Commentary

صناعة السلام في سياسة قطر الإقليمية

ها هي العلاقات بين قطر والدول المجاورة تعود إلى سابق عهدها، فما هو إذاً مستقبل نهج الدوحة للتوسط في حلّ الصراعات الإقليمية؟ في ورقةٍ تحليليةٍ أصدرها مركز بروكنجز الدوحة مؤخّراً، استعرضتُ آفاق جهود الوساطة القطرية المتجددة وسط مشهد إقليمي يتغير بسرعة، مشدداً أنها ستكون خسارة للمنطقة إذا ما أدّت موجة التحولات السياسية التي تجتاح العالم العربي في نهاية المطاف إلى انعزال قطر أكثر من ذي قبل.

في السنوات التي سبقت اندلاع الثورات العربية في العام 2011، كانت قطر منشغلة في ترسيخ مكانتها كوسيط في الدبلوماسية الإقليمية. وقد تمكّنت قطر، من خلال استقرارها السياسي واقتصادها الغني وعلاقاتها الدبلوماسية مع أطراف محلية مختلفة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، أن تعتمد استراتيجية القوة الناعمة في العديد من المفاوضات رفيعة المستوى، بدءاً من تأمين اتفاق سلام رئيسي لصراع دارفور، مروراً بالسعي لتحقيق توافقاً سياسياً في لبنان، ووصولاً إلى التوسط بين الحكومة اليمنية والمتمردين الحوثيين.

شكّلت الثورات العربية فرصة جديدة لقطر لكي تلعب دوراً أكبر في تشكيل الاستجابات الإقليمية للأحداث التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط، مما أدى إلى تحول في سياستها الخارجية لتصبح أكثر تدخّلية. ومع ذلك، كان ينظر إلى هذه السياسات بأنها تتجاوز ما كان عليه الحال في السابق مما أثار ردود فعل كبيرة إقليميا ودوليا.

وقد أضرّ تدهور العلاقات القطرية مع دول مجلس التعاون الخليجي بسبب دعمها المتصوّر للجماعات الإسلامية بقدرة قطر على لعب دور الوسيط. بالإضافة إلى ذلك، وجدت قطر صعوبة في إدارة العلاقات بين كافة الأطراف أو المخربين المحتملين في صراعات المنطقة. خلال العام الماضي، واصلت قطر جهود الوساطة، وإن كان ذلك على نطاق أضيق، الأمر الذي أدى إلى اعتماد نمط لجهود الوساطة ركّزت على القضايا الأقل تعقيداً.

ومن بين هذه القضايا نذكر جهود الوساطة القطرية-اللبنانية التي تكلّلت بالإفراج عن راهبات معلولا الـ 13 اللواتي اعتقلهنّ المتمردون السوريون في وقت سابق من هذا العام، والإفراج عن الصحافي الأمريكي بيتر ثيو كورتيس الذي اعتقلته داعش. أما محاولاتها لتأدية دور أكبر في الصراعات الرئيسية في المنطقة – على غرار الإشارات الأولية من مسؤولين قطريين أنهم قد يلعبوا دوراً في إنهاء حرب غزة الصيف الماضي – أدت في نهاية المطاف إلى تهميش دور البلاد من قبل القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية ومصر.

وفي الآونة الأخيرة، سلّطت وسائل الإعلام الضوء على المفاوضين القطريين مرة أخرى عندما أعلنت وزارة الخارجية القطرية أنها ستوقف كل الجهود للتفاوض على إطلاق سراح 24 جندياً لبنانياً اعتقلهم متشددون إسلاميون في سوريا – بعضهم من قبل عناصر جبهة النصرة والبعض الآخر من قبل داعش – في عرسال، لبنان.

يمثّل قرار إنهاء المفاوضات خياراً عملياً عندما تبيّن أنها لن تتكلّل بأي نتائج إيجابية، بدلاً من الاستمرار فيها على أمل الاستيلاء على الأضواء مرة أخرى. كذلك، خلال العام الماضي، ركّزت قطر جهودها بشكل إساسي في لبنان، حيث يمكنها أن تستخدم اتصالاتها بين الأطراف السياسية السورية واللبنانية، في حين أنها تجنبت أن تتدخل في المفاوضات لإطلاق رهائن في اليمن بحسب ما ذكرته التقارير.

لكن ورغم هذه الانتكاسات، تقدّم المصالحة الواضحة في العلاقات الخليجية فرصة جديدة لقطر كي تعيد بناء قدراتها في الوساطة وتلعب دوراً قيادياً في معالجة الصراعات في المنطقة. فقد قامت قطر، على الأقل في الوقت الحاضر، بتقويم العلاقات مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وتصالحت على الأقل ظاهرياً مع النظام المصري الجديد.

سيكون من مصلحة قطر أن تواصل في اتخاذ مثل هذه الخطوات العملية من أجل تطوير استراتيجية أكثر وضوحاً للتوسط في حل الصراعات في المنطقة. لذا، لا بد أن تكون أكثر انتقائية في اختيار الوقت والمكان المناسبين للتوسط وأكثر شفافية. بالإضافة إلى ذلك، لا بد أن تعمل قطر أيضاً لتحقيق اللامركزية في جهود الوساطة من خلال بناء قدرات أكبر وكذلك تبني نهج تعاوني أوسع. وبغية تحقيق ذلك، على قطر أن تسعى إلى ضمان مشاركة المجتمع المدني وأصحاب المصلحة المحليين بهدف تطوير قدرات غير حكومية وبناء الدعم الشعبي للسلام المستدام.

قد يتطلّب الأمر وقتاً قبل أن تستعيد قطر سمعتها القديمة كوسيط، إلا أنّ جمع الدعم من الجهات المعنية الإقليمية والدولية على حدّ سواء يقع في مصلحتها الاستراتيجية. وهذا من شأنه طمأنة المنطقة والجهات الفاعلة المعنية الأخرى حول دوافع قطر للعب دور الوسيط ونزاهتها كوسيط. ونظراً لجهودها السياسية ونفوذها المالي اللذين تستخدمهما من أجل دعم تسويات طويلة الأمد ودائمة، يمكن أن تكون صناعة السلام مرة أخرى من بين العناصر الرئيسية لسياسة قطر الخارجية.