Commentary

Op-ed

القلاع الرملية الخليجية

هوت أسعار النفط تاركةً المملكة العربية السعودية وحلفاءها في مواجهة أزمة اقتصادية طويلة المدى، في الوقت الذي يتأهب فيه الاقتصاد الإيراني لجني أرباح سريعة.

في جدّة يتعالى برج المملكة المتألق، الذي سينتهي العمل به في العام 2018، بارتفاع يصل إلى 1,000 متر. يطلّ البرج على المملكة التي بدأت تواجه تحدّي انخفاض أسعار النفط. ولكن، لطالما كانت الأبراج الشاهقة نذير الانهيارات الاقتصادية في الماضي. فمنذ خمس سنوات، تم في دبي تدشين برج خليفة الذي يُعتبر أطول برج في العالم حتى تاريخه، بكلفة زادت عن 1,5 مليار دولار، وسط الأزمة المالية التي مرّت بها الإمارة، عكست الانهيار العالمي في أسعار العقارات والسلع والأسهم.

اليوم تأمل المملكة العربية السعودية والدول الخليجية المجاورة لها ألا يعيد التاريخ نفسه. هبطت أسعار النفط إلى ما دون 50 دولار للبرميل الواحد بعد ما كانت في شهر يونيو 2014 تزيد على 100 دولار للبرميل.

أتى هذا الهبوط في الأسعار نتيجةً لاصطدام نمو النفط الصخري الأمريكي بشكل كبير مع الطلب الفاتر، وزاد الطين بلة تراجع العملة الصينية وانهيار سوق الأسهم في الصين في أغسطس من هذا العام. وفي ظلّ غياب توافق بين منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) على خفض الإنتاج، لم يبقَ أمام المملكة العربية السعودية وحلفائها في منطقة الخليج إلا استراتيجيتها الوحيدة، ألا وهي زيادة الإنتاج ومحاولة استبعاد المنافسين المنتجين للنفط بتكلفة عالية. قد تبدأ الأسعار بالارتفاع تدريجياً خلال عاميّ 2015 و2016 مع تراجع إنتاج النفط الصخري، إلا أن هذا الارتفاع يقابله تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني وتحوّله إلى مسار أقل استهلاكاً للطاقة.

ولكن بالنظر إلى المنطقة ككل، نجد سبباً وجيهاً للاعتقاد بأن الدولة التي تعاني اليوم من أكثر الأوضاع الاقتصادية سوءاً قد تكون هي الأقدر في الواقع على تخطّي الصدمة. تتطلّع إيران لرفع العقوبات الصارمة التي جعلت إنتاجها النفطي ينخفض من 2,6 مليون برميل يومياً في العام 2011 إلى 700,000 برميل فقط في مايو 2013، وهي تتوقع في الوقت الحاضر تدفقاً في الاستثمارات الأجنبية نتيجة إعادة اندماجها في الاقتصاد العالمي. في هذه الأثناء، يمكن القول إن إيران تتمتع باقتصاد متنوع يفوق الدول الخليجية المنافسة لها، ما يسمح لها بالتأقلم مع انكماش أسعار النفط.

تواجه اليوم دول مجلس التعاون الستة – المملكة العربية السعودية، الكويت، قطر، البحرين، عُمان، والإمارات – نوعين من المشاكل خلال هذه الفترة من تراجع أسعار النفط. النوع الأول هو تمويل الإنفاق الحكومي، وهو تحدٍ قابل للحل نسبياً، أما الثاني فهو تأمين نمو اقتصادي قوي ومتنوّع، وهذا تحدٍّ يبدو مستعصياً نوعاً ما.

ورغم أن صحيفة التلغراف البريطانية ذكرت في إحدى مقالاتها أنه “قد تفلس المملكة العربية السعودية قبل أن يتداعى قطاع النفط في الولايات المتحدة”، إلا أن الرياض وجاراتها في مجلس التعاون الخليجي لم تصل إلى حافة الهاوية بعد. تتمتع هذه الدول بالاستقرار السياسي، مع ديون ضئيلة، وصناديق ثروة سيادية ضخمة، وتكاليف إنتاج نفط منخفضة. لكن قدرتها على التعامل مع أسعار النفط المنخفضة تتفاوت بشكل كبير، إذ تتراوح أسعار النفط المطلوبة لمعادلة الميزانيات الحكومية، وفق حسابات صندوق النقد الدولي، ما بين 47 دولاراً للبرميل في الكويت، و59 دولار في قطر، وهي أعلى بقليل من المستويات الحالية التي تصل إلى 73 دولار للبرميل في دولة الإمارات، و103 دولار للبرميل في المملكة العربية السعودية، و94 دولار في عُمان، و93 دولار في البحرين. 

هذا وقد كانت لدى دولة الإمارات رؤية استباقية في هذا الشأن، إذ أخذت تستعد لانخفاض أسعار النفط باقتطاع دعم الطاقة وتخفيض الميزانية الحكومية قبل بدء الركود. ونجحت في وخز فقاعة العقارات الوليدة في العام 2013 من خلال رفع احتياجات القروض ورسوم النقل. وابتداءً من أغسطس من هذا العام رفعت الإمارات أسعار البنزين المدعوم ليصبح بسويّة أسعار الأسواق العالمية.

يمكن القول إن المملكة العربية السعودية هي الأخرى في وضع قوي نسبياً، لكنها تستهلك احتياطاتها على نحو سريع ومقلق. هبطت الأصول الأجنبية الصافية من 724,5 مليار دولار في يناير إلى 664,4 مليار دولار في يونيو. وخلال العقد الماضي، ارتفع الإنفاق الحكومي بشكل كبير ليتماشى مع أسعار النفط، وقدّم الملك سلمان هبة بقيمة 29,3 مليار دولار بمناسبة اعتلائه العرش في يناير، ناهيك عن نفقات حرب اليمن. لا توجد مؤشّرات في الأفق تدل على تخفيض الدولة دعمها السخي للطاقة واستهلاك النفط والغاز المحلي المتزايد.

 لكن يُقال إن المملكة العربية السعودية تعمل مع استشاريين على شطب 10 بالمئة أو أكثر من استثمار رأسمالها البالغ 102 مليار دولار هذا العام. ومن خلال تخفيض معتدل في الإنفاق وتمويل الدين، تستطيع المملكة أن تتلافى العجز بأسعار نفط تبلغ 40 – 50 دولار للبرميل خلال فترة 7 – 11 سنة قبل حلول الأزمة المالية، كما جاء على لسان أحد الخبراء الاقتصاديين العاملين في بنك أوف أمريكا ميريل لينش.

 حاولت الكويت تخفيض دعمها للوقود في يناير لكنها تراجعت بسبب ضغوط من برلمانها. وقد انتشرت أقاويل حول تحسين تحصيل الفوائد والغرامات، بما فيها فرض رسوم على الطرق، وضرائب على الشركات المملوكة لكويتيين، وضرائب على السلع الثمينة، وأخرى على القيمة المضافة. لكن أحداً من العارفين بالسياسات الكويتية لا يتوقع أن تتم الموافقة على هذه الإجراءات قريباً، أو أن تمرّ دون جدال. في هذه الأثناء تستمر قطر في الطفو على وسادة مريحة من ثرواتها السيادية واحتياطاتها الضخمة من الغاز – لكن مع تهاوي أسعار الغاز الطبيعي المسال نتيجة تهاوي أسعار النفط، تبرز أسئلة تحتّم وضع استراتيجية قطر الاقتصادية بعين الاعتبار على المدى البعيد.

 يبدو ضغط الموازنة أكثر حدّة في البحرين وعُمان، وهما أصغر دولتين منتجتين للنفط في مجلس التعاون الخليجي. يمكن للبحرين أن تعتمد على الدعم المالي الذي تقدمه الرياض عبر جسر الملك فهد، والتي التزمت بدعم العائلة المالكة ضد الأغلبية الشيعية الساخطة. بعد قمع انتفاضة البحرين عام 2011. قدّمت دول مجلس التعاون للبحرين وعُمان مساعدات بقيمة 20 مليار دولار.

 وبالحديث عن عُمان، نجد أنها الأكثر معاناة بين أخوتها. يُعتقدَ أنَ السلطان قابوس، الذي يحكم البلاد منذ العام 1970، يعاني من مرض السرطان، وهو لم يعيّن وريثاً للعرش بعد. هذا العام، تجاوز إنتاج النفط في عُمان حاجز المليون برميل يومياً لأول مرة، لكن الجيولوجيا المعقّدة لعُمان – والتي تتمثل في نفطها الثقيل اللزج، وخزاناتها العميقة قليلة النفاذية، وحقولها الصغيرة المتباعدة – إنما تجعل عملية الإنتاج باهظة. هذا وتعاني مسقط عجزاً في الميزانية بقيمة 8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على افتراض أنّ سعر النفط هو 75 دولار للبرميل، علماً بأن سعر النفط سيتابع انخفاضه بشكل كبير هذا العام أيضاً.

 بشكل عام، يمكن القول إن مشاكل الميزانية في دول مجلس التعاون الخليجي قد لا تكون مريحة لكنها مشاكل قابلة للحل، فالاقتصادات لا تنهار لمجرد معاناة الدول من عجز في الميزانية، فما بالك بالأنظمة السياسية؟

أما المشكلة الأكبر والتي طالما حاولت الدول المصدّرة للنفط معالجتها دون جدوى، فهي ابتكار نموذج اقتصادي واجتماعي جديد. صحيحٌ أنّ تخفيض إنفاق رأس المال يوّفر في الميزانية، لكنه يقلّل في الوقت نفسه من وتيرة النمو على المدى البعيد. ويبقى تخفيض المزايا السخية والرواتب والوظائف الحكومية للمواطنين مسألة حساسة سياسياً، في حين قد يكون تخفيض العملة غير فعّال ما لم يتم تطوير قطاع آخر منافس يعمل على تصدير منتجات غير نفطية.

تمثّل صناعات الطاقة المكثّفة، مثل المواد البتروكيميائية والألمنيوم، واكتشاف مناجم جديدة للبوكسيت والفوسفات والذهب تنوعاً جزئياً، لكن أسعار السلع تتهاوى مع تهاوي أسعار النفط. ويمكن القول إن هذه المشاريع التي تتطلّب رؤوس أموال كبيرة تعمل في صالح دول الخليج لكنها لا تخلق فرصاً كثيرة للعمل.

هذا وقد بدأت دبي فعلاً في شق طريقها لبناء اقتصاد ما بعد النفط. لكن نجاحها هذا ربما لا يكون قابلاً للتكرار في أماكن أخرى: فهناك مكان واحد في الخليج يصلح لأن يكون مقصداً للتجارة والأعمال، هو دبي، التي سبقت كلاً من الدوحة وأبو ظبي.

تواجه دبي اليوم أصعب اختبار لنموذجها الاقتصادي. فالإمارة بشكلٍ عام تتأثر سلبياً بانخفاض أسعار النفط – بعبارة أخرى، مستويات أقل من التجارة والسياحة والمشاريع الاستثمارية التي تقوم بها دول الخليج المجاورة وروسيا. ولكن، يمكن التعويض عن هذا الأمر جزئياً باستقبال المزيد من الزوّار من شبه القارة الهندية والصين وأوروبا، وأسعار منخفضة للوقود اللازم لتسيير رحلات شركة الطيران الرسمي للدولة طيران الإمارات، وفواتير استيراد الطاقة منخفضة.

كذلك، لا بد أن تستفيد دبي من انفتاح إيران، التي بدأت تصل إلى برّ الأمان الاقتصادي بينما يتجّه منافسوها العرب إلى قلب العاصفة. صحيحٌ أن انخفاض أسعار النفط هو بمثابة الرياح المعاكسة الخطيرة، لكن البترول يشكّل 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لإيران، بينما يشكل 40 أو 50 بالمئة لدى الجيران العرب. يندفع الاقتصاد الإيراني نحو التعافي بسبب احتمال رفع العقوبات عنه، وتحرير الأصول المجمّدة في الخارج، وتدفّق الاستثمارات الأجنبية، والارتفاع الحاد في إنتاج النفط.

كذلك تستعد إيران للاستفادة من الإدارة السياسية الجيدة. فقد نجحت حكومة الرئيس حسن روحاني في تصحيح بعض الأخطاء والقضاء على الفساد الذي ساد في عهد أحمدي نجاد الفوضوي. ويمكن لدعم الإصلاحات وتنفيذ بعض مشاريع الخصخصة أن يساعد في سد العجز في الميزانية. لقد عانت إيران الأمرّين من العقوبات، لكن هذا الأمر حفّزها لبناء قطاع اقتصادي مهم، رغم بعض العثرات. ويمكن القول إن هناك مجالات عديدة واعدة لدى إيران تشمل الزراعة والمناجم وقطاع الكيماويات وتصنيع السيارات والسياحة.

إذا اعتبرنا أن دول مجلس التعاون الخليجي في وضع صحّي معقول نوعاً ما، وأن إيران تتماثل للشفاء، فإن ما يمكن أن يُقال عن العراق هو أن وضعه يتراوح ما بين الحرِج والمحتضر. فدين الدولة الذي يبلغ 37 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لا يزال قابلاً للإنقاذ، لكن كما يقول الخبير بالشؤون العراقية توبي دودج فإن “نيجيريا تربض على ضفاف دجلة” (في إشارة إلى أن الثروة الضخمة التي تجنيها هذه الدولة الغنية بالنفط لا تُنفق على تطوير البلد أو تحسين مستوى معيشة المواطن). فالدولة لم تُبتلَ بخسارة ثلث أراضيها أمام الدولة الإسلامية وبنزاعها الطويل على صادرات وميزانية إقليم كردستان المستقل فحسب، بل هي تعاني أيضاً من الفساد المستشري وسوء الإدارة. على نحوٍ غريب، هذا يعني أنّ أسعار النفط المنخفضة قد لا تعني الكثير لمعظم الشعب العراقي الذي لا يستفيد من حكومته على كل الأحوال.

لكن ورغم كل التحديات التشغيلية والأمنية والمالية، ينتج العراق كمية هائلة من النفط. وقد رفعت شركات النفط العالمية إنتاج العراق النفطي إلى رقم قياسي بلغ أربعة ملايين برميل يومياً في يونيو ويوليو، ما جعل العراق كثاني أكبر دولة منتجة للنفط في أوبك (بعد السعودية التي تنتج 10,35 مليون برميل يومياً). وسيتجاوز الصين التي تحتل المرتبة الرابعة عالمياً. تسبّبَ هذا التضخم في إنتاج العراق وإيران، المتحالفتين سياسياً، بأزمة لمنافسيهما في دول مجلس التعاون، حتى في العام الفائت. قد يكون السعوديون قد أملوا بأن تنجح سياسة تخفيض الأسعار في إبعاد المنافسين، لكن التباطؤ الحاصل في الصين أرخى بظلاله على هذه المسألة.

صحيحٌ أن بعض دول الخليج يمكن أن تدبّر أمورها المالية والاقتصادية في الوقت الحالي، لكن في غضون سنوات قليلة، ستحتاج كافة الدول إلى إصلاحات جذرية إذا ما رغبت بالمحافظة على قوة قطاع النفط وحمايته من الانهيار.