والمنافع العامة وحسّنتها، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية وقدرة الوصول إلى التمويل. ثانياً، منحت مواطنيها قدرة الوصول إلى فرص العمل في القطاع العام لقاء رواتب ومنافع أعلى بكثير من تلك التي يمنحها القطاع الخاص. فسارع المواطنون إلى العمل في وظائف حكومية حيث وصلت معدّلات توظيف المواطنين في القطاع العام إلى 90 في المئة في بعض الدول. ثالثاً، منحت الدول الخليجية أصحاب الأعمال قدرة الوصول إلى الريوع الاقتصادية من خلال العقود الحكومية والتراخيص الحصرية، ممّا سمح لهم بكسب عائدات وأرباح فائضة من أعمالهم.

وفهْم طبيعة هذا العقد الاجتماعي مهمّ وله تبِعات في تحديد أنواع الإصلاحات في السياسات التي هي ضرورية والتي قد تنجح على حدّ سواء. والنقطة الأساسية هي أنّ هذه القنوات قائمة لسبب: فهي تسمح للمواطنين بالوصول إلى حصّتهم الشرعية من ثروة الهيدروكربون في بلادهم. وتضع هذه القنوات العقد الاجتماعي قيد التنفيذ ولن يكون من السهل إعادة التفاوض بشأنها حتّى لو تضاءلت عائدات النفط. وأن تتماشى رواتب القطاع العام مع رواتب القطاع الخاص يعني أنّ المواطنين سينالون تعويضاً عادلاً لقاء جهودهم، لكن لن تعود لهم القدرةُ للوصول إلى حصّتهم من الثروة من خلال علاوات الرواتب في القطاع العام. ويعني الحدّ من قدرة وصول الأعمال التي يملكها المواطنون إلى العقود الحصرية أنّها ستكسب الأرباح التي تفرضها السوق، لكن مرّة أخرى، لن تعود لهم القدرة للوصول إلى حصّتهم من الثروة من خلال عقود الأعمال الحصرية. وطرح إصلاحات اقتصادية كهذه، من دون تحديد وإنشاء قنوات بديلة لتشاطر ريوع الموارد الطبيعية، أمر غير عادل ومصيره الفشل على حدّ سواء.

ومع ذلك، لا بدّ من إجراء إصلاحات. فقد أدّى توجيه الريوع الاقتصادية من خلال الخدمات العامة الموسَّعة والتوظيف الحكومي وعقود الأعمال الحصرية إلى إضعاف الجهود لتطوير قطاع خاص تنافسي وديناميكي قادر على توليد نموّ اقتصادي مستدام في مستقبل ما بعد الهيدروكربون. لكن أيُّ مبادرة بشأن السياسات للحدّ من سلوك السعي وراء الريع يتطلّب معالجةَ القيود التي يفرضها العقد الاجتماعي الحاكم أو طرح قنوات جديدة. فما إن تنفد ريوع الموارد الطبيعية، ستصبح الدول الخليجية في وضع غير مستقرّ تكون مضطرّة فيه على المحافظة على عبء قنوات لم تعد تخدم أي غرض. فماذا يمكن للدول أن تفعل عندما تصبح عاجزة عن تغطية تكاليف يد عاملة كبيرة في القطاع العام لها عقود طويلة الأمد ولا تتحلّى بالمهارات اللازمة للانتقال إلى وظائف في القطاع الخاص؟

من شأن إعادة النظر في إصلاحات السياسات من خلال عدسة العقد الاجتماعي أن تطرح أفكاراً جديدة بشأن السياسات. فكلّ نقطة من هذه النقاط تتطلّب تغييرات في السياسات تزيد نشاط القطاع الخاص والمواطن الخاص. ولن يكون هذا سهلاً في الدول التي تعتمد نموذج تنمية بقيادة الدولة.

معالجة استدامة الخدمات العامة وتشجيع مشاركة المواطنين

فيما أخذت دول مجلس التعاون الخليجي تُراكِم الثروات، ركّزت في البداية على تحسين المنافع والخدمات العامّة. وبدأ ذلك بالتعليم والصحّة والمرافق، لكنّه سرعان ما توسّع ليشمل القطاعات الأخرى، من بينها العمل المصرفي والتمويل والاتّصالات والنقل. ومن ناحية الخدمات العامة الأساسية، حسنّت دول مجلس التعاون الخليجي بشكل ملفت قدرة الوصول لكلّ مواطنيها. مثلاً، تحسّن التحصيل الدراسي بشكل كبير في المنطقة. بيد أنّ النوعية ما زالت مصدر قلق. فطلاب دول مجلس التعاون الخليجي هم من الطلاب الأدنى تحصيلاً للعلامات في الاختبارات المعيارية الدولية. وقد حسّنت جهودُ الإصلاح التعليمي النتائجَ، لكنّها لم تؤدّ إلى تغييرات كبيرة. وعلى المدى الطويل، ينبغي على حكومات مجلس التعاون الخليجي التفكير في منح المستشفيات والمدارس والجامعات وغيرها من الجهات المزوّدة للخدمات العامّة استقلالية مالية أكبر وتأسيس الهبات للحرص على استدامتها على المدى البعيد. وفي وسع الدول أيضاً تشجيع المواطنين الأثرياء على تمويل الخدمات الاجتماعية من خلال مبادرات فردية غير ربحية. ولهذه الهبات أو الأوقاف تاريخ طويل وعريق في منطقة الخليج لكنّ المبادرات الحكومية حلّت محلّها عقب اكتشاف النفط. وستسمح إعادتها للمواطنين الخاصين بالمساهمة في مستقبل البلاد ودعم تغيير أعمق في العقد الاجتماعي.

تحسين عملية تنظيم شركات القطاع العام

بات الكثير من القطاعات في الخليج تحت سيطرة الشركات الكبيرة التي تملكها أو تديرها الدولة، حتّى تلك القطاعات التي تكون عادة ضمن نطاق القطاع الخاص، مثل العمل المصرفي والبناء وتوزيع الوقود والتأمين. وقد أدّت هذه الشركات المملوكة من قبل الدولة دوراً مهمّاً في تحفيز التحديث والابتكار والنمو الاقتصادي. بيد أنّه على مرّ الزمن، باتت تسيطر على القطاعات التابعة لها. وقد أنشأت حواجز بيروقراطية لدخول هذه القطاعات، ممّا منع الشركات الصغيرة من النمو والمنافسة في مجالها. وبالفعل، تعمل العديد من الشركات العامة فعلياً كالجهات المنظّمة الأساسية لقطاعاتها. علاوة على ذلك، فيما مدّدت بعض الشركات العامة عملياتها دولياً، تشير نظرة عن كثب للوضع أنّها تمكّنت من القيام بذلك بسبب الدعم والإعانات العامة، على غرار عدم دفع الضرائب أو دفع أسعار أدنى من أسعار السوق لمدخِلات مثل الطاقة والأراضي ورأس المال. وما من أدلّة تشير إلى أنّ هذه الشركات العامة قادرة على المنافسة في اقتصاد عالمي من دون دعم مستمرّ. وهي عوضاً عن العمل كمصدر لعائد جديد، تسحب الموارد من القطاعات الاقتصادية الواعدة أكثر.

مع ذلك، تبقى الشركات العامة مصدراً ثميناً للخدمات العامة والابتكار وفرص العمل. ومن المستبعد أن تفكّر حكومات مجلس التعاون الخليجي في الخصخصة إلا إذا اضطُرّت إلى ذلك. بيد أنّه يمكن طرح إصلاحات لإنشاء بيئة أكثر تنافسية حولها. لذا على دول مجلس التعاون الخليجي وضع استراتيجية واضحة لتحديد القطاعات التي ستعمل فيها الشركات العامة وتترك القطاعات الأخرى بمنأى عن تدخّلاتها. وعليها أيضاً أن تكون شفّافة في حفظ السجلات والحرص على أن تكون الإعانات والدعم كافة واضحة ومحدودة. أخيراً، ينبغي على دول مجلس التعاون الخليجي إنشاء حاجز حماية بين الشركات العامة والوكالات التنظيمية للقطاعات التي تعمل فيها. فهذا ليس شكلاً من أشكال الحوكمة الرشيدة فحسب، بل من شأنه أيضاً أن يحسّن المنافسة ويساعد على الحثّ على الابتكار والنمو الاقتصادي على المدى الطويل.

تشجيع التطوير الحقيقي للقطاع الخاص

ما زال جزء كبير من نشاط القطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي مرتبطاً بشكل مباشر أو غير مباشر بالإنفاق والعقود الحكومية المموّلة بدورها من خلال عائدات النفط والغاز. ويميل ذلك إفادة الشركات العامة والشركات الخاصة المرتبطة بالنخبة الحاكمة، على حساب الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسّطة الأكثر تنافسية، التي ينبغي أن تشكّل الأساس الذي يُبنى عليه النموّ والازدهار المستقبليَّين. علاوة على ذلك، قد يتبوّأ أعضاء النخبة الحاكمة مناصب حكومية ويترأسون شركاتهم الخاصة في الوقت عينه، ممّا يمنحهم القدرة على ترجيح كفّة الميزان لصالحهم. وتحدّ هذه القيود المفروضة على نشاط القطاع الخاص وتنافسه من الحوافز التي تدفع روّاد الأعمال لطرح الابتكارات الثورية التي يمكنها إنشاء صناعات تنافسية على المستوى العالمي تؤدّي إلى تنويع اقتصادي حقيقي. نتيجة لذلك، تبقى مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلّي الإجمالي منخفضة. ومع أنّه من الصعب الحصول على تقديرات رسمية، كانت هذه المساهمة في المملكة العربية السعودية مثلاً أدنى من 40 في المئة في العام 2018.

هذا النوع من السعي إلى الريوع هو جزء من العقد الاجتماعي الحاكم، وعلى الأرجح أنّه سيستمرّ، لكن يمكن التخفيف من حدّته وحصره بقطاعات ونشاطات اقتصادية محدّدة. ومثالاً على ذلك، فإنّ شغل وظيفة حكومية أثناء امتلاك شركة تستفيد من العقود الحكومية في الوقت نفسه يمثّل مكسباً مزدوجاً ولكن يمكن الحدّ منه. وينبغي على دول مجلس التعاون الخليجي أيضاً أن تُبقي القطاعات الموجّهة نحو النمو والموجّهة نحو التصدير والتي لا تعتمد على العائدات من النفط والغاز بمنأى عن التدخّلات الداخلية. وعليها أيضاً المتابعة بتوسيع مناطقها الحرّة ومناطقها الاقتصادية، ولا سيّما تلك المطوَّرة حول القطاعات الخالية من النفوذ. وينبغي عليها أيضاً متابعة جهودها للتخفيف من التنظيمات والقوانين المرهقة، وتشمل هذه طرح قوانين الإفلاس وإلغاء الحاجة لتكون للشركات الافتراضية عناوين مادّية والحدّ من زمن الخطوات اللازمة وعددها لتسجيل الأعمال وتخصيص حصّة بالحدّ الأدنى من العقود الحكومية للشركات الصغيرة والمتوسّطة والحرص على تسديد الدفعات الحكومية في الوقت المناسب وتحسين قدرة وصول الشركات الصغيرة والمتوسّطة إلى التمويل.

أخيراً، ينبغي على حكومات مجلس التعاون الخليجي العمل على الفصل بين السياسة والأعمال. فغالباً ما يخضع النشاط الاقتصادي الخاص إلى اعتبارات سياسية اندفاعية. ويزيد ذلك من المخاطر والغموض ويقلّل من الاهتمام الدولي بالاستثمار في المنطقة. ويشكّل الحصار الذي فرضته الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية والبحرين على قطر مثالاً على ذلك. فقد عرقل الحصار سلاسل التوريد وتدفّقات الاستثمار وعقود الأعمال وحتّى ترتيبات الإقامة للموظّفين. وكبّد الحصار كلفة عالية لكلّ الدول المنخرطة فيه بدون أن يأتي بمكاسب سياسية تُذكر. بالتالي، ينبغي على دول مجلس التعاون الخليجي أن تبقى متنبّهة إلى المنافع التي يقدّمها الحفاظ على مناخ استثماري مستقرّ ويمكن التنبّؤ به وأن تهدف إلى إبقاء السياسة بعيدة عن الهدف الطويل الأمد الأهمّ القاضي بتحقيق نموّ اقتصادي مستدام وتأمين الازدهار للأجيال القادمة. وعلى القدر ذاته من الأهمّية، ينبغي على حكومات مجلس التعاون الخليجي تأسيس آليّات رسمية للاستشارة العامة والتعليق والتبليغ بشأن التغييرات التنظيمية. فهذا سيحسّن نوعية اللوائح التنظيمية وفعاليّتها ويزيد أيضاً من شفافية العملية التنظيمية، ممّا يساهم كثيراً في التخفيف من مخاوف المستثمرين المحتملين.

معالجة تحديات التوظيف

تمنح حكومات مجلس التعاون الخليجي مواطنيها قدرة الوصول إلى وظائف القطاع العام مع رواتب ومنافع عالية كطريقة لهم للوصول إلى حصّتهم من الريوع الاقتصادية. ويؤثّر هذا النظام في خيارات المواطنين بالنسبة للدراسة والمسارات المهنية، فيسعون عادة إلى أدنى حدّ من الشهادات اللازمة للوصول إلى وظائف القطاع العام، بدون اعتبار كبير حيال تنمية المهارات اللازمة للمساهمة في وظائف منتِجة في القطاع الخاص. وكانت نتيجة ذلك سوقَ عمل مجزّأةً يهيمن فيها المواطنون على القطاع العام والعمّال الوافدون على القطاع الخاص. علاوة على ذلك، لأنّ رواتب القطاع العام تضمّ حصّة من الريوع الاقتصادية، باتت هيكلية رواتب الخدمة المدنية للمواطنين معزَّزة ومضغوطة على حدّ سواء. فأولئك الذين يقعون عند الطرف السفلي لسلسلة الرواتب والذين لديهم أدنى المهارات القابلة للتسويق يقبضون علاوات أعلى من البدائل المتاحة في القطاع الخاص مقارنة بأولئك الذين يتحلّون بمهارات أعلى. ويولّد ذلك محفّزات خاطئة من ناحية التفضيل بين القطاعَين، إذ يُبدي العمّال ذوو المهارات الأدنى امتناعاً أكبر عن القبول بعمل في القطاع الخاص. كذلك، كلّما رغبت دول مجلس التعاون الخليجي في زيادة حصّة الريوع النفطية الموزّعة من خلال سلسلة الرواتب، ردّاً على أوضاع سياسية أو زيادات في سعر النفط، أفضى ذلك إلى ارتفاع في فاتورة الرواتب لا يمكن عكسه بسهولة عندما تتغيّر الظروف.

ومع التراجع في عائدات النفط، باتت وظائف القطاع العام شحيحة ووضعت حكومات مجلس التعاون الخليجي مسؤولية توظيف المواطنين على عاتق القطاع الخاص. بيد أنّ شعور الناس بالأحقّية انتقل معهم. ويظهر ذلك في التوقّعات بنيل رواتب ومنافع أعلى والحافز الضعيف للعمل. في المقابل، يتفادى أصحاب العمل في القطاع الخاص عادة توظيف مواطنين إلا في حال أرغمتهم الدولة على ذلك. وفي هذه الحالات، غالباً ما يتعاملون مع الوضع وكأنّه كلفة من تكاليف نشاطات الأعمال ولا يطوّرون القدرات الإنتاجية لدى المواطن الأجير. ويطيح هذا الأمر بالعلاقة بين الأداء والمكافأة ويولّد الشعور بالاستحقاق  قد تستمرّ بعد استنزاف الريوع النفطية. وقد أدّى هذا أيضاً إلى معدّلات بطالة مرتفعة في صفوف المواطنين الشباب، الذين يتزاحمون للحصول على وظائف القطاع العام الشحيحة على الرغم من الكمّ الكبير من الوظائف المتاحة في القطاع الخاص التي يشغلها عمّال وافدون. وتصل معدّلات بطالة الشباب في صفوف المواطنين الشباب في معظم دول مجلس التعاون الخليجي التي تتوفّر عنها البيانات إلى مستويات مرتفعة، فتصل إلى 40 في المئة مثلاً في المملكة العربية السعودية.

وتتردّد دول مجلس التعاون الخليجي في التعامل مع هذا النظام من المصالح المترسّخة في التوظيف. فلم تنجح المحاولات لجعل رواتب القطاع العام ومنافعه تتماشى مع تلك التي في القطاع الخاص. مثلاً، اضطُرّت المملكة العربية السعودية إلى إلغاء قرار بالحدّ من منافع القطاع العام في العام 2017 بعد “تذمّر واسع النطاق”. وقد سَعت بعض دول مجلس التعاون الخليجي إلى المحافظة على الفجوة في الرواتب بين المواطنين والعمّال الوافدين عبر زيادة رسوم تراخيص العمل للعمّال الوافدين. بيد أنّ ذلك يرفع من تكاليف الأعمال ويحدّ من قدرتها على التنافس عالمياً، ممّا يعرقل جهود التنويع الطويلة الأمد. وتتمحور استراتيجية فعّالة أكثر حول جعل هذه القناة للحصول على الريوع الاقتصادية أكثر وضوحاً. ويمكن القيام بذلك عبر طرح برنامج شبيه بائتمان ضريبة الدخل. فيدفع أصحاب العمل للمواطنين راتباً يعتبر عادلاً في السوق وتكمّل الدولة ذلك براتب اجتماعي أساسي أو علاوة تعكس حصّتهم من الريوع الاقتصادية. ويربط هذا النوع من الشفافية الرواتبَ المقدّمة للمواطنين بالإنتاجية والأداء بشكل أفضل. وسيسهّل أيضاً الأمور على دول مجلس التعاون الخليجي لكي تغيّر مكوّن الرواتب الاجتماعي تبعاً للظروف الاقتصادية المتغيّرة، ويمكنها إطلاع مواطنيها على تفاصيلها بسهولة أكبر.

الخطوات المقبلة

ينبغي على الجهود بشأن السياسات التي تهدف إلى التنويع الاقتصادي أن تأخذ في الحسبان السلوك الشرعي للسعي وراء الريع. فعلى حكومات مجلس التعاون الخليجي الانخراط في حوار صريح مع مواطنيها حيال القيود المالية التي تواجهها وحيال الخيارات المستقبلية، ثمّ عليها إعادة كتابة المعايير للعقد الاجتماعي الحاكم بطريقة يمكن اعتبارها عادلة ومتكافئة. وينبغي أن تفترض إعادة التفاوض هذه أن يتخلّى المواطنون العاديّون والنخب السياسية على حدّ سواء عن بعض منافعهم وامتيازاتهم نظراً إلى تضاؤل احتياطات الهيدروكربون وانخفاض أسعار النفط التي من المتوّقع أن تستمرّ وأن تنخفض أكثر على المدى الطويل. ومن شأن الطلب من المواطنين العاديين التخلّي عن قدرة وصولهم إلى الوظائف الحكومية أو خفض رواتبهم ومنافعهم من دون تخلّي أصحاب الأعمال عن أرباحهم الفائضة التي يجنونها من العقود الحصرية، أن يولّد امتعاضاً شعبياً واضطرابات اجتماعية. وعلى مدى العقدَين الماضيين، أنشأت دول مجلس التعاون الخليجي مناطق حرّة وواحات ابتكار ومراكز لريادة الأعمال خارج أطر العمل التابعة لقطاعاتها الخاصة المرتكزة على الريوع. ومع ذلك، تبقى هذه السياسات غير متطورة بما فيه الكفاية. لذا، عند التحضير لمستقبل ما بعد النفط، على دول مجلس التعاون الخليجي أن تطبّق المزيد من التخفيضات في الخدمات والمنافع والوظائف العامة والحدّ من الفرص للسعي وراء الريع في القطاع الخاص.

وقد زادت جائحة فيروس كورونا المستجدّ وأسعار النفط العالمية المنخفضة الضغطَ على الدول الخليجية للسير قدماً بجهود تنويع الاقتصاد. وينبغي على صانعي السياسات في دول مجلس التعاون الخليجي الابتعاد عن الاندفاع الفوري لتخفيض الموازنات والتركيز عوضاً عن ذلك على تطوير الأسس لبناء اقتصاد مستدام وديناميكي في مرحلة ما بعد الهيدروكربون. وقد سبق أن حثّت الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تواجهها الدول الخليجية المملكةَ العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة والبحرين على إنهاء حصارها الذي دام ثلاث سنوات ونصف السنة على قطر، ممّا فتح المجال أمام تكامل اقتصادي إقليمي أكبر. وعلى نحو مماثل، أفسحت الضغوط الاقتصادية المجال أمام حوار أكثر انفتاحاً وصراحة بين المواطنين ودولهم بشأن القيود المالية والريوع الاقتصادية وقنوات توزيعها. ويشكّل الوضوح حيال أجزاء الاقتصاد التي يُسمَح لها بالنموّ بدون عراقيل عنصراً أساسياً لتوليد الحوافز للمواطنين الشباب لكي ينخرطوا في هذه القطاعات. ويمكن بعد ذلك السماح للآليات المرتكزة على السوق بالعمل بفعالية أكبر في هذه القطاعات، منفصلةً عن سلوك السعي وراء الريع. وبإمكان قطاعات اقتصادية أكثر تنافسية وتكامل اقتصادي إقليمي أوسع زيادة التنافسية العالمية لاقتصادات مجلس التعاون الخليجي ودعم جهودها لتنويع الاقتصاد. 

Authors