Commentary

Op-ed

ماذا بعد الربيع العربي؟

خمس سنوات مرّت على اندلاع الثورات ضد الأنظمة القمعية في عدد من الدول العربية، ولا يزال السلم والاستقرار بعيدي المنال. أدى تفكك الأنظمة السياسية في هذه الدول إلى دخولها في عمليات انتقالية صعبة برز فيها العنف دائماً كأحد الاحتمالات الخطرة. ت
ُ
قدم الحرب الأهلية في اليمن وليبيا مثالاً واضحاً على عملية انتقالية فاشلة، وهي تثير المخاوف بشأن غياب الاستقرار السياسي الذي طال أمده، ليس في هذين البلدين فحسب، بل في الدول المجاورة أيضاً. استطاعت تونس نظرياً استكمال مرحلتها الانتقالية بنجاح، فصادقت على دستور جديد يلبي الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد وأجرت دورتين انتخابيتين. كذلك مررت تونس قانون العدالة الانتقالية من شانه أن يقدّم إطاراً للفصل في شكاوى الضحايا وجرائم الجناة في العهد السياسي السابق. ومع ذلك لا يزال استقرار تونس على المحك بسبب ارتفاع مستوى الاستقطاب والتباعد بين مختلف شرائحه الاجتماعية.

وحقيقية الأمر هي أن عمليات الانتقال السياسي تستغرق وقتاً طويلاً- يُقدّر بالسنوات إن لم نقل عشرات السنوات- والدول التي تشهد هذا النوع من الانتقال تواجه مخاطر الانزلاق إلى العنف. من غير المرجّح أن تنتقل مجتمعات الربيع العربي إلى سلم واستقرار دائمين مع وجود كل هذه الانقسامات العميقة التي تعصف بها. من هنا تبرز أهمية المصالحات الوطنية التي تلعب دوراً مهماً جداً في الحد من الاستقطاب المجتمعي الذي يشل ليبيا واليمن في الوقت الحاضر ويهدد التقدم في تونس. ولتحقيق سلام واستقرار دائمين، يجب على حكومات ما بعد الثورة الانخراط في عمليات مصالحة وطنية شاملة، تشمل إطلاق الحوار الوطني، وبذل الجهود لتقصي الحقائق، والعمل على تعويض أضرار الضحايا، والتعامل مع الأنظمة السابقة، وإجراء إصلاحات مؤسساتية. يمكن للنساء والمجتمع المدني والقبائل وغيرها من القوى الاجتماعية أن تسهم في دعم العملية الانتقالية. لقد اتبعت كل من اليمن وليبيا وتونس نهج محددة للتوفيق بين مجتمعات ما بعد الثورة، الأمر الذي يزيد أو يحد من فرص نشوب حرب أهلية أو الدخول في عملية انتقالية صحيّة.

نقطة البداية في عملية المصالحة الوطنية الشاملة تكمن في إطلاق حوار وطني شامل من شأنه إعطاء المجتمعات التي تشهد مرحلة انتقالية الفرصة لتطوير رؤية وإطار نظري يحدد مستقبلها، ويضفي الشرعية على العملية الانتقالية، ويشجّع على التفاوض والتسوية. أطلقت تونس حواراً وطنياً خاصاً بها، تقوده بشكلٍ رئيسي منظمات المجتمع المدني، كذلك أنهت اليمن مؤتمراً للحوار الوطني بمساعدة الأمم المتحدة استغرق ثمانية أشهر. أما مشاركة ليبيا في مفاوضات تقودها الأمم المتحدة، فقد أثارت تساؤلات حول ما إذا كان التمثيل في هذه المفاوضات قد شمل جميع الأطراف.

بما أن هذه المجتمعات عانت عقوداً من القمع ولديها عدد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات، لذا يُعتبر التحقيق ومحاولة تقصي الحقائق بشأن الماضي أمراً ضرورياً أيضاً. وفي هذا الإطار، فإن تحديد طريقة التعامل مع عناصر النظام السابق يؤثر بطريقة عميقة على تحولات ما بعد الثورة. ففي حين اختارت ليبيا تطهير البلاد من جميع الأشخاص الذين خدموا في نظام معمر القذافي من خلال اعتماد “قانون العزل السياسي”، اختارت اليمن منح الرئيس علي عبدالله صالح حصانة ضد الملاحقة القضائية في مقابل تخليه عن الحكم- أي التضحية بالعدالة للمحافظة على السلام. لكن صالح عاد لاحقاً لممارسة السياسة، فتحالف مع الحوثيين للاستيلاء على الحكومة، ما يعني أن اليمن لم تحقق في النهاية لا العدالة ولا السلام. من ناحية أخرى اعتمدت تونس قانوناً تشريعياً انتقالياً يقضي، من جملة ما يفعل، بالتحقيق في جرائم الدولة منذ العام 1955 وملاحقة الفاعلين قضائياً. ورغم أن هيئة الحقيقة والكرامة تلقّت آلاف الشكاوى من ضحايا الانتهاكات السابقة، إلا أن التقدم كان بطيئاً، لأن الهيئة لا تزال تناضل لإنشاء هيكل تنظيمي فعال أو لتنفيذ خطة عمل واضحة المعالم. كما إن الجدل حول اختيار مفوضين والافتقار إلى الدعاية قد أعاقا أيضاً عملية البحث عن الحقيقة.

التعويضات هي جزء مهم آخر من عملية السعي لتحقيق العدالة وتضميد الجراح، ولو تم تقديم هذه التعويضات بالشكل الصحيح فإنها يمكن أن تعيد بعض شرائح المجتمع المهمشة التي تعرضت سابقاً للإساءة إلى حضن الوطن من جديد، وتمكنها من المساهمة بشكل إيجابي في تطوير بلادها. شهدت اليمن وتونس انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان خلال عقود من حكم علي عبدالله صالح وزين العابدين بن علي، وهي تفتقر إلى الموارد اللازمة للمشاركة في إعادة تأهيل هادفة وشاملة لضحايا انتهاكات الماضي. لهذا السبب فإن العملية الانتقالية السياسية في كلا البلدين تواجه معضلة رئيسية – هي الضحايا – الذين يشعرون بمزيد من التهميش يُضاف إلى مآسيهم الماضية. أما ليبيا التي تملك الموارد الكافية لتمويل عملية إعادة تأهيل متكاملة لضحايا الديكتاتورية، فقد انزلقت إلى حرب أهلية حالت دون إيجاد طريقة مناسبة لتضميد جروح الماضي.

وحتى لو تمكنت هذه المجتمعات من التغلب على الاستقطاب أو التباعد على المستوى الشخصي، فإنها لن تستطيع تحقيق عمليات انتقال ناجحة ما لم تترافق عملية الشفاء بإصلاحات مؤسساتية. وقد وضع “ترميم النظام” بدل “تغيير النظام” في اليمن عقبة خطيرة في طريق إجراء إصلاحات عميقة في مؤسسات الدولة، ما أدى في النهاية إلى مشاركة شرائح من الوحدات الأمنية في انقلاب الحوثيين- صالح ضد الحكومة الانتقالية. بعد انهيار نظام القذافي، طالب الثوار والميليشيات بعملية تطهير كنوع من الإصلاح المؤسساتي – الذي كان شبيهاً بعملية اجتثاث حزب البعث في العراق. إلا أنّ عملية التطهير هذه قد ساهمت في اندلاع حرب أهلية. أما تونس، فقد تناولت مسألة الإصلاح المؤسساتي من زاوية مختلفة ونجحت في وضع صيغة سليمة، رغم أن تطبيقها لا يزال يواجه تحديات خطيرة.

في نهاية المطاف، هناك لاعبون كثر أدوا أدواراً رئيسية في عمليات المصالحة الوطنية في كل من ليبيا واليمن وتونس. وفي هذه الدول الثلاثة، كان للمرأة دور فاعل في إحراز التغيير، ولا بد أن تستمرّ في المشاركة في إعادة تشكيل بلدها. وانطلاقاً من دورها كعامل تغيير، فقد ساهمت المرأة في إطلاق الانتفاضات في اليمن وليبيا، وأثبتت فعلاً أهميتها كعنصر فاعل في المصالحات الوطنية. تعتبر القبائل في اليمن وليبيا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، ويجب إشراكها في عمليات المصالحة بعد عقود من الاستغلال والتهميش. وتبعاً للطريقة التي ستشارك بها، يمكن للقبائل أن تلعب دوراً مهماً، إما في ترسيخ استقرار العملية الانتقالية أو زعزعتها. وقد أدت المجموعات الأهلية للمجتمع المدني في تونس دوراً مهماً في تطوير العملية الانتقالية، ودورها آخذ في النمو بسرعة في اليمن وليبيا. إن مشاركة المجموعات الأهلية المستمرة- إلى جانب مساعدة المجموعات الدولية- سوف يساعدها في قطع شوط بعيد نحو توطيد الدعائم لقيام دول جديدة تحترم حقوق الإنسان والحقوق المدنية.

من شأن عمليات الحوار الوطني وتقصي الحقائق والتعويض والمساءلة والإصلاح المؤسساتي، خصوصاً إذا كانت مدعومة من العناصر الأساسية للمصالحة، بما في ذلك المرأة والمجتمع المدني والقبائل، أن تجتمع لخلق الزخم اللازم لرأب الصدوع ومساعدة مجتمعات ما بعد الربيع العربي على التحرك باتجاه السلام والاستقرار الدائمين والتنمية المستدامة.

لمعرفة المزيد عن التحولات السياسية في اليمن وليبيا وتونس بعد الربيع العربي، اقرأ كتاب إبراهيم فريحات الجديد “Unfinished Revolutions” الصادر عن جامعة ييل الأمريكية.