Research

تقييم صناعة القرار بشأن المركز الإسلامي في مدينة نيويورك: الحفاظ على تقاليدنا في ممارسة الحرية الدينية

مقدمة

أعلنت لجنة الحفاظ على المعالم بمدينة نيويورك أمس أنها لن تقوم باختيار المبنى الواقع في منطقة 45-51 بارك بليس في مانهاتن كأحد المعالم التاريخية. أجمعت اللجنة على أن المبنى، الذي لا يبعد أكثر من مبنين فقط شمال “جراوند زيرو”، لا يمتلك الأهمية التاريخية أو المعمارية كي يستحق مثل هذا الاختيار. وفي حين أن الرأي العام في الغالب لم يلتفت إلى قرار كهذا، إلا أن هذا القرار بالذات سيكون له تأثير، نظرًا لأنه سيمهد الطريق أمام مالكي العقار لهدم المبنى الحالي وبناء مركز إسلامي مكانه.

يعد هذا القرار واحدًا من قرارات عدة اتخذها المسؤولون في مدينة نيويورك بهدف التعامل مع بناء المركز الإسلامي المخطط لبنائه بنفس الطريقة التي كانوا سيتعاملون بها مع جميعة للشبان المسيحيين أو مركز للجالية اليهودية في هذه المنطقة. وباتخاذ هذا القرار، أبدى هؤلاء المسؤولون احترامهم للمبادئ الرئيسية للحرية الدينية.

ونظرًا لوجود قادة آخرين في الدولة يواجهون قضايا ذات صلة، فجدير بنا أن ننظر إلى هذا المثال الرائع الذي ضربه المسؤولون في مدينة نيويورك. وكما أن ثورة الرأي العام حول قضية المركز الإسلامي المخطط له لم تتوقف بعد، فهناك تقييم يجري لهذا الجدل أيضًا.

التعديل الأول للدستور وقانون الانتفاع بالأراضي والمؤسسات الدينية

يمنع التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الدولة من نبذ معتقدات معينة بسبب ضعفها. في عام 1993، على سبيل المثال، قالت المحكمة العليا للولايات المتحدة: “كحد أدنى، تظل الحمايات الممنوحة لممارسة الحريات مستمرة إذا كان القانون موضوع المناقشة يتحيز ضد بعض أو كل المعتقدات الدينية …” وهذا يشمل التمييز “المُقنّع وكذلك العلني”.

من ناحية أخرى، ينص أحد القوانين الفيدرالية، الذي يتعامل بشكل خاص مع قانون الانتفاع بالأرض والمؤسسات الدينية بوضوح على ما يلي: “لا تفرض أية حكومة أو تنفذ لائحة بشأن الانتفاع بالأرض يكون من شأنها التمييز ضد أية جمعية أو مؤسسة على أساس الدين أو الطائفة الدينية”. وسواءٌ أكان الكيان مسلمًا أو مرمونيًا أو ميثوديًا، فقد أقر الكونجرس أن التمييز القائم على المعتقدات الدينية الذي تمارسه الحكومة يتعين ألا يتم التسامح فيه.

لذلك، إذا أقدم مسؤولو الحكومة على رفض أوتعطيل خطط لبناء مساجد أو مراكز إسلامية أخرى بسبب الانتماء الديني، فإنهم بذلك ينتهكون القانون التشريعي الفيدرالي والدستور. وهذا صحيح سواءٌ أكان التمييز ظاهرًا أم مستترًا في صورة بعض الاحتجاجات على أشياء كالمرور والشكل الجمالي والضوضاء.

وبالطبع، فإن الالتزام بمعاملة كل الأديان معاملة واحدة لا يوثق أيدي الحكومة فيما يتعلق بتهديدات معينة ومعقولة بالعنف. لنأخذ مثالاً وقع مؤخرًا، في مارس 2010، اتهمت هيئة محلفين فيدرالية كبرى أعضاءَ من جماعة ميشيغان المسلحة بتهمة التؤامر على مهاجمة الشرطة واستخدام أسلحة الدمار الشامل. كانت هذه الجماعة تُعرف باسم “هيوتاري،” وكان يصف أعضاؤها أنفسهم بالجنود المسيحيين الذين يستعدون لقتال المسيح الدجال. لا شك أن هذا لم يوقف تنفيذ القانون واتخاذ اللازم.

مثال مدينة نيويورك

وفي جلسة استماع سادها التوتر انعقدت في مايو 2010، رفض مجلس مدينة نيويورك مذكرة بتأخير التصويت على بناء المركز الإسلامي وقام بتأييد المشروع بعد أغلبية 29 صوتًا مقابل صوتًا واحدًا وامتناع عشرة أعضاء عن التصويت. قال ريموند كيلي مأمور شرطة نيويورك أنه لم تكن هناك أية مخاوف أمنية من بناء المركز الإسلامي في هذه المنطقة، ورفض مسؤولو المدينة فكرة اتهام الإسلام بإثارة العنف.

وعندما اقترح البعض لاحقًا أن على المدينة أن تنتزع ملكية الأرض المحيطة بجراوند زيرو من أجل المصلحة العامة بغية وقف بناء المركز الإسلامي، قال مكتب المحافظ ديفيد باترسون أن عملاً كهذا يعد “خرقًا واضحًا للبنود المتعلقة بالدين في التعديل الأول، انتهاكًا جسيمًا لروح نص نزع الملكية العامة للملحة العامة في قانون الدولة والغرض منه، و (من الممكن) أن تتناقض مع الأحكام الدستورية وقوانين الولايات والقوانين الفيدرالية والأحكام الدستورية الأخرى”، وقد كان محقًا. فيما اقترح آخرون إجراء تحقيق خاص حول مصادر تمويل هذا المشروع، حتى بالرغم من إقرارهم بعدم وجود دليل على أية مخالفة. ورفض النائب العام أندرو كومو هذه الفكرة تمامًا ووصفها بالسيئة.

وعندما طُرحت القضية أمام لجنة الحفاظ على المعالم، حاول الكثيرون صرف انتباه الهيئة إلى قضايا أخرى ليست جزءًا من اختصاصها القضائي. ولكن اللجنة لم تلتفت إلى شيء من هذا. وقالت إليزابيث دي بوربون، المتحدثة باسم الهيئة، أن الجدل الدائر حول المركز الإسلامي “مستقل تمامًا” عن اختصاص اللجنة، فما كنا نبحث عنه هو ما إذا كان هذا المبنى يمثل أهمية تاريخية ومعمارية لمدينة نيويورك كي يستحق اختياره كأحد معالم المدينة”.

ويعد مايكل بلومبيرج – عمدة مدينة نيويورك – أحد شخصيات مانهاتن المعروفة بالمواقف والمبادئ الراسخة المؤيدة لهذا المشروع. في حين نوهت المحافظة السابقة لولاية ألاسكا ساره بالين إلى ضحايا الحادي من أيلول/سبتمبر وحثت المسلمين على معارضة المشروع، نوه بلومبيرج إلى وجود أمريكان مسلمين من بين الضحايا. وقال لقد كانوا أيضًا جزءًا من المجتمع في لور مانهاتن ولذلك فمن حقهم البناء هناك. وعندما قال نيوت غينغريتش أنه لا ينبغي أن يكون هناك مساجد بالقرب من جراوند زيرو في نيويورك طالما أنه لا يوجد كنائس أو معابد يهودية في المملكة العربية السعودية، استشهد العمدة بلومبيرج بتأسيس دولتنا. وقال “إذا أراد شخص أن يبني دارًا للعبادة الدينية، يحق له القيام بذلك، ولا ينبغي علينا أن نتخذ موقفًا تجاريًا للانتقاء من بين الأديان أيها ينفع وأيها لا”. وواصل بلومبيرج حديثه قائلاً: “من المعروف أن القدرة على ممارسة دينك كانت من الأسباب الأساسية التي تأسست عليها أمريكا. وبالنسبة لنا إذا قلنا “لا” فنحن لسنا منصفين، إذا صح التعبير”. وصاح العمدة بأنه يتم الضغط على المسؤولين في مدينة نيويورك طيلة الوقت من أجل وضع عوائق خاصة أمام هذا المشروع لأنه مرتبط بالإسلام.

توج بلومبيرج هذه الجهود بإلقاء خطاب مثير أمس في جزيرة غفرنرز. حيث قال العمدة: “قامت هذه الأمة على مبدأ أن الحكومة يجب ألا تختار مطلقًا من بين الأديان أو تحابي واحدًا على حساب الآخر.” وأضاف أن مثل هذه المعارك تعد “اختبارًا مهمًا لفصل الدين عن الدولة كما قد نرى في حياتنا،” وقال “من الأهمية القصوى أن نفهم ذلك جيدًا.” لقد فعل العمدة بلومبيرج ذلك هنا.

إهانة أم دفعة للأمام؟

الآن، وبعد أن قالت لجنة الحفاظ على المعالم كلمتها، من المحتمل أن يركز المعارضون لبناء المركز الإسلامي كثيرًا على الإدعاء القائل بأنه إذا كان لمالكي العقار الحق القانوني في المضي قدمًا، فليس بالضرورة أن يفعلوا ذلك لأن المشروع مستفزًا و ضارًا. ولذا، يقول المعارضون أن عليهم أن يتوقفوا عن تنفيذ خططهم.

لو كان رعاة المركز الإسلامي يتعاطفون مع منفذي أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لكان لهذا الجدال معنى. ولكنهم قالوا بعكس ذلك تمامًا. فقد أكد أحد الأئمة القائمين على المشروع وهو الشيخ فيصل عبد الرئوف على أن منظمي المشروع قد أدانوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر، و”نحن ندين الإرهاب بكل العبارات الصريحة”. وطبقًا لما قاله الإمام فيصل أن رعاة المركز الإسلامي يريدون “التصدي للمتطرفين،” والمساعدة “في توطيد العلاقات والتئام الجروح بين المسلمين والأديان الأخرى”. قالت وكالة الاستخبارات الأمريكية أن رءوف قد ساعد عملائها في مدها بمعلومات عن مسلمين في غضون أحداث الحادي عشرمن سبتمبر: أشار متحدث باسم وكالة الاستخبارات “لقد كان بيننا وبينه تعاونًا إيجابيًا في الماضي،” . وقد أكدت ديزي خان زوجة الإمام فيصل، وأحد أعضاء الفريق الاستشاري في المتحف والنصب التذكاري لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، على جهودهم “في فصل الإسلام عن أعمال الإرهاب”. ولقد وعد شريف الجمل، أحد المطورين الرئيسيين لهذا المشروع وهو من أول المستجيبين الذين ساعدو في 9/11، بأنه لن يكون هناك مكان للكراهية والتطرف” في هذا المسعى.

وفي رد له على أحد الأسئلة المتعلقة بجمع الأموال قال شريف الجمل “نحن مقدمون على تأسيس كيان لا يسعى للربح، ولم نتلقى أية معونات مالية من حكومات أجنبية”. ومع المضي قدمًا، وعد الجمل “بالتأكد من أن عمليات جمع المال والتخطيط ستتضمن أناسًا من جميع أنحاء المدينة، وللقيام بذلك بطريقة يكون من شأنها الاستماع إلى المخاوف والاستجابة لها “. وأخبر الجمل وكالة سي إن إن أن منظمي المشروع “سوف يظهرون بشفافية تامة طوال العملية”. وقد وجه الجمل دعوة مفتوحة لكل الأمريكان، بما فيهم المحافظة السابقة لولاية ألاسكا سارة بالين، لزيارة المجمع ومعرفة المزيد عن الخطط. وقال: “أود أن تحضر السيدة سارة بالين إلى بارك 51 لرؤية مجمّعنا… إننا نرحب بكل شخص يهتم بهذه المدينة وبهذه الدولة”.

ونظرًا لكل هذه التصريحات المتنوعة، فمن غير المستغرب أن تحدث عدد من الزعماء الدينيين في مدينة نيويورك لصالح المشروع. حيث قال الأب كيفن ماديجان من كنيسة القديس بطرس: “أعتقد أنهم بحاجة إلى إنشاء مثل مراكز كهذا لذوي النوايا الحسنة من الديانة المسيحية واليهودية والمسلمة حتى نتمكن من تفعيل الحوار بين الأديان”. فيما أخبر جوي ليفيت، المدير التنفيذي لمركز الجالية اليهودية في مانهاتن، جريدة نيويورك تايمز قائلاً: “سوف يكون أمرًا في غاية الأهمية إذا حظي مركز الجالية اليهودية بشركاء في الجالية المسلمة لدعم مشاركة الرؤية التعددية والتسامح.” وقد تجمع جمهور من الزعماء الدينيين المحليين أمس لدعم خطط بناء المركز الإسلامي، بما في ذلك زعماء من الأبرشية الأرثوذكية اليونانية، ومجلس الجالية اليهودية، وكنيسة القديس فرانسيس الأسيزي، والمركز القومي اليهودي للتعلم والقيادة، وكنيسة الثالوث، وكنيسة الناصري، والمركز الثقافي الإسلامي في نيويورك، والكنيسة البوذية بمدينة نيويورك، واتحاد الوكالة اليهودية المتحدة، ومركز حوار الأديان في نيويورك. .

وبعد تمتع مشروعهم بهذه الروح، وبعد تقديم هذه الوعود، أود أن أحث الأمريكيين على الترحيب بجهود المنظمين. وكما أشير أعلاه، فإن المعارضين لهذا المشروع يقولون بأن رموز الإسلام ومؤسساته تخلق نوعًا من الألم نظرًا للاتهام الموجه لهم بصلتهم بهجمات 11/9. ولكن أيضًا هناك العديد من المسلمين الذين يدينون الإرهاب ويطالبون هذه الرموز والمؤسسات – وهم فعلوا ذلك قبل 11/9 ولا زالوا يفعلونه حتى اليوم. إذا رفض الأمريكيون الجهود الضخمة التي يبذلها المسلمون الذين يرفضون الإرهاب في إصلاح معتقدهم، فإننا نعطي منفذو هجمات 11/9 وأمثالهم الفرصة لاحتكار رموز ومؤسسات الإسلام. وسيوفر هذا للمتطرفين الذي يمارسون العنف وسيلة تجنيد فعالة ، وسيكون ظلمًا شديدًا للغالبية العظمى من المسلمين الذين يمارسون دينهم في سلام.

صنع السلام وبناء التضامن

وكغيرها من المدن والبلدان التي تنظر في خطط بناء مساجد ومؤسسات إسلامية في مجتمعاتها، ينبغي أن يقرأ هؤلاء دراسة مدتها عامان أجراها عالم جامعة ديوك ديفيد سكانزير عن الأمريكيين المسلمين والإرهاب. وجد الأستاذ سكانزير وزملاؤه أن “المنظمات الأمريكية المسلمة والغالبية العظمى من الأفراد الذين قابلناهم يرفضون بشدة الفكر المتطرف الذي يبرر استخدام العنف لتحقيق غايات سياسية”. واكتشفوا أيضًا أن المسلمين الأمريكان قد اتخذوا عددًا من الخطوات الإيجابية لتقليل احتمالات التطرف. وبالإضافة إلى الإدانة العلنية والمستترة للأحداث الإرهابية، فقد قاموا بتحذير المصلين من عمل دعايا، وفحص هوية الخطباء المرشحين للمساجد، والاستعراض المسبق للنصوص التي سيتم إلقاؤها في خطبة الجمعة، ومنع خطباء معينين عن مجتمعاتهم. وقاموا بتدعيم ورش العمل المناهضة للإرهاب وتوفير المنتديات للشباب من أجل تجنب أية مشاكل محتملة. كما أدلى المسلمون الأمريكيون أيضًا بمعلومات لتنفيذ القانون في حق أفراد من المحتمل أن يكونوا متورطين في أعمال إرهابية. وبالتالي، فإن إحباط بناء المجتمعات الأمريكية المسلمة يعني إحباط بعض أفضل أسلحتنا للقضاء على التهديدات الإرهابية.

ينبغي أيضًا أن يقوم المسؤولون المحليون الذين يواجهون قضايا من هذا القبيل بدراسة مثل هذا النموذج في مدينة نيويورك. ومع تعرضهم لضغط هائل للقيام بخلاف ذلك، لا يزال مسئولو المدينة يؤكدون على أهمية تطبيق الحكومة لنفس المعايير مع كل الأديان، وهو المحور الذي تدور حوله التقاليد الأمريكية للحرية الدينية. وقد ساعد الإلتزام بهذا المبدأ في تحقيق السلام وبناء التضامن في بلد تُمارس فيه مجموعة مذهلة من المعتقدات، في كثير من الأحيان بحماسة كبيرة، بل وكثيرًا ما تكون تُمارس هذه المعتقدات جنبًا إلى جنب. وعلى النقيض من اقتراحات نيوت غينغريتش، فإن توفير هذا القدر من الحرية الدينية لم يجعلنا “ضعفاء” أو “مذعنين”، بل جعلنا أقوياء.