Commentary

Op-ed

مكافحة التمرّد أم تطهير عرقي في سيناء؟

إليس عليك النظر بعيداً لاستشعار الخيانة. أصبح الغضب جلياً في الجانب المصري من شبه جزيرة سيناء، حيث تم تشريد الآلاف من قِبَل جيش بلادهم.

السياسة التي يعتمدها النظام الحاكم في سيناء، وطريقة تنفيذها من قِبل البيروقراطيات الأمنية والعسكرية، قد حوّلت مشكلة أمنية محدودة إلى حالة تمرد محلي مُسلح.

يقول أبو مسلِّم بمرارة: “نحن باقون هنا. يقصفون المنزل، نبني كوخاً. يحرقون الكوخ، نبني كوخاً آخر. يقتلون، ننجب الأولاد. أدعو الجيش لكي يعاملوننا كما عاملناهم في العام 1967 حين أعطيناهم ملابسنا لإخفائهم من الإسرائيليين وقدّمنا لهم كافة الخدمات واحترمناهم وساعدناهم على الفرار. هل هكذا يردّون الجميل؟”

أبو مسلِّم هو واحدٌ من بين كثيرين تشرّدوا وأصبحوا من دون مأوى نتيجةً لحملات القمع التي شنها الجيش النظامي و نتيجة لسياسات الإجلاء القسري المتبعة في العديد من القرى الحدودية وكذلك في بلدة رفح وضواحيها.

شهدت الموجة الأخيرة، التي بدأت في 29 أكتوبر، تهجيراً قسرياً لأكثر من 1165 أسرة وتدمير أكثر من 802 منزل في المناطق المجاورة لقطاع غزة.

شملت الحملات السابقة — التي بدأت في أواخر العام 2000 بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية — تكتيكاتٍ على غرار طرد العائلات بالقوة بعد إمهالهم 48 ساعة فقط قبيل تفجير منازلهم، وتدابير مختلفة من الترهيب، والقصف العشوائي بما في ذلك قصف المنازل والمدارس، وعمليات الاعتقال الجماعي، والتعذيب المنهجي للمشتبه بهم، وإطلاق النار على جموع المتظاهرين.

وحالياً، شاع فرض حظر التجول من الغسق حتى الفجر.

ونادراً ما تعمل شبكات الهواتف المحمولة والإنترنت، بالإضافة إلى ما تعانيه محطات البترول من شحٍ في الوقود والغاز. بينما تنتشر نقاط التفتيش بشكلِ كثيف في الشوارع. ولما حاول أحد الصحفيين تصوير الشوارع الخالية في بلدة الشيخ زويد التي تحولت إلى بلدة أشباح، رُدّ عليه برصاصة قناص من بين عشرات القناصة المنتشرين على أسطح المباني القليلة في وسط البلدة.

في العام 2012، حذر عبد الفتاح السيسي الذي كان حينها وزيراً للدفاع ضباطه من اتباع تكتيكات مماثلة مخافة “خلق عدو داخلي، لديه ثأر ضدنا”.

إذاً، لما هذه التكتيكات ما زالت موجودة؟

أخطاء مكافحة التمرد

لقد أنذر التدهور السريع للوضع في شبه جزيرة سيناء المراقبين المحليين والدوليين وألقى الضوء على الأزمة المستمرّة على المستويات السياسية والاجتماعية والأمنية والجهوية والإنسانية. وتعود جذور هذه الأزمة إلى أعقاب الانسحاب الإسرائيلي في العام 1982.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت السياسات الأمنية والاجتماعية ترى سيناء بشكل أساسي على أنها تهديد، وتعتبر سكانها مخبرين و/أو إرهابيين و/أو جواسيس و/أو مهربين، لا مواطنين مصريين.

تمّت صياغة تلك السياسات وتنفيذها من قِبَل الأجهزة الأمنية والعسكرية وعلى رأسها مباحث أمن الدولة (والتي أصبحت تُسمّى الآن جهاز الأمن الوطني)، وجهاز المخابرات العامة، وجهاز الاستخبارات العسكرية دون أي مراجعة أو مراقبة من هيئات القضائية أو مجالس منتخَبة أو خبراء مستقلين.

باختصار، كانت السمة الرئيسية لهذه السياسات التي يقودها القطاع الأمني مزيجاً من القمع الشديد ومحاولات إقامة صفقات مع زعماء قبائل محددين.

وكانت النتيجة الرئيسية لهذه السياسات، بين العامين 2000 و2014، تحويل مشكلة أمنية محدودة بشأن الدعم اللوجستي لعدد من الجماعات الفلسطينية في غزة، إلى حالة من التمرد المحلي المسلح، نما بشكل مطرد في حجمه ونطاقه الجغرافي وقوته العسكرية ومداه الزمني و موارده اللوجستية وقدراته الدعائية وشرعيته الوجودية. وقد غيّر كذلك من أهدافه بشكلٍ كبير.

وقد ساهمت شرارات رئيسية ثلاثة في حدوث هذه التحولات، كلها تتعلق بالإخفاقات الأمنية وسياسات مكافحة التمرد.

كانت الشرارة الأولى هي رد فعل أجهزة نظام مبارك الأمنية على التفجيرات المتزامنة في طابا ونويبع في أكتوبر 2004. فقد كانت معلومات جهاز مباحث أمن الدولة عن الجناة محدودة، وبالتالي شنّت حملة قمع وحشية في شمال شرق سيناء واعتقلت على أثرها حوالي 3,000 شخص وأخذت نساء المشتبه بهم وأطفالهم و بعض أقربائهم رهائن لكي يستسلموا.

لم تحل مثل هذه التكتيكات دون حدوث المزيد من الهجمات في العامين 2005 و2006 ولاحقاً، بيد أنها أدت إلى تعميق المظالم الاجتماعية والسياسية بين المجتمعات القبلية على نطاق أوسع؛ مظالم كانت موجودة أصلاً منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي.

أما الشرارة الثانية، فكانت مجزرة رابعة العدوية في 14 أغسطس 2013. وتُعتبر هذه المجزرة، التي سقط ضحيّتها 932 شخصاً موثّقين و337 آخرين غير موثّقين، الأسوأ في تاريخ مصر الحديث.

وأدت رابعة والمجازر المماثلة الأخرى إلى تغيير في خطاب وأدبيات جماعة ”أنصار بيت المقدس“، وهو التنظيم المسلّح الأكثر فعالية حينها في شبه الجزيرة.

فقد كان موقف ”الأنصار“ من الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات هو الإدانة. فقد انتقد التنظيم بشدة الإخوان المسلمين، وخاصة الرئيس محمد مرسي، على المشاركة في الانتخابات. وبعد حدوث مجزرة رابعة، قام ”الأنصار“ بتنفيذ عمليات على المستوى الوطني وتوثيقها في سلسلة فيديوهات بعنوان ”غزوة الثأر لمسلمي مصر.“ رسالتهم كانت واضحة: العمليات ليست دفاعا عن ديمقراطية لا يؤمنوا بها ولا بنتائجها الأولية المؤقتة (فوز حزب الحرية والعدالة)، وانما ثأراً لمن أريقت دماؤهم من المسلمين في الاعتصامات.

و مما لا شكّ فيه أنّ البيئة القمعية والتغيير في الأدبيات قد ساهم في تعزيز جهود ”الأنصار“ على التجنيد، و كذلك تعزيز شرعية الأعمال المسلحة، بالإضافة إلى تعزيز موارد التنظيم ككل.

أما الشرارة الثالثة والأخيرة، فكانت في سبتمبر 2013، عندما صعّد الجيش النظامي من عملياته ووسّع حملة القمع إلى مستوى غير مسبوق حتى بالمقارنة مع حملات القمع في ظل حكم مبارك (الذي استهدف شبه الجزيرة بين عامي 2000 و2011)، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة (خلال العملية “نسر 1” في أغسطس 2011)، ومرسي (خلال العملية “نسر 2” التي بدأت بعدها بسنة).

تطهير عرقي؟

ماو تسي تونغ كانت له حكمة شهيرة : ”المغاوير (مقاتلي الحروب الثورية أو الحروب الأنصار والعصابات) يجب أن يسبحوا بين الناس كما يسبح السمك في البحر.“ و قد ساهمت سياسات القمع المكثّفة في خلق مثل هذا “البحر” في سيناء و ساهمت أيضا في توسعته والمحافظة عليه. ورغم ذلك، فإن الاعتقاد السائد بين الأجنحة المسيطرة على البيروقراطيات العسكرية والأمنية هو أنه كلما زاد القمع وتوسّع (سواءً كان قمعاً وقائيا أو ردة فعل) كلما زاد احتمالات الاخضاع والسيطرة على التنظيمات المسلحة وعلى سكان شبه الجزيرة معهم.

بيد أنّ هذا الاعتقاد غير مدعوم – لا عقلانيا ولا عملياتيا. فتجارب الأربعة عشر عاما الأخيرة في سيناء تشير لعكس لذلك، وكذلك أية مراجعة عقلانية مستقلة للسياسات الأمنية.

تجدر الإشارة إلى إنّ ما يفعله الجيش النظامي في سيناء تثير سؤالاً أخلاقياً في غاية الأهمية. إذ إنّ التشريد القسري لسكان محليين من خلال تدمير المنازل والمراكز الاجتماعية والمزارع والبنية التحتية وتدنيس المقابر وأماكن العبادة والإذلال المتعمد وأخذ الرهائن والتعذيب الممنهج والقصف العشوائي، يمكن أن يُفسّر إلى آن الحملة ليست لمكافحة تمرد مسلح على نظام سياسي، بل أنها بمثابة حملة تطهير عرقي. وبالطبع يترتّب على ذلك عواقب قانونية وسياسية ودولية.