Commentary

Op-ed

محاربة الإساءة من الخارج: دور الشتات في العدالة الانتقالية في مصر

Supporters of deposed President Mohamed Mursi demonstrate as they slow drive through central London August 17, 2013. Supporters of Mursi fought a gunbattle with security forces in a Cairo mosque on Saturday, while Egypt's army-backed government, facing deepening chaos, considered banning his Muslim Brotherhood group.  REUTERS/Luke MacGregor (BRITAIN - Tags: CIVIL UNREST POLITICS RELIGION)

لقد غدا المجتمع المصري في المهجر أكثر فأكثر خطّ الدفاع الأوّل لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في مصر. فما دام الشروع بعدالة انتقالية بقيادة الدولة غير ممكن في سياق الحكم السلطوي الراهن، يؤدّي مجتمع الشتات دوراً مهماً في توثيق المعلومات حول الجرائم والإساءات والمحافظة عليها. فهذه المعلومات يمكن أن تشكّل يوماً ما الأساس لتحرّكٍ باتّجاه المساءلة في مصر.

وقد أصبح الخطر الطاغي بالاعتقال التعسّفي واقعاً يومياً للكثير من المصريين. فالناس عرضة للاعتقال لتُهَمِ “إرهابٍ” غامضة التعريف حتّى في خلال قيامهم بنشاطاتهم العادية. وبيّن الاستهداف المُحدَّد للصحافيين ومنظّمات المجتمع المدني بوضوح أنّ المعارضة الصريحة للحكومة غير آمنة وغير مستدامة.

وتدرك كوميتي فور جستس (لجنة العدالة)، بوصفها منظّمة مستقلّة تقع خارج مصر، الحاجة إلى جهات فاعلة خارجية لمراقبة وضع حقوق الإنسان داخل البلاد. فأسّسنا مثلاً أرشيف مراقبة العدالة لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والتأكّد من صحّتها. ونعوّل على الحفاظ على تواصل وثيق مع الجهات الفاعلة القانونية والحقوقية داخل مصر، فنجمع المعلومات منها ونعرضها بشكل موضوعي وسهل، تبعاً للمعايير القانونية الدولية.

وعلى المدى القصير، يتمحور هدف كوميتي فور جستس حول زيادة الوعي إزاء أنماط انتهاكات حقوق الإنسان وحماية حقوق الضحايا والمناصرة لمحاكمة الجناة عبر آليات دولية وإقليمية. والتحدّيات أمام ذلك متعدّدة: فالمجتمع المدني كان بالإجمال غير مستعدّ، أو غير قادر، على مراقبة الانتهاكات وتوثيقها بموضوعية، فيما أُرغم الكثير من الحقوقيين على الدفاع عن الحكومة وليس الناس. لكنّنا نعلم أنّ الطريقة الوحيدة لتحقيق العدالة والمساءلة في المستقبل هي بتوثيق أكبر عدد ممكن من الانتهاكات اليوم.

وعندما ينفتح الباب لمسار عدالة انتقالية وطنية في نهاية المطاف، سيعود الفضل في جزء كبير من ذلك لهذا التعاون الحاسم بين المجتمع المدني المحلّي ومجتمع الشتات. ومن الأمثلة الإقليمية الأكثر فعالية لهذا النوع من التعاون كان تقرير “قيصر” في العام 2014 الذي وثّق قتْلَ حكومة بشار الأسد الممنهجَ لأحد عشر ألف مدني في خلال الحرب الأهلية السورية. وأدّى هذا التقرير إلى فرض الولايات المتّحدة قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا في العام 2019 الذي يسمح بتطبيق عقوبات مستهدَفة على الأشخاص الذين يسهّلون تصرّفات نظام الأسد. ويهدف قانون قيصر في نهاية المطاف إلى تعزيز المساءلة للفظائع التي ارتكبها النظام السوري.

“مستقبل جديد” يحدّده السَجن

ها قد تبلور الوعد بمستقبل جديد الذي قطعه الرئيس عبد الفتاح السيسي. لكن عوضاً عن فرص العمل والازدهار الاقتصادي والأمل، يتميّز هذا المستقبل بالاعتقالات الجماعية والخوف المتفشّي من الاحتجازات التعسفية. فقد أعطى الانقلاب العسكري الذي جرى في يوليو 2013 والذي نصّب السيسي رئيساً المزيدَ من الحصانة للقوى الأمنية، ممّا خوّلها الاستمرار بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. وعوضاً عن تقديم الخدمات الاجتماعية، خصّص النظام أمواله المحدودة لبناء ستّين سجناً جديداً في أرجاء البلاد. وغالباً ما تلجأ القوى الأمنية إلى تكتيكات قاسية للحدّ من المعارضة، بما فيها الاختفاء القسري والاعتقالات والمحاكمات الجماعية والتعذيب. وتشير بياناتنا إلى أنّ أكثر من ألف حالة وفاة حصلت في السجون والمعتقلات المصرية منذ يوليو 2013، ويُعزى الأمر بشكل كبير إلى ظروف الاعتقال الرديئة.

وفيما تشكّل هذه التصرّفات بوضوح انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان، تصبح مُمأسسةً بشكل متزايد من خلال التعديلات الدستورية. علاوة على ذلك، لم تتمكّن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني المصري التي يتملّكها الخوف من مراقبة هذه الانتهاكات وتوثيقها بشكل مُمنهج ومهني. وقد عمّق القمع القاسي ضدّ كلّ أشكال المعارضة السياسية والاجتماعية الانقسامات الاجتماعيةَ تبعاً لتوجّهات سياسية واجتماعية ودينية.

ولا تزال في مصر مجموعة صغيرة من المدافعين عن حقوق الإنسان ومن منظّمات المجتمع المدني التي تواصل الدفاع عن حقوق الإنسان في ظلّ نظام قمعيّ. والأخطار التي يواجهها هؤلاء المدافعون وعائلاتهم داخل مصر وخارجها كثيرة، ومن ضمنها الاضطهاد وتشويه السمعة والاستيلاء على الممتلكات والاعتقال. ويحدّ هذا الخطر المستمرّ من نطاق تغطيتهم ومن قدرتهم على نشر استنتاجاتهم.

المساءلة، من الخارج

عندما سأل نيلسون مانديلا: “كيف سنعالج إرث الإساءة ونرسّخ العدالة؟” بعد الربيع العربي، لم يكن لدينا جواب حاضر لمصر. وعلى الرغم من أنّ هذا الإرث بات أقوى في السنوات التي تلت السؤال الذي طرحه مانديلا، ما زال من اللازم اتّخاذ خطوات مهمّة لوضع الأساس لحساب وطني للإساءة والحصانة.

وقد جعل تحدّي الدفاع عن الحقوق في مصر وضعَ آليات لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والتحقّق منها مسألة لا بدّ منها. لهذا السبب أسّست كوميتي فور جستس مشروع مراقبة مراكز الاحتجاز الذي يعاين الانتهاكات في السجون والنظام القضائي، إلى جانب منصة تشارُك بيانات حقوق الإنسان، التي تسهّل التعاون حول القضايا وتشاركها مع الشركاء في مصر وخارجها. وفيما تتركّز هذه الآليات خارج مصر، هي تشكّل امتداداً لحركة حقوق الإنسان المحلّية. والأهمّ أنّها تعمل تتبعاً للمنهجية التي يقرّ بها القانون الدولي ومعايير العدالة الانتقالية.

والمحافظة على الحقّ بالحقيقة والمعرفة أمر أساسي للعدالة الانتقالية ولأيّ حركة عدالة مستقبلية. وينبغي أن يحمي هذا الحقَّ مجتمعٌ مدني موثوق ومهني ومحايد يوثّق الفظائع ويحاول التخفيف من الحصانة عبر الفضح. وفي هذا الخصوص، لا يمكننا الاعتماد على الجهات الفاعلة في المجتمع المدني في مصر للقيام بحملات ضدّ انتهاكات حقوق الإنسان أو للسعي لعدالة انتقالية في ظلّ القمع المستمرّ.

وتركّز استراتيجية كوميتي فور جستس الراهنة على تعزيز التعاون بين المجتمع المدني المحلّي ومجتمع الشتات القانوني، من أجل حماية حقوق الضحايا ومحاكمة الجناة والسعي لعدالة انتقالية في مستقبلٍ بعد مرحلة الحكم السلطوي. ومجتمع الشتات هذا غاية في الأهمّية لأنّه يضمّ أفراداً ومنظّمات وناشطين يمكنهم التنقّل بين المحلّي والدولي والعمل بينهما والتنسيق معهما في مناخ من الحرّية والمهنية. والميزة الأهمّ في استراتيجيتنا هي المحافظة على الجهات الفاعلة المحلّية وتطوير قدرتها على جمع المعلومات وتصنيفها وترتيبها وتقديم الدعم القانوني للضحايا، فيما تعمل الجهات الفاعلة في الخارج على المحافظة على الأدلة والوثائق وأرشفتها.

وعبر اللجوء إلى الشتات لمراقبة الفظائع وتوثيقها، نهدف إلى تحقيق هدفَين أساسيين، أوّلهما تطوير قدرة الجهات الفاعلة في المجتمع المدني المحلّي، فنساعدها على بناء القدرات والفرق والأنظمة الإدارية والتقنية اللازمة للانخراط بعمل قانوني فعّال على المستوى الدولي، وثانيهما الحدّ من قدرة السلطات على مهاجمة الجهات الفاعلة المحلية ومواجهة السلطات بالوقائع حول انتهاكات حقوق الإنسان.

لا شكّ في أنّ تجربة كوميتي فور جستس في العمل مع الجهات الفاعلة في مصر وفي الشتات عادت بنفع كبير على المجتمع المدني المصري عبر تطوير القدرات والإمكانات المحلّية تحت قيادة دولية مؤسّساتية ومحايدة تقع في بيئة آمنة نسبياً. وهذه هي الخطوة الأولى نحو تمكين جمعيات المجتمع المدني المحلّي للعمل على كلّ المستويات ما إن تتحسّن الظروف السياسية ولمأسسة الحقّ بالحقيقة والمحافظة عليه. وبينما قد لا يكون الوقت مؤاتياً بعد في مصر لتأسيس لجنة وطنية لتقصّي الحقائق أو لمساءلة محلّية للجناة، هذا لا يعني أنّه ينبغي علينا الوقوف مكتوفي الأيدي فيما تستمرّ الانتهاكات.