Commentary

Op-ed

في مصر، الانقلاب يجر الانقلاب

قد تكون لحظة انفعال الناشط السياسي المعارض إيهاب الخولي الأكثر لفتاً للأنظار على الإطلاق على شاشات التلفاز. ففي اليوم الذي سبق الانقلاب في مصر، انفعل الخولي بطريقة لاذعة أثناء تعليقه على خطاب الرئيس محمد مرسي الأخير.

“رئيس الجهورية السابق مجنون بالسلطة”، هكذا صرخ الخولي منفعلاً بعنف. وأضاف: “هذا الرجل كاذب ومخادع”. انقطع نفس المحامي وانحنى إلى الأمام وانتابته نوبة سعال فيما كانت مذيعة البرنامج تتوسل إليه ليهدأ، إلا أنه استمر وأخذ يضرب الطاولة ويقفز عن كرسيه لمدة تقارب الأربع دقائق.

عبّر الخولي بشكلٍ صارخٍ عن غضب وإحباط الملايين من المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع في 30 يونيو. لم تكن الديمقراطية بالنسبة للكثيرين مجرد مسألة إيمان أو حتى مبدأ، بل كانت بمثابة وسيلة توصلهم إلى شيء آخر: الشعور بالكرامة، تحقيق مكاسب اقتصادية، أو حرية اللباس والتفكير كما يحلو لهم. فكان شعورهم بأن الديمقراطية قد فشلت في تحقيق مكاسب حقيقية وراء انهيار النظام السياسي، وعودة الجنرالات، والإطاحة بأول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً.

المشكلة في الانقلابات، بالإضافة إلى أنها بعيدة كل البعد عن حل النزاعات، هي أنها تهدد برفع وتيرتها. بعد وقتٍ قصير من الإطاحة بمرسي، أغلقت المؤسسة العسكرية المصرية عدداً من المحطات التلفزيونية الإسلامية وأمرت باعتقال مئات الإخوان المسلمين. علاوةً على ذلك، شهد الأسبوع الماضي تصاعداً في أعمال القمع مع إقدام أفراد الجيش على قتل أكثر من 50 مناصر لمرسي وإقدام الرئيس الجديد الذي عيّنه الجيش على إصدار مرسوم دستوري يمنح نفسه من خلاله سلطة مطلقة تقريباً.

رغم تحديد جدول زمني لإجراء الانتخابات مدته ستة أشهر، إلا أن الأحداث هذه ترسم صورة قاتمة لما هو آتٍ. مع الانقسام الذي تعيشه البلاد حول شرعية قادتها، يبدو القمع أمراً لا مفر منه كوسيلة لفرض النظام الجديد.

لا شكّ أن الرئيس مرسي خيّب الآمال بشكل لا يوصف وكان ذو رؤية ضيقة الأفق وغير مؤهل في تنفيذ ما وعد به الشعب. توجب على مرسي أن يدرك أن أكبر تهديد لديمقراطية حديثة السنّ يأتي من أولئك الذين يعتقدون أن لا حصة لهم في النظام السياسي، والذين من شأنهم أن يضروا لذا وجب استقطابهم، الأمر الذي يتطلب رحابة صدر. حتى ولو كنت على “حق” – حتى ولو تمكنت من الفوز في خمس جولات انتخابية، كما حصل مع الإخوان المسلمين– يمكنك، لا بل يتعين عليك، تقديم المزيد من التنازلات. ويتعين عليك أن تحاول بجدية إلى أقصى حد ممكن.

لكن، تحت حكم مرسي، كان هناك عملية سياسية تسمح على الأقل للمعارضة أن تطعن في قراراته وأن تفوز بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية وربما حتى أن تشكل حكومة. وبعبارة أخرى، كان هناك إمكانية للتغيير من داخل النظام.

مما لا شكّ فيه أنّ هذا غير موجود اليوم. قسمٌ من المصريين يعتبر منصور عدلى رأس الدولة الشرعي، في حين ما زال مرسي الرئيس الشرعي بالنسبة للقسم الآخر. دفع الانقلاب والقمع الذي لحقه الملايين من أنصار مرسي خارج النظام السياسي. وسيكون من الصعب عليهم أن يشاركوا في عملية سياسية لا يعترفون بها. نعم، الديمقراطية هي أكثر من مجرد صناديق الاقتراع. غير أنّ الاضطرابات في مصر تؤكّد على ضرورة اتخاذ الانتخابات بجدية أكثر باعتبارها أساس النظام الديمقراطي.

إذا كان إنزال حشود كبيرة إلى الشوارع كافياً للإطاحة بقائد مُنتخب، فمفهوم الشرعية الديمقراطية بحدّ ذاته سيكون تحت وطأة ثورة دائمة للجماعات. وكما قال أحد أنصار مرسي قبل يوم واحد من الانقلاب، “حسناً، إذا أسقطوا مرسي، سنقوم بإسقاط الرئيس الذي سينتخبونه”.

هذه هي الطريقة للتعبير عن الديمقراطية، حيث تم استبدال صناديق الاقتراع بالميادين والجادات العريضة وعملية فرز الأصوات بالجثث. تحوّلت المنافسة السياسية إلى حرب حشود وأعداد محتجين مبالغ فيها. لم يكن عدد الـ33 مليون الذي أشار إليه معارضو مرسي مجرد نتاج الحماس المفرط وغياب التصور المكاني، بل مثّل شعبوية خالصة تناسب “الشعب” وإرادته وتؤدي في نهاية المطاف إلى نهايات مسببة للخلاف.

قد تبدو الحالة بالنسبة للديمقراطية الإجرائية مملة وحازمة. في الحقيقة، لا علاقة لهذه الديمقراطية بالموضة السياسية. أتذكر رؤية أصدقائي المصريين والتونسيين يتباهون بإبهامهم الملون حين اقترعوا للمرة الأولى في العام 2011. عمَ شعور جيد، ولكن لا يمكن مقارنة هذا الشعور باندفاع الثورة. قد يكون المؤرخ إيريك هوبسباوم أفضل من عبّر عن ذلك، إذ كتب في سيرته الذاتية عام 2002: “بعد ممارسة الحب، ذلك النشاط التي يجمع بين الخبرة الجسدية والعاطفة الجياشة، تعتبر المشاركة في مظاهرة جماهيرية تمجيداً عاماً رائعاً”.

ثمة بريق يتوهج بعد الإجراءات الانتخابية وبناء الأحزاب السياسية وتنظيم الناخبين الذين يمكن أن يكونوا قد فقدوا الثقة في السياسيين. إلا أن الأمور هذه جميعها تبقى ضرورية، ومن دونها، لا وجود لوسيلة حقيقية لممارسة السياسة.

عندما ستُقام جولة جديدة من انتخابات حرة ونزيهة وشاملة في مصر وفي حال حدوثها، سيكون احترام نتائجها أمراً هاماً بدلاً من التخلص منها كما حصل في الانتخابات الخمسة المتعاقبة بين 2011 و2012. إنّ الديمقراطية، في جوهرها، ليست مسألة فوز – فأي شخص يمكن أن يفوز – بل هي إتقان فن الخسارة.