Commentary

السبسي، مؤسّس الجمهورية التونسية الثانية، يترك خلفه إرثاً متضارباً

Tunisian President Beji Caid Essebsi attends a summit between Arab league and European Union member states, in the Red Sea resort of Sharm el-Sheikh, Egypt, February 24, 2019. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany - RC1131697370

فارق الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الحياة اليوم عن عمر 92 سنة. وقد وضع الرئيس السبسي، أول رئيس مُنتخب ديمقراطياً، الأسس للجمهورية الثانية في البلاد وسط منطقة تخضّها الاضطرابات عقب ثورات الربيع العربي.

بيد أنّ السبسي يترك خلفه إرثاً متضارباً. فهو شخصية استقطابية نالت ثناء داعميها لسنوات الخدمة التي قدّمها لتونس، بما في ذلك إيصال البلاد إلى الديمقراطية. لكن بالنسبة إلى معارضيه، كان السبسي من بقايا النظام المخلوع الذي قوّض العملية الديمقراطية.

والسبسي رجل دولة ذو عقود من الخبرة، فقد عمِل وزيراً للداخلية (من العام 1965 إلى العام 1969) ووزيراً للدفاع (من العام 1969 إلى العام 1970) ووزيراً للخارجية (من العام 1981 إلى العام 1986) إبّان عهد الرئيس حبيب بورقيبة، وعمل أيضاً رئيس مجلس نواب (من العام 1990 إلى العام 1991) في عهد الرئيس زين العابدين بن علي.

بعد خلع الرئيس بن علي في العام 2011، أُعيد السبسي من التقاعد واختير كرئيس حكومة توافقي للوصول بالبلاد إلى أول انتخابات ديمقراطية لها في العام 2011. وبعد أن فاز حزب النهضة الإسلامي المعتدل بهذه الانتخابات، جمع السبسي مجموعة من القوى السياسية لمعارضة النهضة، ودعا في العام 2013 إلى حلّ المجلس الذي هو بنفسه عمل على انتخابه.

في نهاية المطاف، اختار السبسي وضع البلاد فوق الحزب وتفاوض مع رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي في خلال سلسلة من اللقاءات بدأت في أغسطس 2013. وأفضت هذه النقاشات إلى حوار وطني وفي نهاية المطاف إلى دستور جديد تمّت الموافقة عليه بالإجماع. فأدّى السبسي بذلك دوراً محورياً في إنقاذ الديمقراطية في تونس في خلال أزمة العام 2013 تلك. لكنّ مُنتقديه يشيرون إلى أنّها أزمة ساهم هو في نشوبها أصلاً.

بعد ذلك فاز السبسي بالانتخابات الرئاسية لعام 2014، وأصبح أول رئيس يتم انتخابه ديمقراطياً في تونس. وفي خطوة فاجأت حتّى حزبه، قرّر تأليف حكومة وحدة وطنية مع خصمه السابق، حزب النهضة، وهي خطوة يقول بعضهم إنّها أنقذت تونس من حرب أهلية وأكسبتها ثناء دولياً كنموذج للتوافق والتسامح.

بيد أنّ عهد الرئيس السبسي كان متقلقلاً. فقد تعرّضت تونس لثلاثة هجمات إرهابية كبيرة في مناطق مدنية في العام 2015. ويستحقّ السبسي نيل تقدير كبير لإعادة إحلال الأمن، لكنّ ذلك أتى على حساب إصلاح القطاع الأمني. في غضون ذلك، تابع الاقتصاد بالتدهور، على الرغم من جهود السبسي لإعادة النظر في قانون الاستثمار واعتماد الإصلاحات التي نصح بها صندوق النقد الدولي.

وكان السبسي قد أمل أن يتمحور إرثه حول التقدّمات المحرزة في مجال حقوق المرأة. إذ اقترح منح النساء حقوقاً تساوي حقوق الرجال بالميراث، وهذه سابقة في العالم العربي وإصلاحٌ كان ليحسّن قانون الأحوال الشخصية التقدمي الذي باشر به مرشده الحبيب بورقيبة. غير أنّ السبسي عجز عن حشد ما يكفي من الدعم للمساوة في الميراث حتى ضمن حزبه.

عوضاً عن ذلك، أكثر ما يمكن تذكّره من رئاسة السبسي هو ربما محاولاته للقيام بمصالحات مع بقايا نظامَي بورقيبة وبن علي. ففي العام 2017، أدخل السبسي قانون مصالحة منح العفو لمسؤولين فاسدين من النظامَين السابقين، مُحجّماً بذلك من عمل هيئة الحقيقة والكرامية. ورفض أيضاً طلب الهيئة لإصدار اعتذار رسمي لانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظامان السابقان والتي وثّقتها الهيئة والتي يبلغ عددها 62 ألف انتهاك، بما في ذلك بعض الانتهاكات التي كان متواطئاً فيها في الستّينيات.

ويوصم إرثه كرئيس أيضاً لمحسوبيّته تجاه ابنه حافظ، إذ سعى لتعيينه مكانه رئيساً لحزبه نداء تونس. فكانت النتيجة تصدّعاً كبيراً في الحزب. وأدى خروج بعض النواب منه إلى تدهوره من المرتبة الأولى إلى الثالثة في البرلمان وقوّض هدف السبسي بتشكيل ثقل سياسي موازن لحزب النهضة.

باختصار، يترك السبسي خلفه إرثاً مختلطاً، من خلال توجيه مسيرة بلاده في الانتقال نحو الديمقراطية وعرقلة هذه المسيرة في الوقت عينه. فقد جهد لضمّ النظام القديم في العملية السياسية، حتّى لو شكّل ذلك خطراً على الديمقراطية. وتجسّدت روح الدمج هذه في قراره النهائي كرئيس: رفض حظر عدة مرشّحين شعبويين مثيرين للجدل من انتخابات العام 2019. وسيبيّن الزمن ما إذا سيتمّ تطبيق هذه الخطوة الدامجة وما إذا ستحافظ على ديمقراطية تونس اليافعة أو تقضي عليها. لكنّ الأكيد أنّ تونس لن تكون على حالها من دون السبسي.