Research

أوروبا ومستقبل سياستها إزاء إيران: التعامل مع أزمة ثنائية

Iran's Foreign Minister Mohammad Javad Zarif arrives at the EU council in Brussels, Belgium May 15, 2018.

منذ توقيع خطّة العمل الشاملة المشتركة، تابعت الدول الأوروبية الثلاثة، أي ألمانيا وفرنسا والمملكة المتّحدة، والاتّحاد الأوروبي اعتمادها سياسة التقارب مع إيران. ومنذ انسحاب الولايات المتّحدة، بات مستقبل خطّة العمل الشاملة المشتركة معرّض للخطر. يقدّم موجز السياسة هذا مراجعة نقدية لسياسة التعاون والتقارب التي تعتمدها أوروبا مع إيران. ويشدّد على ضرورة أن تعالج سياسة الاتّحاد الأوروبي إزاء إيران أزمتَين: أوّلاً، سياسة أمريكية إزاء إيران تتناقض مع تلك التي تعتمدها أوروبا، مع عمل القوى عبر الأطلسية نحو مساعٍ متعارضة، وثانياً، جمهورية إسلامية تواجه أزمة حادّة في الداخل. وفي ما يتعلّق بواشنطن، يوصي موجز السياسة هذا أن تتعاون أوروبا مع واشنطن في شأن سياسة إيران، فتعمل عمل العنصر المصحّح. وفي ما يخصّ طهران، يجدر بأوروبا أن تعتمد استراتيجية ثنائية تقضي بتعاون مستمرّ مع استخدام نفوذها المستمدّ من أفضلياتها المقارنة لتشجيع تصحيحات في المسار الإيراني. وقد تجمع سياسة تجاه إيران كهذه بين البرغماتية والمثالية كما هو مثبّت في الاستراتيجية العالمية للاتّحاد الأوروبي.

أهمّ التوصيات

الحفاظ على خطّة العمل الشاملة المشتركة لسببين: (1) سيساعد احتواء البرنامج النووي الإيراني على تفادي سباق نحو التسلّح النووي في الشرق الأوسط، و(2) يحرص الحفاظ على خطّة العمل الشاملة المشتركة على أن يحتفظ الاتّحاد الأوروبي بنفوذ على إيران.

إشراك واشنطن: لا يجدر إلغاء السياسة عبر الأطلسية في شأن إيران لأنّه من المرجّح أن تدوم الهواجس حول السياسة الإيرانية إلى ما بعد انقضاء فترة إدارة ترامب. لذلك، على الاتّحاد الأوروبي أن يستكمل في الوقت عينه مشروع استقلاليته الاستراتيجية.

استخدام الاتّحاد الأوروبي لنفوذه مع إيران بالاستناد إلى أفضلياته المقارنة: على الاتّحاد الأوروبي ألّا يتوانى عن تقديم شروط للتعاون. وباعتماده مقاربة ثابتة، سيقدّم محفّزاً مهمّاً لطهران لكي تبدأ بتغيير سلوكها. وعلى الرغم من رفض طهران الرسمي بالالتزام مع بروكسل في المسائل المحلّية ودورها الإقليمي، سيشجّعها هاجسٌ فعلي حول عدم الاستقرار الاقتصادي المحلّي على القبول بسعي الاتّحاد الأوروبي إلى إحداث تغييرات تدريجية.

تفادي المحسوبية الداعمة للنظام: يجدر بالاتّحاد الأوروبي أن يتّخذ موقفاً واضحاً يتوافق مع قيمه ويدعم حقوق الشعب الإيراني الديمقراطية. وفي حال ترك الاتّحادُ الأوروبي الساحةَ لواشنطن، قد يصبّ ذلك في مصلحة أجهزة النظام القمعية. وينبغي على الاتّحاد الأوروبي أن يشير لنخبة إيران القمع الذي تمارسه الدولة سيؤثّر سلباً في التزامها ودعمها الاقتصاديّين والسياسيّين.

الشروع في تحوّلٍ آن أوانه في التفكير نحو تنسيق سياسات خارجية وإنمائية: عجز الاستقرار السلطوي والسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة السابقان عن تأمين الاستقرار في البلدان المجاورة لأوروبا، بما فيها إيران. لذلك، يجدر بالاتّحاد الأوروبي أن يحضّر الآن الأسس المفاهيمية من أجل تحقيق تحوّل في التفكير في سياسته الخارجية.

موجز السياسة

المقدّمة

لقد أدّى قرار الانسحاب الأحادي الذي اتّخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خطّة العمل الشاملة المشتركة في 8 مايو 2018 ثمّ إعلان وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو في 21 مايو عن سياسة جديدة في شأن إيران إلى طرح علامة استفهام حول مدى إمكانية استمرار هذه الاتفاقية المتعدّدة الأطراف. ويشكّل هذا التطوّر تحدّياً كبيراً لسياسة التعاون والتقارب الأوروبية مع إيران. فقد قدّم بومبيو اثنَي عشر مطلباً مغالى فيها، داعياً إيران إلى وقف برامج صواريخها البالستية والنووية ووقف تدخّلها الإقليمي. وترافقت هذه الدعوة بتغيير في خطاب النظام وبحملة علاقات عامّة تشكّك بشرعيّة الجمهورية الإسلامية. غير أنّ الإدارة الأمريكية تصرّ على أنّها لا تسعى سوى إلى تغيير سلوك النظام. ويكمن جوهر استراتيجية الضغط الأقصى التي تمارسها واشنطن بحقّ طهران في إعادة فرض العقوبات الخارجية الأمريكية في جولتين، الجولة الأولى في أوائل أغسطس والثانية، وهي الأهمّ، في أوائل نوفمبر 2018 وهي تستهدف صادرات النفط الإيراني (راجع الرسم البياني 1) ومصرف إيران المركزي.

Graph 1 Arabic

وبدأ التأثير الاقتصادي للعقوبات الأمريكية يظهر حتّى قبل إعادة فرضها. فقد أُجبرت الكثير من الشركات والمؤسّسات المالية الأوروبية على وقف أنشطتها مع إيران فيما تدهورت العملة الوطنية الإيرانية.

وفي الوقت الذي بدأت فيه العقوبات الأمريكية تشكّل عبئاً كبيراً على الاقتصاد الإيراني المتأزّم، لا يزال الغموض قائماً حول الهدف النهائي لاستراتيجية الضغط الأقصى التي تمارسها إدارة ترامب. فهل هي تسعى إلى تدمير النظام أم إلى إجباره على تغيير سلوكه من خلال سياسة احتواء عدائية للحدّ من قدراته الهجومية والدفع به في نهاية المطاف إلى الخضوع للمطالب الأمريكية؟ ويوحي عرض الرئيس ترامب في يوليو 2018 القاضي بإبرام اتّفاقية جديدة مع طهران من دون أيّ شروط مسبقة بأنّ الإدارة تسعى إلى تحقيق الهدف الثاني. غير أنّ هذا الاستعداد يتعارض مع مطالب وزير الخارجية الأمريكية الاثني عشر، ممّا يصعّب على القيادة الإيرانية الدخول في نقاشات علنية وحفظ ماء الوجه في الوقت عينه. لكن على الرغم من رفض المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي دخول النقاشات، لا يمكن استبعاد هذه النقاشات نظراً إلى تأثير العقوبات الأمريكية الكبير والشامل. فلم تعد إيران تستفيد سوى بالقليل مما تبقّى من خطّة العمل الشاملة المشتركة في خضمّ أزمة محلّية حادّة. وقد تؤمّن عُمان وسويسرا قنوات خلفية لهذا النوع من النقاشات.

وقد يكون الغرض فعلاً من سياسة واشنطن الجديدة في شأن إيران الدفع بطهران للانسحاب من خطّة العمل الشاملة المشتركة وإجبارها على القبول باتّفاقية جديدة. غير أنّ انسحاب إيران من هذه الخطّة لا يتحقّق سوى في ظروف خاصّة، مثل أن يؤدّي خرقٌ مادّي للاتّفاق إلى إلغاء قرار المجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة المعني بتعليق العقوبات الدولية. بالتالي، يُعاد فرض عقوبات الأمم المتّحدة فيما تخسر طهران دعم الشركاء المتبقّين لها في الاتّفاقية (الاتّحاد الأوروبي وروسيا والصين).

ودخلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأزمة الأكثر حدّة في تاريخها. فقد نشبت الثورة والاحتجاجات الجارية في خلال العام 2017/2018 نتيجة التحدّيات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والبيئية المترابطة، فبلغت ذروة لا سابق لها. ومن المرجّح أن تتسبب الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في تفاقم أزمة إيران الداخلية، فتساعد في الوقت عينه على تعزيز السلطوية في طهران. ومع أنّ فرص التزام إيران بمطالب بومبيو حول السياسات الإقليمية شبه معدومة، قد تمهّد الأزمة غير المسبوقة في إيران وتضاؤل الموارد الطريقَ أمام تنازلات إيرانية.

في غضون ذلك، عبّرت أوروبا عن نواياها في إنقاذ خطّة العمل الشاملة المشتركة وأفصحت عن معارضتها للسياسة الأمريكية في شأن إيران. غير أنّها لا تستطيع أن تتجاهل أنّ سياسة الضغط الأقصى التي تمارسها واشنطن تتحدّى سياستها الخاصّة في موضوع إيران القائمةَ على التعاون والتقارب. على ضوء هذه الخلفيّة، ينبغي على سياسة الاتّحاد الأوروبي المتعلّقة بإيران أن تعالج هذين التحدّيَين الأساسيَّين: التوجّه الجديد للسياسة الأمريكية، بالإضافة إلى أزمة إيران المحلّية غير المسبوقة.

أوروبا وإيران: مصالح الاتّحاد الأوروبي ونقاط قوّته ومعوّقاته

تشمل مصالح الاتّحاد الأوروبي المتعلّقة بإيران (1) المحافظة على الاستقرار في منطقة الخليج التي لا تزال منطقة مهمّة بشكل كبير لإمدادات النفط وأسعاره العالمية، و(2) حلّ الصراعات في الشرق الأوسط، أقلّه بهدف تفادي تدفّق المزيد من اللّاجئين إلى أوروبا نتيجة عدم استقرار الدول وانهيارها، و(3) تنويع إمدادات الاتّحاد الأوروبي من الطاقة من خلال زيادة الواردات الإيرانية وتخفيض اعتماد أوروبا الكبير على الطاقة من روسيا، و(4) تعزيز صادرات سلعه الصناعية من خلال توسيع العلاقات الاقتصادية مع إيران في وقت سجّلت معدّلات النموّ الأوروبية أرقاماً منخفضة على مدى العقد المنصرم.

وفي خلال تعاملات الاتّحاد الأوروبي مع منطقة الخليج، أيّد تقرير الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي، الصادر بعد عام واحد على توقيع خطّة العمل الشامل والمشترك، التزاماً متوازناً:

سيتابع الاتّحاد الأوروبي التعاون مع مجلس التعاون الخليجي والبلدان الخليجية منفردة. وانطلاقاً من الاتّفاق النووي الإيراني وعملية تنفيذه، سيُشرك الاتّحادُ الأوروبي أيضاً تدريجياً إيران في مجالات مثل التجارة والأبحاث والبيئة والطاقة ومكافحة الاتّجار والهجرة والتبادلات المجتمعية. وسيعزِّز الحوارَ مع إيران وبلدان مجلس التعاون الخليجي حول الصراعات الإقليمية وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، ساعياً لتفادي انتشار عدوى الأزمات القائمة ومعزّزاً التعاون والدبلوماسية.

غير أنّ أهداف السياسة هذه بمعظمها لا تعكس الغايات التي يتبنّاها علناً الكثير من صانعي السياسات الأوروبيّين الذين يعتقدون أنّ الالتزام بالتجارة والتقارب مع إيران من المفترض أن يسهم في تسهيل التغيير هناك.

وتكمن نقاط القوّة لعلاقة أوروبا مع إيران في الدور الرئيسي الذي اضطلعت به أوروبا في تحديث البنية التحتية الصناعية لإيران، وفي السمعة الحسنة التي تتمتّع بها لدى مختلف الأطياف السياسية في الجمهورية الإسلامية، وفي دورها المهمّ في مساعدة طهران على تحسين مكانتها في النظام الدولي. ومن المهمّ أن تدرك أوروبا أيضاً بأنّها القوّة الوحيدة التي بإمكانها أن تقدّم لإيران المنافع الاقتصادية التي تسعى إليها. وتشكّل في الواقع هذه الأفضليات المقارنة نفوذَ الاتّحاد الأوروبي في علاقاته مع طهران عند المقارنة مع قوى عظمى غير غربية.

ليس في وسع إيران تحمّل فقدان أوروبا

على الرغم من أنّ اتّباع واشنطن نهجاً متشدّداً مع إيران قد قوّى أوساط متشدّدة في إيران معادية لخطّة العمل الشاملة المشتركة، يُظهر قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية استعداداً للإبقاء على الاتّفاقية. ففي 23 مايو، طلب المرشد الأعلى الإيراني من أوروبا أن تقدّم ستّ ضمانات ملموسة. وتشمل هذه الضمانات زيادة واردات الاتّحاد الأوروبي للنفط من إيران للتعويض عن العقوبات التي أعادت الولايات المتّحدة فرضها، من دون ذكر مسألة برنامج الصواريخ البالستية الإيراني وسياسات إيران الإقليمية. ويشير قلقُ الخامنئي الصريح إزاء خسارة إيرادات الصادرات النفطية (راجع الرسم البياني 2)، ولا سيّما في سياق الأزمة الاقتصادية الحادّة في البلاد، بالإضافة إلى نيّته المعلنة في الالتزام بخطّة العمل الشاملة المشتركة بمساعدة الاتّحاد الأوروبي، إلى أنّ الجمهورية الإسلامية تحتاج إلى أوروبا لحاجاتها الخاصّة، ومن أجل مساعدتها على التخفيف من حدّة الضغط الأمريكي. وتبقى النقطة الأخيرة سياسة لطالما اعتمدتها إيران ما بعد الثورة.

Graph 2الاتّحاد الأوروبي وإدارة ترامب: ضرورة وضع سياسة عبر أطلسية في شأن إيران

قد يبدو من الصعب ردم الهوّة بين موقفَي الاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة في شأن إيران. وعلى الرغم من صعوبة تصوّر فكرة أن يبرز تعاونٌ عبر أطلسي في موضوع إيران على أنقاض انسحاب واشنطن القاطع من خطّة العمل الشاملة المشتركة والمطالب القصوى تجاه طهران، تدفع عواملُ متعدّدة الطرفَين على إيجاد حدٍّ أدنى لأرضية مشتركة بينهما.

فليس بمقدور الاتّحاد الأوروبي أن يتجاهل سياسة الولايات المتّحدة على الرغم من أنّ هدفه المُعلَن هو أن يشقّ مساره الخاصّ في ما يتعلّق بسياسة إيران. والأسباب خلف ذلك مهمّة: أولاً، من الناحية الاقتصادية، ستقلّل العقوبات الأمريكية المعاد فرضها من أهمّية الالتزام الأوروبي الاقتصادي مع إيران، نظراً إلى الهيمنة الأمريكية في النظام المالي الدولي وإلى صغر حجم علاقات الاتّحاد الأوروبي التجارية مع إيران مقارنة بتلك التي تربط الاتّحاد الأوروبي بالولايات المتّحدة (راجع الرسمَين البيانيَّين 3 و4)، وثانيا، من الناحية الجيوسياسية، تشكّل سياسة الضغط الأقصى الأمريكية تحدّياً هائلاً بالنسبة إلى سياسة التعاون والتقارب التي يمارسها الاتّحاد الأوروبي. لكن نظراً إلى غاية الاتّحاد الأوروبي المُعلَنة بنشر الاستقرار في غرب آسيا، من مصلحته أن ينتقد أكثر سلوك إيران الإقليمي. بالفعل، لقد قوّضت علاقته الأوثق مع طهران قدرته على المساعدة بفعاليّة في تخفيض العداوة الإقليمية الإيرانية السعودية، ممّا يؤثّر تأثيراً بالغاً في ساحات صراع متعدّدة في أنحاء المنطقة، بما فيها لبنان وسوريا والعراق والبحرين واليمن. وثالثاً، لا يمكن أن يقتصر سبب الفجوة القائمة بين الاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة في شأن إيران على الرئيس ترامب وحده، فمن المرجّح أن تستمرّ الهواجس المتعلّقة بالسلوك الإيراني إلى ما بعد الإدارة الأمريكية الحالية، نظراً إلى استمرار سياسات طهران الإقليمية. وحتّى في حال مغادرة ترامب، سيتعيّن على الاتّحاد الأوروبي أن يتعامل مع مسائل مقلقة متعدّدة يثيرها حلفاؤه وشركاؤه الذين سيضغطون من أجل اتّباع مقاربة أكثر حسماً من تلك التي تفضّلها أوروباً عادةً. ولهذا السبب صدر القرار في مرحلة مبكرة من أجل دمج خطّة العمل الشاملة المشتركة ضمن سياسة إقليمية غربية أوسع. لذلك، تكمن مصلحة الاتّحاد الأوروبي الاقتصادية والجيوسياسية في تشجيع العثور على أرضية مشتركة عبر أطلسية حيال إيران والمنطقة.

Graph 3

 

Graph 4 أوروبا الاقتصادية تتفوّق على أوروبا السياسية

لقد شجّعت بروكسل صراحةً الشركات الأوروبية على استكمال الروابط التجارية مع إيران لا بل على توطيدها، مسلّطةً الضوء على تسعة مجالات لتطبيع العلاقات التجارية والاقتصادية مع إيران. في هذا السياق، حدّث الاتّحاد الأوروبي آليات الحماية من قيود العقوبات (Blocking Statute) للشركات الأوروبية التي لها تعاملات مالية مع إيران من العقوبات الأمريكية الخارجية التي أعيد فرضها. وحدّث أيضاً الاتّحاد الأوروبي معايير الإقراض الخارجي التابع لبنك الاستثمار الأوروبي من خلال منح إيران أهليّة القيام بأنشطة استثمارية على الرغم من أنّ ذلك لا يزال مسعىً معقّداً.غير أنّ السياسيّين الأوروبيّين لا يتمتّعون بالقوّة الكافية لإجبار الجهات الفاعلة الاقتصادية الأوروبية على القيام بأنشطة تجارية مع إيران نظراً إلى تهديد العقوبات الأمريكية. واستناداً إلى حسابات الكلفة والعائد، سبق أن أوقفت الكثير من الشركات الأوروبية أنشطتها مع إيران خوفاً من الغرامات الأمريكية، أكانت ماليّة أم كانت تقضي بإقصائها من السوق الأمريكية المهمّة أكثر بكثير.

لكن من الضروري التفرقة بين الشركات المتعدّدة الجنسيات الأوروبية والمؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة. فانفتاح الشركات المتعدّدة الجنسيات على الولايات المتّحدة أجبرها على وقف عمليّاتها مع إيران، متخلّيةً بذلك عن مخطّطاتها التوسّعية. أمّا المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة، فتستطيع أن تكمل أعمالها. فبالنسبة إلى ألمانيا، الشريك الاقتصادي الأوروبي الأهمّ لإيران بحيث 5 إلى 7 آلاف شركة ألمانية تعمل بانتظام مع إيران، حافظت التجارة الألمانية الإيرانية على استمراريتها بدعم من المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة. وحتّى عندما بلغت عقوبات الأمم المتّحدة والولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي ذروتها على إيران بين العامَين 2012 و2015، صدّرت ألمانيا سلعاً وخدمات بلغت قيمتها حوالي مليارَي يورو سنوياً.

ومن أجل أن يستمرّ الالتزام الاقتصادي الأوروبي مع إيران، على الاتّحاد الأوروبي أن ينشئ قنوات تسديد معزولة عن الدائرة المالية التي تخضع للهيمنة الأمريكية، وتضطلع المصارف المحلّية بدور هام لكنّها تحتاج إلى مصرف تجاري أوروبي أكبر ليجري هذا النوع من التسديدات. وفي الوقت الحالي، حافظت الشركات الأوروبية على الحدّ الأدنى من حضورها في إيران، معتمدةً بذلك مقاربة التريّث والترقّب حتّى تتّضح الصورة بين واشنطن وطهران.

سياسة تعاون وتقارب أوروبية إيرانية معدَّلة

من الضروري مراجعة سياسة الاتّحاد الأوروبي إزاء إيران بشكل نقدي قبل الشروع في طرق لتعديلها. فبهدف أن ينجح أيّ حوار عبر أطلسي حول السياسة تجاه إيران، من الضروري فهم الأسباب المؤدّية إلى ما حصل في مايو 2018. فالانقسام بين الاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة هو نتيجة وجهات نظر مختلفة للسياسات الإيرانية السابقة للانسحاب الأمريكي من خطّة العمل الشاملة المشتركة. وفيما مال الاتّحاد الأوروبي إلى تعظيم إيران، عمدت الولايات المتّحدة تحت إدارة ترامب إلى تشويه صورتها، كما كان الحال في خلال إدارة جورج بوش الابن.

خطّة العمل الشاملة المشتركة: النجاحات والمعوّقات

اعتبر الاتّحاد الأوروبي خطّة العمل الشاملة المشتركة نجاحه الدبلوماسي الأهمّ في الماضي القريب وإنجازاً مميّزاً لحلّ أزمات انتشار السلاح النووي ولتعزيز قانون عالمي قائم على أساس القواعد. فبعد عامَين من التفاوض المكثّف، نجحت خطّة العمل الشاملة المشتركة في وقف الجدال الذي امتدّ على طول عقد في موضوع البرنامج النووي الإيراني. وبقبول إيران بالاتّفاق في العام 2015، وافقت على لجم نشاطات برنامجها النووي وأخضعته لنظام تفتيش صارم. بالمقابل، ألغت الدول الأعضاء الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة، بالإضافة إلى ألمانيا (المعروفة بمجموعة 5+1) العقوبات الاقتصادية المعنيّة بالملف النووي بعد تطبيق خطّة العمل الشاملة المشتركة في العام 2016.

وقد سلّط النقّاد الضوء على عيوب مهمّة في خطّة العمل الشاملة المشتركة. فمن جهة، تكمن تلك العيوب في بنود الانقضاء: ففي العام 2020، سيتمّ إلغاء الحظر على الواردات والصادرات من الأسلحة الإيرانية الذي فرضته الأمم المتّحدة. وفي العام 2023، ستنقضي مدّة الحظر الذي فرضته الأمم المتّحدة على دعم برنامج طهران للصواريخ البالستية، وستتمكّن إيران من إعادة تصنيع أجهزة طرد مركزية متطوّرة. وفي العام 2026، ستنتهي معظم القيود المفروضة على البرنامج النووي، وبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ، سيتمّ إلغاؤها كلّها. وعند كلّ مرحلة من هذه المراحل، نظراً إلى الصراع الأمريكي الإيراني الجاري الذي شكّلت الأزمة النووية مجرّد مظهر واحد من مظاهره، من الممكن أن تنشب أزمة إيرانية دولية من جديد. من جهة أخرى، استنكر النقّاد أنّ المسائل المتعلّقة بسياسة إيران الخارجية، ولا سيّما برنامج صواريخها البالستية وتدخّلاتها الإقليمية، لم تدخل في المفاوضات. فعلى الرغم من الصعوبات السياسية لمعالجة الكثير من هذه المسائل بنجاح في خلال النقاشات، قد يتأتّى عن إهمالها احتمال نشوب صراع في المستقبل، ممّا يعرّض الاتّفاقية للزوال. وقد فاتت فرصة استخدام خطّة العمل الشاملة المشتركة بشكل فعّال كنقطة انطلاق لعملية تهدف إلى معالجة مسائل مقلقة أكبر في العلاقات الإيرانية الغربية، بدل استخدامها كهدف بحدّ ذاته، كما فضّل الاتّحاد الأوروبي أن يعتبرها.سياسة استقرار سلطويّة بحكم الأمر الواقع

أتاحت خطّة العمل الشاملة المشتركة للاتّحاد الأوروبي أن يعيد إنعاش علاقاته مع إيران. فقد كانت الفكرة أنّ التقارب السياسي والتجاري سيفيدان الطرفَين ويساهمان ضمنياً في بروز انفتاح في الجمهورية الإسلامية. وفي 14 يوليو 2015، كان حبر خطّة العمل الشاملة المشتركة بالكاد قد جفّ عندما وصل وزير الاقتصاد والطاقة الألماني زيغمار غابرييل إلى إيران بصحبة وفد كبير من رجال الأعمال. وشكّل الألمان الحكومة الأوروبية الأولى التي تجري هذا النوع من الانفتاح العلني. ففي نهاية المطاف، اعتبرت بعضُ شركات الخدمات المالية إيرانَ منجم الذهب الاقتصادي الأكثر ربحاً منذ انهيار الاتّحاد السوفياتي. وفي ألمانيا خصوصاً، وأوروبا عموماً، تمّ تصوير عملية تجديد الروابط الاقتصادية والسياسية مع إيران في مجال السياسة العامة على أنّها جزء من سياسة التغيير من خلال التجارة والتقارب، وبذلك بات هذا التجديد شبه محصّن من التقييمات المعارِضة. ففيما اعتُبرت زيارة نائب المستشار الألماني انفتاحاً سابقاً لأوانه على نظام سلطوي ثابت وانتُقدت الزيارة على هذا الأساس، دعمت النخبة السياسية والاقتصادية الألمانية الزيارة. وقد جرت أحداث مشابهة في فرنسا والمملكة المتّحدة، ولكن بدرجة أقلّ نوعاً ما.

تهدف سياسة التغيير من خلال التبادل التجاري والتقارب إلى تسهيل إحداث تغيير في الدول ذات النظام السلطوي عبر التعاون والتبادل التجاري معها. وغالباً ما اعتُمدت هذه الاستراتيجية في علاقات الاتّحاد الأوروبي مع الأنظمة السلطوية. وأقلّه في مجال السياسة العامة، توقّعت أوروبا أن تؤثّر خطّة العمل الشاملة والمشتركة إيجابياً في سياسات إيران الداخلية والخارجية. غير أنّ تقييماً موضوعياً يظهر أنّه لم يتمّ إحداث أيّ تغيير فعلي على أيّ جبهة من الجبهات. 

فعلى الجبهة المحلّية، تضمّنت التوقّعات إتاحة المزيد من المساحة للمجتمع المدني وتحسين وضع حقوق الإنسان. وكان من المتوقّع أن تفيد الأرباح الاقتصادية التي تحقّقها خطّة العمل الشاملة المشتركة الإيرانيين بشكل عام وتمكّن الطبقة المتوسّطة ذات التوجّه الإصلاحي وتنمّي في نهاية المطاف إجراءً تدريجياً نحو الدمقرطة. غير أنّ هذه التوقّعات لم تتحقّق. ففي مجال حقوق الإنسان، تدهور الوضع، وأضعف خطابُ الرئيس حسن روحاني الإصلاحات الفعلية فيما أضحت وزارة الاستخبارات التابعة له جهة مشاركة أكثر فأكثر في انتهاكات حقوق الإنسان. وقادت إيران بإدارة روحاني العالم في معدّل عمليات الإعدام للفرد الواحد. وبقيت المساحة المتاحة للعمل الناشطيّ ضيّقة للغاية أيضاً. وليس بالأمر الصدفة أن تكون إيران حالياً أحد المصادر الأكبر للّاجئين الوافدين إلى بلدان أوروبية كبرى. علاوة على ذلك، لم تقم سياسات الاتّحاد الأوروبي التعليمية والتثقيفية الخارجية بما يكفي لتشمل تعدّدية المجتمع الإيراني.

أما على الجبهة الاقتصادية، فبعد توقيع خطّة العمل الشاملة المشتركة، أفادت مجموعة الاتّفاقيات التجارية الموقّعة مع إيران الإمبراطوريات الاقتصادية للحرس الثوري الإيراني والمرشد الأعلى ومؤسّسات “بنياد” (أي التكتّلات المعفية من الضرائب التي يعتبرها القانون الإيراني منظّمات خيرية إسلامية). في الواقع، بحلول يناير 2017، من أصل حوالي 110 اتّفاقيات وُقّعت بعد خطّة العمل الشاملة المشتركة وبلغت قيمتها 80 مليار دولار أمريكي على الأقلّ، تمّ توقيع 90 اتّفاقية منها مع شركات تملكها أو تتحكّم بها تلك الكيانات التابعة للدولة الإيرانية أو شبه التابعة لها. بمعنى آخر، لقد أفادت إعادة إنعاش التجارة الدولةَ السلطوية بشكل شبه حصري. ولا غرابة في ذلك نظراً إلى واقع هيكلية القوّة السياسية الاقتصادية في الجمهورية الإسلامية، التي بالكاد تضمّ قطاعاً خاصاً فعلياً وروح مبادرة حرّة في وجه الدولة المهيمنة أو الكيانات شبه الحكومية.

وعلى الجبهة الجيوسياسية الإقليمية، وبحسب النصّ التمهيدي في خطّة العمل الشاملة المشتركة، “يتوقّع [الاتّحاد الأوروبي والدول الثلاثة] أن يسهم التنفيذُ الكامل لخطّة العمل الشاملة المشتركة بشكل إيجابي في تحقيق سلام وأمن إقليميَّين ودوليَّين”. وبالنسبة إلى دول أخرى، بما فيها الكثير من الدول المجاورة لإيران، كان من المتوقّع أن ينعكس التزامُ إيران البنّاء مع الغرب اعتدالاً في سياساتها الإقليمية. لكن في الواقع، ضعُفت بشكل فعّال سياسة الاعتدال التي انتهجها الرئيس روحاني تجاه الغرب وفي مسألة النووي بسبب السياسة الإقليمية الإيرانية التي تزداد حزماً وتوسّعاً والتي اعتمدها الحرس الثوري الإيراني وقيادة المرشد الأعلى.

ولم يتمّ تحقيق التوقّعات بالاعتدال في سياسات إيران الداخلية وسياستها الإقليمية. ففي الداخل، تفاقم وضع حقوق الإنسان وتدهورت الأحوال الاجتماعية الاقتصادية. ومن الناحية الاقتصادية، استفادت نُخَب الجمهورية الإسلامية من الإجراء، فيما لم يستفد معظم الإيرانيّين منه إطلاقاً. فتفشّت خيبة الأمل بين الإيرانيّين، ممّا أدّى في نهاية المطاف إلى اندلاع الثورة في العام 2017-2018. أمّا في الخارج، فقد سعت إيران إلى تحقيق هدفها بالحفاظ على قوّتها الإقليمية وتوسيعها مع المزيد من التعنّت. فأزكت هذه السياسة بدورها الصراعات في العراق وسوريا وساعدت على تصعيد التوتّرات مع المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وهما شريكان مهمّان للاتّحاد الأوروبي. وقد شكّلت عملية المحافظة على التوازن بين الإبقاء على علاقات الاتحاد الأوروبي الوثيقة مع هذين الشريكين والتقارب مع إيران في الوقت عينه توتّراً من المحتمل أن يتحوّل إلى مواجهة مفتوحة، فيضع بذلك الاتّحاد الأوروبي في موقف صعب.

في الختام، لم تمهّد سياسة التبادل التجاري والتقارب تجاه إيران الطريقَ أمام التغيير. فقد كان في الواقع لسياسة الاتّحاد الأوروبي إزاء إيران المزيد من أوجه الشبه مع سياسة الاستقرار السلطوي التي تشبه تلك التي تمّ اعتمادها على مدى العقود الأخيرة مع بلدان مستبِدّة أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أكّد هذا الاستنتاج خبيرٌ إيراني في وزارة الشؤون الاقتصادية والطاقة الألمانية وعضوٌ أوّل في مجموعة العمل بشأن إيران التابع للاتّحاد الأوروبي، فأطلع كلاهما المؤلّفَ على وجهة النظر هذه في يونيو 2017 وفبراير 2018 على التوالي، فيما ادّعت مواقف مؤسّستيهما عكس ذلك.

مراجعة عيوب سياسة الاتّحاد الأوروبي إزاء إيران

تنبثق عيوبُ سياسة الاتّحاد الأوروبي إزاء إيران عن ميلٍ إلى التعظيم في حديثه عن سياسة إيران وسياساتها. فعلى مدى العقود الأخيرة، مالت الدول الأوروبية إلى تضخيم الفوارق بين فصيلَي المتشدّدين والمعتدلين في النظام الإيراني. علاوة على ذلك، في أعقاب خطّة العمل الشاملة المشتركة، أعربت أوروبا في موقفها تجاه طهران عن قلقها من أن تعرّض مقاربةٌ أقوى مصالحَها الاقتصادية والجيو- استراتيجية للخطر في إجراء التقارب الذي تعتمده. ففي ما يتعلّق بجيوسياسات المنطقة، أخطأت أوروبا باعتماد تطبيق استنباطي، فافترضت أن تنعكس سياسةُ الالتزام البنّاء، التي أدّت إلى خطّة العمل الشاملة المشتركة، على تغييرات شبيهةً في سياسات إيران الإقليمية. ويرتكز موقف أوروبا حول الجيوسياسات الإقليمية على هواجس تتعلّق بموضوع الاستقرار. ففي سوريا بشكل خاص، توافقت بحكم الواقع مصالحُها مع مصالح الجمهورية الإسلامية، ممّا أتاح استمرار نظام الرئيس بشّار الأسد في سوريا. بالتالي، تجاهلت أوروبا بشكل عام فكرة أنّ أعمال نظام الأسد الوحشية كانت تقوّي الإرهاب الجهادي، الذي اعتبر الاتّحاد الأوروبي محاربته أولويّةً.

وينبغي على أوروبا أن تدرك أنّه لا يمكن اعتبار إيران عاملاً مسهماً في استقرار غرب آسيا. ففيما أصاب الاتّحاد الأوروبي بإيلاء انتباه أكبر للأنشطة الضارّة التي تقوم بها المملكة العربية السعودية وحلفاؤها، أهمل الاتّحاد المخاطر الواضحة المتعلّقة بإيران، خصوصاً نزعتها التوسّعية الإقليمية وتعزيز بروز هيكليات دول متوازية، ممّا ساهم في تدهور واضح لعلاقات إيران مع البلدان المجاورة لها. ففي العراق وسوريا، اعتُبرت طهران بأنها تتمادى في تحرّكاتها. بالتالي، تتعارض هذه السياسات الإيرانية مع هدف الاتّحاد الأوروبي بالعمل على تحقيق استقرار طويل الأمد في المنطقة وتقوية هيكليات الدول فيها.

أزمة إيران الثلاثية وتشعّباتها

أعلنت ثورة العام 2017-2018 ضدّ النظام بداية فصل جديد في تاريخ الجمهورية الإسلامية. وفي ما يخصّ علاقات أوروبا بطهران، من الضروري أن تستخلص أوروبا استنتاجات مهمّة من هذا التطوّر البارز. فأزمةً ثلاثية تكتسح الجمهوريةَ الإسلامية، مغطّية الأبعادَ الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والبيئية التي حفّزت جميعُها وبشكل مترابط بروز احتجاجات مستمرّة منذ قبل ثورة العام 2017-2018. أوّلاً، تعاني إيران بؤساً اجتماعياً اقتصادياً، إذ يعيش نصف سكّان البلاد قرب خطّ الفقر ويقطن قرابة ثلث سكّان المدن الأحياءَ الفقيرة وتسجّل البلاد أحد أعلى معدّلات بطالة الشباب في العالم. وينجم ضعف الحراك الاجتماعي الاقتصادي عن اقتصادٍ سياسي يحبّذ أعضاء النظام والموالين له. بالإضافة إلى ذلك، برز إحباط اجتماعي بسبب غياب الأثر الانتشاري الناجم عن نموّ إجمالي الناتج المحلّي جرّاء خطّة العمل الشاملة المشتركة. وقد ازداد تدهور الوضع الاقتصادي بسبب غياب الإصلاحات الهيكلية الضرورية. علاوة على ذلك، يشوب الاقتصاد الإيراني سوء الإدارة والمحسوبية والفساد. وعلى الرغم من أنّ العقوبات الأمريكية ساهمت في تدهور الوضع في البلاد، مما أدّى إلى ارتفاع الأسعار وهبوط قيمة العملة الوطنية، غالباً ما تمّت المبالغة بأثرها الإجمالي في وضع إيران الاقتصادي الذي تسبّبت بنفسها به. ثانياً، تواجه الجمهورية الإسلامية جموداً سياسياً لا سابق له. فكما تشهد عليه شعارات مختلف المحتجّين، لقد طال غضب الشعب جميع الفئات، من الفصائل المتشدّدة والمعتدلة، بالإضافة إلى المؤسّسات الدينية (التي يُعتبر معظمها إصلاحياً). نتيجة لذلك، تمّ التشكيك بشدّة بشرعيّة النظام بكامله. ثالثاً، تعاني إيران كارثةً بيئيةً تسبّبت هي بمعظمها. فتبعاً لسلطات الأمم المتّحدة وإيران، إذا استمرّت التوجّهات الجارية، ستصبح نصف محافظات البلاد غير صالحة للسكن في غضون 15 إلى 20 سنة، وبحلول العام 2050، قد تتحوّل البلاد إلى صحراء. وتشكّل هذه الكارثة البيئية، بما فيها نقص الماء، تهديداً على الأمن الوطني. إذ سبق أن بدأت تهدّد معيشةَ عشرات الملايين من الإيرانيّين. وغالباً ما قوبلت الاحتجاجات التي غذّتها هذه التطوّرات بالقمع.

وتتّصف حدّية هذه المرحلة الجديدة بعدد من العوامل الجديدة جزئياً: (1) تعرض شعارات المحتجّين نسبةً لا سابق لها من التسييس، وتستهدف جميع فصائل النظام، من دون استثناء المعتدلين حتّى، كما كان الحال في خلال الحراك الأخضر في العام 2009، و(2) تبرز هوّة غير قابلة للردم بين الدولة والمجتمع ولا يمكن تصحيح الوضع إلّا من خلال إصلاحات هيكلية اقتصادية وسياسية، و(3) على عكس الحراك الأخضر الذي شكّلت قاعدته الاجتماعية بمعظمها الطبقةُ المتوسّطة المدنية الساعية إلى مشاركة سياسية أكبر، شكّلت القاعدة الاجتماعية لثورة العام 2017-2018 الطبقة الاجتماعية الاقتصادية الدنيا، التي تُعتبر عادةً قاعدة النظام الاجتماعية، و(4) تُنبئ خسارةُ الشرعيّة في صفوف المجموعات النخبة المعتدلة، بمن فيهم روحاني والإصلاحيّون، بأزمة كبيرة في حكم الفصائل في الجمهورية الإسلامية، و(5) اعتراف جهاز إيران الأمني بأنّ التهديد الأساسي الذي يواجهه الأمن الوطني مصدره داخل البلاد وليس خارجها.

والمهمّ في الموضوع أنّ هذه الأزمة الثلاثية ستستمرّ، نظراً إلى احتمال بقاء أسبابها الكامنة ثابتة أو تفاقمها. ويتّصف هذا العهدُ الجديد من تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمرحلةٍ من الاضطراب وعدم الاستقرار المحتمل. وتنعكس أزمة النظام في صورة أخرى، ألا وهي عجز الضغط الأمريكي عن دفع الإيرانيّين إلى الالتفاف حول الدولة. فقد استمرّت الاحتجاجات من خلال شعارات معادية للنظام، ملقيةً اللوم في تدهور الوضع السياسي والاقتصادي على النظام بدلاً من إلقائه على سياسة الولايات المتّحدة أو عقوباتها. والأمر الأهمّ أنه بسبب غياب الحلول البديلة، من الممكن أن تمهّد هذه الأزمة الطريق أمام مفاوضات إيرانية مع الولايات المتّحدة وتزيد في الوقت عينه من اعتماد طهران على القوى العظمى، بما فيها روسيا وأوروبا.

توصيات السياسة

قد تحقّق سياسةٌ معدّلة بين أوروبا وإيران مفهومَ البرغماتية المبدئية الذي تعتمده سياسة الاتّحاد الأوروبي الخارجية. ويهدف هذا المفهوم إلى الجمع بين “تقدير واقعي للبيئة الاستراتيجية الحالية” و”طموح مثالي لتقديم عالم أفضل”، كما هو مثبَّت في الاستراتيجية العالمية للاتّحاد الأوروبي. وعلى أوروبا أن تضع استراتيجية أكثر توازناً بموضوع إيران تقضي بالحفاظ على روابط اقتصادية وسياسية مع إيران من دون السقوط في فخّ تعزيز سياسة استقرار سلطوية غير ناقدة. ومن المستبعد أن يؤدّي الإمعان في السياسة ذاتها إلى تفادي الفوضى وعدم الاستقرار. وعلى أوروبا أن تتخطّى مسألة الحفاظ على خطّة العمل الشاملة المشتركة، أو كما قال صانع سياسة ألماني، مسألة الحفاظ على “التنويم المغنطيسي النووي”، وتنتقل إلى اعتماد مقاربة أكثر توازناً من التعاون المستمرّ مع التشجيع على تصحيحات المسار الإيراني.

وكنقطة بداية أساسية، على أوروبا أن تضع أوّلاً سياسة إيرانية موحّدة ملزمة لجميع الدول الأعضاء من أجل تفادي أيّ سلوك انتهازي قد يصدر عن بلدان منفردة. ومن الضروري أيضاً إيجاد أرضية مشتركة بين المواقف الأوروبية المتباينة قليلاً. ويجب أن تتضمّن السياسةٌ المعدَّلة العناصرَ السياسة الأساسية الآتية:

الحفاظ على خطّة العمل الشاملة المشتركة

بدعم من روسيا والصين، يجدر بالاتّحاد الأوروبي أن يحافظ على خطّة العمل الشاملة المشتركة لسببَين: (1) سيساعد احتواء البرنامج النووي الإيراني على تفادي سباق نحو التسلّح النووي في الشرق الأوسط، و(2) يحرص الحفاظ على خطّة العمل الشاملة المشتركة على أن يحتفظ الاتّحاد الأوروبي بنفوذ على إيران، وإلّا تبدّد هذا النفوذ في حال فشل الاتّفاق بالكامل. وبهدف الحرص على استمرارية خطّة العمل الشاملة المشتركة، ينبغي على أوروبا أن تحافظ على تفاعلات تجارية مع إيران من خلال مؤسّساتها الصغيرة والمتوسّطة وتسمح لها بتصدير نفطها إلى أوروبا وتتيح للمؤسّسات المالية الأوروبية إجراءَ عمليّات الدفع.

إشراك واشنطن: لا يجدر إلغاء سياسة عبر أطلسية بشأن إيران

على الرغم من الميل إلى عزل إدارة ترامب، يتعيّن على أوروبا أن تتّبع خطوات للعثور على أرضية مشتركة عبر أطلسية في موضوع إيران. وعلى أوروبا أن تتعاطى مع مجموعة العمل بشأن إيران التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية. ويجدر بها أيضاً أن تستمرّ في السعي إلى الحصول على إعفاءات من العقوبات الأمريكية. ومن دون أن يحرق الاتّحاد الأوروبي جسوره مع واشنطن، بإمكانه أن يستكمل في الوقت عينه مشروع تعزيز استقلاليته من خلال تأسيس قنوات دفع مستقلّة عن الولايات المتّحدة، مثل صندوق نقد أوروبي ونظام عالمي مستقل للاتصالات المالية بين البنوك (SWIFT) غير أنّه لا يمكن تحقيق هذه الأهداف في المدى القريب.استخدام الاتّحاد الأوروبي لنفوذه مع إيران بالاستناد إلى أفضلياته المقارنة

على الاتّحاد الأوروبي أن يستخدم ثقله الذي حصّله في طهران من أجل التوصّل إلى تغيير تدريجي في سلوكها الداخلي والإقليمي، مع تسليط الضوء على مزايا هذا النوع من التغييرات لإيران. وعلى ضوء الأفضليات المقارنة التي يملكها الاتّحاد الأوروبي في طهران، عليه ألّا يتوانى عن تقديم شروط للتعاون. وباعتماده مقاربة ثابتة، سيقدّم الاتّحاد الأوروبي محفّزاً مهمّاً لطهران لكي تبدأ بتغيير سلوكها. وعلى الرغم من رفض طهران الرسمي بالانخراط مع بروكسل في المسائل الداخلية ودورها الإقليمي، سيشجّعها هاجسٌ فعلي حول عدم الاستقرار الاقتصادي في الداخل على القبول بسعي الاتّحاد الأوروبي إلى إحداث تغييرات تدريجية. ومع محافظة أوروبا على الحوار مع إيران حول الأمن الإقليمي، عليها أن تعتمد استراتيجية ثنائية: (1) منع إيران من إظهار دورها بصورة سلبية و(2) الطلب من إيران وضع قيود لهذا الدور. وينبغي على أوروبا أن تفرّق بين ما تعتبره إيران استراتيجية ردع وما يراه الكثير من الدول المجاورة لها كطموحات هيمنة.تفادي المحسوبية الداعمة للنظام

ينبغي على أوروبا ألّا تعطي من جديد الانطباع الذي أعطته في خلال ثورة العام 2017-2018 بأنّها تفضّل النظام على المجتمع. وعليها أن تتفادى تهميش فئات كبيرة في المجتمع الإيراني، فتضمن لنفسها بذلك سمعةً ومصالح طويلة الأمد في البلاد. ومع احتمال تدهور الأوضاع في الداخل الإيراني، على أوروبا أن تستعدّ لطريقة استجابتها في حال تصاعدت الأحداث في إيران. فإن تصاعدت، يجدر بالاتّحاد الأوروبي أن يتّخذ موقفاً واضحاً يتوافق مع قيمه ويدعم حقوق الشعب الإيراني الديمقراطية. وفي حال عجِزَ عن القيام بذلك، سيسهل على النظام أن يلجأ إلى القمع ويزيد من احتمال هرق الدماء. وفي حال ترك الاتّحادُ الأوروبي الساحةَ للولايات المتّحدة، قد يصبّ ذلك في مصلحة أجهزة النظام القمعية. وينبغي على الاتّحاد الأوروبي أن يستخدم علاقاته مع مختلف شرائح النخبة الإيرانية، مشيراً إلى هذه الشرائح أنّ القمع الذي تمارسه الدولة سيؤثّر سلباً في التزامها ودعمها الاقتصاديَّين والسياسيَّين. وخير مثال على ذلك ردود فعل أوروبا الملائمة بشكل عام تجاه الربيع العربي الذي نشب في العام 2010-2011.

الشروع في تحوّلٍ آن أوانه في التفكير: تنسيق سياسات خارجية وإنمائية من أجل استقرار مستدام

عجز الاستقرار السلطوي والسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة السابقان عن تأمين الاستقرار في البلدان المجاورة لأوروبا، بما فيها إيران. لذلك، يجدر بالاتّحاد الأوروبي أن يحضّر الآن الأسس المفاهيمية من أجل تحوّل في التفكير في سياسته الخارجية. وعليه أن يدعم حوكمة رشيدة ونموّاً اقتصادياً شاملاً. لهذه الغاية، من الضروري الأخذ بعين الاعتبار الدروس المستخلصة من الربيع العربي، كما استعرضها معهد التنمية الألماني. فوحده تنسيق السياسات الخارجية والإنمائية في الشرق الأوسط يمكّن الاتّحاد الأوروبي من العمل على استقرار طويل الأمد في جوار أوروبا المضطرب. ومن أجل وضع السياسات الفعلية لهذا التحوّل في التفكير، ينبغي على الاتّحاد الأوروبي أن يؤسّس لجنة خبراء مستقلّة غير محدودة بالقيود والاعتبارات السياسية والبيروقراطية.

Authors