Commentary

Op-ed

الأوليجاركية في قلب فضائح إسبانيا

لقد حققت إسبانيا مستوى ملحوظًا من التحديث منذ تحولها إلى الديمقراطية. ومع ذلك، فهي غارقة اليوم في أزمة تكشف عن ضعف هياكلها السياسية والاقتصادية. وعلى النقيض من الاعتقاد السائد، فالمشكلة لا تكمن فقط في إعاقة ديناميكية قطاع الأعمال بسبب ساسة فاسدين ولكنها مشكلة عرقلة المؤسسة الاقتصادية والسياسية التي تهيمن عليها جماعات مصالح كبرى لما فيه منفعة البلد. وهذا هو أساس فضائح الفساد التي تعصف بمؤسسات البلاد، والتي بلغت أشدها في الأيام الأخيرة في حكومة الحزب الشعبي الأسباني.

ولم يبلغ التأثير المترتب على هذه الفضائح أقوى درجات حدته في أي جانب أكثر من تأثيره في غياب المنافسة في العديد من قطاعات الاقتصاد، حيث يستفيد عدد قليل من المؤسسات الكبرى من عوائق الدخول بسبب الانصياع الحكومي. هذا بالإضافة إلى هوامش الربح المرتفعة — بدلًا من الرواتب المرتفعة كما يُتصور على نطاق واسع جعلا إسبانيا غير تنافسية خلال دورة نموها الأخيرة من عام 1996 إلى عام 2007. ولم يتجاوز معدل الزيادة في الأجور الفعلية معدل الإنتاجية. وقد زادت هوامش الربح من معدل التضخم. ونتيجة لذلك، أدت المساومة الجماعية من جانب العمال إلى زيادة الرواتب.

غياب المنافسة هذا هو السبب والنتيجة في ذات الوقت لافتقار الاقتصاد إلى الديناميكية. فالقطاع الخاص يعاني من قلة الابتكارات والتجديدات؛ وعدم كفاية الاستثمار في رأس المال البشري والبحثي والتنموي؛ واللامسئولية المالية بين المؤسسات الغنية والكبرى؛ وضعف الحوكمة المؤسسية.

وينكشف النقاب تدريجيًا عن التكلفة الباهظة لهذا التستر على جرائم النخب العامة والخاصة في النظام السياسي حيث يزداد تعذر التواصل بين الأحزاب وجماهير الناخبين كما أنها تفقد شرعيتها بسبب الفساد. وهذه الأوليجاركية (أو حكم الأقلية) ليست قاصرة على مجال الأعمال والسياسة فحسب، بل تشمل أيضًا أعضاءً كبارًا في النقابات العمالية التي تدافع عن نظام العمل الذي يترك ملايين الشباب وهم يعانون ظروف عمل قاسية وبائسة، هذا إن حالفهم الحظ ووجدوا وظيفة من الأساس؛ ووسائل الإعلام الأساسية تعتمد على إيرادات الإعلانات من المصارف والمؤسسات الكبرى. كما أن الأوليجاركية تؤثر على الخدمة المدنية التي تقاوم الإصلاح، هذه المقاومة تسود النظام السياسي (فكافة الوزراء باستثناء وزير واحد موظفون عموميون، وكذلك الحال بالنسبة لثلاثة أرباع أعضاء البرلمان).

هناك درجة من المسؤولية الجماعية في المأزق الذي تواجهه إسبانيا، وغالبًا ما يتجاهل الرأي العام التجاوزات وعمليات الفساد بالإضافة إلى إخفاقه في إخضاع قادته للمساءلة. والنخبة التي تسعى لخدمة مصالحها الذاتية موجودة في كل الدول، في حين أن علاقات القطاع العام بالخاص هي سمة للرأسمالية الأوروبية. لكنه في إسبانيا، غالبًا ما يكون هذا التوريط خفيًا ومحظورًا؛ كما أن حجب الفرص يكون منظمًا، الأمر الذي يتسبب في حرمان الشركات الرائدة والمتخصصين من الحصول على منافسة عادلة.

هذا يطرح أسئلة جدية حول الكيفية التي تواجه بها إسبانيا تحديها الاقتصادي الرئيسي وهو ضعف احتمالات تحقيق النمو. فلقد انهار نموذج نموها الذي يتميز بانخفاض الانتاجية والتركيز المفرط على المهام التي تحقق قيمة مضافة منخفضة. وفي سوق عالمي تزداد حدة التنافس فيه، يجب أن تبحث البلاد عن مجالات جديدة للمنافسة. والإجابة هي تعزيز الابتكار والتجديد من خلال إطلاق العنان لإمكانات الشباب الذي تلقى تعليمًا عاليًا. بيْد أن الحصار المؤسساتي يعوق إضفاء الطابع الديمقراطي على الابتكار والتجديد.

ربما يُلتمس للكثيرين العذر عن غض الطرف عن تطورات العقود الثلاثة الماضية باعتبارها سرابًا. بيْد أن البلاد خطت خطوات فعلية لتتحول من ديكتاتورية ذات دخل متوسط إلى ديمقراطية نابضة بالحياة والنشاط. صحيح أنها ارتكبت أخطاء لكن الآخرين ارتكبوا أخطاءً كذلك. إن أزمتها ترجع جزئيًا إلى فقاعة تضخمت بفعل أسعار الفائدة المنخفضة في منطقة اليورو التي تقررت بهدف الإنفاق من أجل توحيد ألمانيا والتغلب على ما أصابها من ركود، وهو الأمر الذي دعمتها فيه مدريد بشدة إذا ما قورنت بفرنسا أو المملكة المتحدة. يجب أن تعبر أوروبا لإسبانيا عن ثقتها في قدرتها على الإصلاح، لأنها فعلت هذا من قبل. لقد ظلت إسبانيا دولة أوروبية تتمتع بالولاء لمحيطها الأوروبي ويمكنها أن تستمر في إسهامها بالكثير. لكنه يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يستمر في فرض إصلاحات هيكلية ملحة في البلاد، بحيث يتحرك باعتباره قوة خارجية تمارس تأثيرها ضد النخبة المؤسساتية المهيمنة.

قد بدأ ينفذ صبر الأغلبية الأسبانية التي تشمل الطبقة العاملة والمتوسطة كما الحال في أنحاء أخرى من أوروبا من نظام يعتقدون أنه يتلاعب بهم ويعمل ضدهم ويزيد من حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي التي يعيشونها. وقد تبددت الآليات التي يمكن بها إيجاد قنوات لتحقيق مصالح هذه الأغلبية في سياسة البلاد (من خلال القوانين والنقابات والأحزاب السياسية التي تمثلهم تمثيلًا حقيقيًا). وهذا الجمع بين الغضب وعدم التمثيل أمر مهلك ومن الممكن أن يؤدي إلى حل اليورو من خلال السياسة الشعبوية. ويمكن لأوروبا أن تحول دون حدوث هذا من خلال تجاوز حدود المصالح الوطنية وتعقب سياسات يمكن أن إسبانيا إلى حالة التعافي الاقتصادي بل وباقي الدول المحيطة.

وفي أسبانيا، يجب أن تفعل هذا ليس فقط من خلال نشرات غير فعالة أو تقشف عقيم، وإنما بفرض نوع من الليبرالية الحقيقية والتحديث الذي يكسر المصالح التي تتمتع بها النخبة التي تهيمن على الحياة الاقتصادية الإسبانية.