Commentary

مصالح الهند الأوسع في الشرق الأوسط – فهو ليس مجرد محطة بترول

لطالما تمتعت الهند ودول الشرق الأوسط – لا سيما دول الخليج – بعلاقاتٍ استراتيجية مبنيةٍ على المنفعة المتبادلة. ففي معظم الفترة التي مرت منذ الاستقلال، كانت الهند تنظر للشرق الأوسط بصفته علاقة تجارية بالدرجة الأولى، تأتي منه تدفقات الطاقة وتذهب إليه العمالة المهاجرة. أما سياسة “النأي بالنفس” الهندية – التي استندت مطمئنة إلى التزام واشنطن بضمان التدفق الحر للنفط في جميع أنحاء العالم – فقد لاءمت وانسجمت مع سياسة الهند الخارجية القائمة تقليدياً على عدم الانحياز وعدم التدخل، وهي السياسة التي تعزز بدورها من سمعة الهند في الشرق الأوسط.

غير أن التغييرات الكبيرة التي طرأت على السياسات الدولية والإقليمية وحتى الداخلية في الشرق الأوسط تقتضي رؤية جديدة للأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط بالنسبة للهند وبالعكس. وهذا يأتي في الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة أن تبتعد تدريجياً عن الشرق الأوسط، بالرغم من تعزيز الصين لعلاقاتها الجيوسياسية والاقتصادية فيه من خلال ابرام صفقاتٍ استثمارية واتفاقياتٍ للدفاع تُقدر بمليارات الدولارات.

ولا يسع القادة الهنود إلّا أن يتساءلوا عمّا إذا كان عدم الاستقرار المتفاقم في الشرق الأوسط سيؤثر على واردات النفط (استوردت الهند حواليْ ستين بالمائة من احتياجاتها النفطية من المنطقة في العام 2014)، أو على مصير المواطنين الهنود البالغ عددهم حوالي سبعة ملايين والذين يبعثون لوطنهم بحوالات مالية تبلغ 40 مليار دولار سنوياً. وأما بالنسبة لمركز بروكنجز الدوحة فقد ارتأى أن الذكرى السنوية الأولى لحكومة مودي أتاحت فرصة مواتية لزيارة الهند من أجل الوقوف على حقيقة التصورات المتغيرة التي تحملها هذه القوة العالمية الصاعدة (الهند) عن الشرق الأوسط.

في كل مكان إلا الشرق الأوسط

في العام 2014، قاد نارندرا مودي، زعيم ولاية غوجارات المثير للجدل حينذاك، حزب بهاراتيا جناتا القومي الديني المحافظ إلى فوزٍ ساحقٍ في الانتخابات، حيث فاز بنسبة 52 بالمائة من المقاعد. ولأن الحزب أكّد في برنامجه على أهمية التنمية الاقتصادية الوطنية، فقد تفاجأ معظم المعلقين بمدى تركيز الحكومة على السياسة الخارجية في عامها الأول.

ولكن في الوقت الذي ركّزت فيه حكومة مودي بشكلٍ مباشرعلى جيران الهند في جنوب آسيا- بالإضافة إلى شرق آسيا وجنوب شرقها والغرب- كان التركيز على الشرق الأوسط بالمقارنة أقلّ بكثير. وفي هذا السياق، أشار مودي إلى أنه سوف يزور المنطقة في عامه الثاني في الحكم. ومن المثير للاهتمام أن وجهته الأولى المعلن عنها ليست لدولةٍ رئيسيةٍ منتجةٍ للنفط، بل لإسرائيل.

لا أحد يستطيع إنكار أهمية العلاقات بين الهند وإسرائيل، لاسيما في مجالات الدعم العسكري ونقل التكنولوجيا والتنمية الزراعية والري. ومع ذلك، فإنّ الزيارة المزمع القيام بها ستؤثر، بما لا يدع مجالاً للشك، على علاقات الهند بدول الشرق الأوسط – حتى لو أنّ مودي يميل إلى الاعتقاد، حسبما قال سفيرٌ هنديٌ سابق في المنطقة، بأنّ “الدول العربية مشغولة جداً بقتالها بعضها البعض وإيران بحيث لن تأبه لزيارته”.

ومن خلال الاجتماعات التي عقدت مؤخراً مع أعضاء من المجتمع المدني ودبلوماسيين ومسؤولين سابقين في نيودلهي، وبمساعدة من زملائنا في بروكنجز الهند، وضعنا رؤية أكثر دقة لعلاقات الهند بالشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الزيارة المرتقبة لإسرائيل لا يزال بالوسع (بل لا بدّ) أن تُستخدم لتعميق المشاركة البناءة للهند مع سائر المنطقة، إلا أنها ليست كافية ولا تلبي المطلوب. فهي يجب أن تشكل جزءاً من خطةٍ أوسع لتجديد علاقة الهند بالمنطقة.

إن التحديات التي تواجه الهند والشرق الأوسط، فضلاً عن الحاجة إلى صياغة استراتيجية شمولية للتعامل، قد شكلت أساس حلقة الحوار المفيد التي عُقدت في إطار التعاون المشترك بين مركز بروكنجز الدوحة وبروكنجز الهند ومراكز أخرى. وأوضح الحوار الذي دار في الحلقة أن الجالية الكبيرة للمغتربين الهنود في الشرق الأوسط، بما تتمتع به من صورة إيجابية في المنطقة، تساعد على ضمان أن بلدان الشرق الأوسط منفتحة على تعزيز العلاقات.

أما ملف التعاون الأمني فهو يمثل أحد المجالات الرئيسية للتعامل. ففي العقد الماضي، أبرمت الهند اتفاقيات دفاع مع عددٍ من دول الشرق الأوسط، كل واحدةٍ على حدة، بما فيها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وسلطنة عمان. وفي الوقت نفسه، باتت الهند أكبر مشترٍ للأسلحة الاسرائيلية. وبعبارةٍ أخرى أوسع نطاقاً، تحتاج نيودلهي إلى أن تكون أكثر نشاطا في دعم النظام والاستقرار في المنطقة – وهذا الموقف سيكون أقلّ كلفة من الانتظار حتى تبلغ الصراعات مرحلة الغليان وتنذر الأمور بتهديدٍ لوجود الجالية الهندية الكبيرة في المنطقة.

وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تتبادل الهند خبراتها في تعزيز التعددية والتسامح مع دول الشرق الأوسط التي تعاني من الانقسامات الطائفية، وهي خبرات على الأرجح أكثر واقعية وارتباطاً بهذه الدول من أي نموذج غربي. وعلى الرغم من انتشار بعض أعمال العنف الطائفي بشكل متفرق في الهند، إلّا أن البلد الذي يبلغ عدد سكانه مليار وربع المليار نسمة لطالما قدّم نموذجاً للتعددية الديمقراطية في دول العالم النامية. وقد حققت الهند ذلك الإنجاز في ظل مواجهة الفقر الشامل والتنوع الهائل لديها في الفروق الثقافية والدينية والعرقية.

كما يمكن للهند أن تقدم خبرتها التقنية بعدة طرق. ونظراً للتطور السريع في قطاعات الخدمات المهنية والتعليم والاقتصاد المعرفي، فإن بإمكانها أن تعطي دروساً لدول الشرق الأوسط التي تتطلع إلى تنويع مصادر اقتصادها.

استغلال الخبرة

كما كشفت زيارتنا لنيودلهي عن الخبرة الكبيرة المتنامية في المجتمع المدني الهندي، لا سيما في مؤسسات الفكر. ويمكن تسخير هذه القوة لتعزيز العلاقات مع دول الشرق الأوسط وتقديم الخبرات الفنية للشركاء في هذه الدول.

وبينما تشرع الحكومة الهندية في إعادة النظر في علاقاتها مع المنطقة، فإنها ستستفيد بشكلٍ كبير من الاستخدام الأمثل للموارد الحالية. ونظراً للنقص في عدد العاملين في الخدمة الخارجية والخدمات الإدارية الهندية (حيث أن أي نموٍ في عدد الموظفين لا يواكب التوسع السريع للمصالح الخارجية الهندية)، يجب أن تعتمد الحكومة على الخبرات المتوفرة لدى كلٍ من مؤسسة أبحاث المراقبين ومعهد التحليلات والدراسات الدفاعية ومعهد دراسات السلام والصراع وبروكنجز الهند ومعهد تاتا لأبحاث الطاقة، ومنظمات أخرى غيرها. وإذا ما كانت الهند تطمح للنهوض إلى مكانة قوةٍ عظمى، فعليها أن تتعلم من القوة العظمى الوحيدة في العالم: الولايات المتحدة، التي لا نظير لحكومتها في قدرتها واستعدادها للاستفادة من المصادر الخارجية المتنوعة من الخبرات والنصائح.

إن ثروة الخبرات المتاحة في الهند تشكل أساساً لفرص التعاون في المستقبل مع باحثين من الشرق الأوسط. وسيساعد مثل هذا البحث في الفهم الأفضل لملامح العلاقة، ويمكن أن يخرج بتوصياتٍ لصانعي السياسات والمجتمع المدني حول كيفية تحقيق نتائج مفيدة متبادلة لشعوب كلا المنطقتين.