Commentary

Op-ed

تجاوز أزمتي الجزائر السياسية والاقتصادية

A demonstrator gestures during a protest demanding political change, in Algiers, Algeria March 12, 2021. REUTERS/Ramzi Boudina     TPX IMAGES OF THE DAY

في 21 مايو، اعتقلت السلطات الجزائرية قرابة 800 محتجّ كانوا قد تجمّعوا لاستنكار الجمود السياسي والمصاعب الاقتصادية المستمرّة في أرجاء البلاد. وكانت هذه الخطوة من أبرز استعراضات القوّة التي يبديها النظام حتّى اليوم في وجه الانتفاضة الشعبية الناشبة منذ سنين والمعروفة باسم “الحراك”، وقد استأنفت تظاهراتها الشعبية الأسبوعية في فبراير بعد تعليق نشاطاتها نحو سنة بسبب جائحة فيروس كورونا المستجدّ.

لقد بدأ ناشطو الحراك بتنظيم نشاطهم في العام 2019 للمطالبة باستقالة الرئيس الحاكم آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، لكنّ سرعان ما تطوّرت مطالبهم لتشمل نداءات لتغيير شامل للنظام السياسي. ومؤخراً، تأجّجت الاحتجاجات أيضاً بفعل صدمتَي الجائحة وأسعار النفط المتهاودة التي فاقمت الوضع الاقتصادي الجزائري، ممّا أدّى إلى معدّلات بطالة مرتفعة، فضلاً عن انخفاض قيمة العملة وتضخّمٍ وتراجعٍ في القدرة الشرائية. وأقامت عدّة شرائح من المجتمع الجزائري إضرابات في الأشهر الأخيرة، بمن فيهم موظّفو القطاع الصحّي ومجموعات شبابية وموظّفو البريد.

ويعمل النظام الجزائي، الذي يمثّله خلف بوتفليقة، الرئيس عبد المجيد تبون، علماً أنّ القوّة الحقيقة تكمن في يد الجيش، لاحتواء الاضطرابات فيما يواجه مشكلة العائدات المتضائلة. وقد بُذلت بعض الجهود الرمزية لإخماد غضب المحتجّين، على غرار تنظيم انتخابات نيابية مبكرة كان من المفترض أساساً أن تُقام في العام 2022 لكن تمّ تقريب موعدها إلى يوم السبت الجاري. بيد أنّه لا ينبغي النظر إلى الانتخابات على أنّها تنازل حقيقي يقدّمه النظام، إذ لن تؤدّي إلى تغيير كبير.

وعوضاً عن التعاطي بجدّية مع مطالب الحراك، اعتمد النظام باضطراد على القمع. فعلاوة على زجّ المحتجّين في السجن، وجّه اتّهاماتٍ ملفّقة ضدّ ناشطي الحراك وضيّق على الصحافيين. وكانت هذه الاستراتيجية القاسية فعّالة حتّى الآن، لكنّ الجائحة غيّرت الرهانات في العلاقات بين الدولة والمجتمع في الجزائر عبر تسليط الضوء على أزمة الشرعية التي يعانيها النظام. فالجهتان كلتاهما تواجهان حائطاً مسدوداً في الوقت الراهن، والمزيد من القمع لن يحلّ المسألة. عوضاً عن ذلك، ينبغي على النظام أن يعيد النظر في نموذجه الاقتصادي الريعي المختل وأن يعالج حاجات البلاد بشكل فعلي: إغاثة اقتصادية كبيرة وواسعة النطاق ولقاحات للحماية من فيروس كورونا المستجدّ وتطبيق خطط طال انتظارها لتنويع الاقتصاد. والمهم أنّ النظام المنعزل تاريخياً والشعب قد أبديا كلاهما بوادر انفتاح على العالم الخارجي، مما يمنح الجهات الفاعلة الدولية فرصة نادرة لتوطيد العلاقات مع الجزائر.

ويعاني اقتصاد الجزائر الذي يعتمد على الهيدروكربون مجموعةً من المشاكل المالية القديمة التي لها صلة بسوء إدارة العائدات المتراكمة وببيئة أعمال غير مؤاتية تطغى عليها النخبُ العسكرية وقطاع خاص مقيّد. وقد دفع التراجع الاقتصادي الذي سبّبته الجائحة العالمية وانخفاض أسعار النفط بالحكومة إلى الحدّ من الإنفاق العام وتأخير مشاريع استثمارية كانت تُخطّط للقيام بها. ويؤدّي هذا الأمر إلى بروز خطر عرقلة إصلاحات التنويع الضرورية على المديَين القصير والمتوسّط. وخفّضت الحكومة أيضاً من قيمة الدينار الجزائري في محاولة منها لتحفيز الصادرات وتعزيز الإنتاج المحلّي، لكنّ هذه الخطوة زادت من صرف الدنانير في السوق السوداء، ممّا فاقم أزمة السيولة في البلاد وأفضى إلى تضخّم. علاوة على ذلك، زادت الجائحة من النفقات للرعاية الصحية والرفاه وحجّمت في المقابل الانفاق الاستهلاكي وإنتاج البضائع، ممّا أدى إلى تراجع في العائدات الضريبية التي تحصّلها الحكومة.

وأفضى ذلك إلى أرقام اقتصادية مريعة للعام 2020. فقد تقلّص الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة مقدّرة تبلغ 6,5 في المئة، فيما ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلّي الإجمالي لتصل إلى 68 في المئة، أي بارتفاع 21 نقطة عن السنة السابقة. ويناهز معدّل البطالة في الوقت الراهن نسبة 14 في المئة، بعد ورود تقارير عن خسارة 500 ألف وظيفة منذ بداية الجائحة، ممّا دفع بالقادة الجزائريين للتفكير في طلب قرض طارئ من صندوق النقد الدولي، على الرغم من سحب الفكرة من التداول نظراً إلى تجربة الجزائر السلبية في الاقتراض من صندوق النقد الدولي في التسعينيات، عندما كان عليها أن تعيد هيكلة دينها الخارجي عقب صدمتَي النفط في العام 1986 والعام 1990. وقد ضمّت شروط صندوق النقد آنذاك تخفيض قيمة الدينار بنسبة 40 في المئة وخصخصة المؤسّسات التي تملكها الدولة وإغلاق الشركات غير المربحة والتخفيض في الوظائف. ومع أنّ هذه الإصلاحات نجحت في استعادة الاستقرار المالي إلى حدّ ما، فقد دهورت مستوى السكان المعيشي. نتيجة لذلك، تفادت الجزائر اقتراض الأموال من الخارج منذ العام 2005.

وعلى الرغم من الموازنات المحدودة بسبب الانخفاض في عائدات الهيدروكربون وخفض الإنفاق، طبّق النظام الجزائري عدّة إجراءات إغاثة منذ بدء الجائحة. ومن أهم هذه الإجراءات إقرار قانون في يونيو 2020 يؤمّن أكثر من 50 مليون دولار للإمدادات الطبّية وعلاوات لموظفي القطاع الصحّي وتقديمات للبطالة المرتبطة بجائحة فيروس كورونا المستجدّ وتحويلات نقدية للأسر الضعيفة. واتّخذ النظام أيضاً إجراءات لدعم القطاع المالي، بما في ذلك خفض نسب الفوائد وخفض الحد الأدنى المطلوب من السيولة ونسب الاحتياطي الإلزامي للمصارف.

بيد أنّ هذه السياسات تعرقلت بفعل تأخيرات في تقديم المساعدات والغموض في عملية التوزيع. علاوة على ذلك، بسبب الموارد المحدودة في الجزائر، كانت رُزم الإغاثة المالية في البلاد أصغر منها في الكثير من الدول المُصدّرة للنفط. ولعلّها ساعدت على التخفيف من الضغوط الاقتصادية القصيرة الأمد المرتبطة بالأزمة الصحّية لكنّها لا تعالج مشاكل الجزائر الطويلة الأمد.

وسيكون للتداعيات الاقتصادية التي سبّبتها الجائحة آثارٌ واسعة على الديناميات السياسية في البلاد. أولاً، سيحدّ المجال المالي المقيّد من قدرة النظام على اللجوء إلى التنازلات الاقتصادية للحدّ من الاضطرابات، متحدياً بذلك النموذج الاقتصادي الريعي الجزائري الذي للدولة فيه قدرةُ وصول مباشرة واستنسابية إلى الريوع المحصّلة من صادرات الهيدروكربون التي تستخدمها الدولة بشكل أساسي لشراء السلام الاجتماعي. وبما أنها لا تتّكل على العائدات من الضرائب المفروضة على المواطنين هي لا تمنحهم تمثيلاً.

وبغياب الإصلاحات الفعّالة، ستستمرّ المسائل القديمة مثل انعدام المساواة والبطالة وتؤجِّج المزيد من الاضطرابات. في المقابل، سيؤثّر عدم الاستقرار السياسي في الاقتصاد بسبب الضبابية في الاستثمارات وبيئة أعمال غير مؤاتية. ولا شكّ في أنّ التظاهرات التي استؤنفت في فبراير ستعود بكامل حدّتها ما إن تتمّ السيطرة بالكامل على الجائحة الراهنة، فيعيد قادة الحراك التشديد على مطالبهم بإصلاحات جذرية ويتابعون بالمناداة بالانتقال من دولة تحت سيطرة الجيش إلى دولة مدنية. بيد أنّه من المستبعد أن يرضخ القادة العسكريون في البلاد لهذه الضغوط.

ويمكن أن تشكّل إخفاقات نظام الرعاية الصحّية الذي تديره الدولة والذي كشفته الجائحة دافعاً آخر للاعتراض. فتبعاً للمؤشر العالمي للأمن الصحّي، تحتلّ الجزائر مرتبة رديئة في مستوى التأهّب للجوائح، إذ تقع في المرتبة 173 من أصل 195 دولة. ففي العام 2018، بلغ الإنفاق على الرعاية الصحّية للفرد الواحد في الجزائر 963 دولاراً، مقارنة بالمتوسّط العالمي البالغ 1467 دولاراً. وعلاوة على مستويات التمويل المنخفضة، يواجه النظام نقصاً مزمناً في عدد الموظّفين، وهذه مشكلة ترتبط بمشكلة هجرة الأدمغة الهائلة في الجزائر.

من الواضح أنّ النظام الجزائري يواجه تحديات شديدة، والدعم الدولي سيعود عليه بالفائدة، لكنّه كان على مرّ التاريخ مرتاباً من التدخّل الأجنبي في شؤونه الداخلية بسبب ماضي البلاد الاستعماري العنيف. وقد ازداد انعدام الثقة بالجهات الفاعلة الدولية بعد التجربة السلبية المذكورة آنفاً التي اختبرتها البلاد مع قروض صندوق النقد الدولي في التسعينيات. وحتّى خارج نطاق النخبة السياسية المتقوقعة، يفضّل الجزائريون عموماً عدم التحلّي بعلاقات أوثق مع القوى العالمية. فقد تبيّن في استطلاع رأي أصدره الباروميتر العربي في العام 2019 مثلاً أن نسبة 24 في المئة من الجزائريين يريدون علاقات أوثق مع الولايات المتّحدة، وهي النسبة الدنيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وللجزائريين القليل من الرغبة في الحصول على المزيد من المساعدات الأجنبية، وأكثر من نصفهم يعتقد أنّ القوى الغربية تريد كسب النفوذ في بلادهم من خلال المساعدات.

ومع ذلك، تبرز إشارات بأنّ ميول الجزائريين الانعزالية تتغيّر رويداً رويداً. فقرابة 40 في المئة من الذين شملهم استطلاع الرأي الذي أجراه الباروميتر العربي نظروا إلى الانفتاح للعالم الخارجي نظرة إيجابية، أي بارتفاع عن نسبة 32 في المئة المسجّلة في العام 2013. وأبدى قادة البلاد أيضاً إشارات بالسير نحو المزيد من الانخراط، عبر التفكير الجدّي مثلاً في تلقّي مساعدات خارجية من جهات مانحة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويفتح هذا الأمر المجال أمام الجهات التي تقدّم المساعدات، على غرار البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، لتوطيد علاقاتها مع الجزائر والعمل مع النظام لمعالجة مسائل أساسية.

وترتبط بعض المسائل الأكثر إلحاحاً في الوقت الراهن في الجزائر بالجائحة. فمع أنّ الجزائر تلقّت قدراً من المساعدات الأجنبية في السنة الأولى من الجائحة، أبرزها 85 مليون يورو من المعدّات الطبيّة والمساعدة الاجتماعية الاقتصادية من المفوّضية الأوروبية، فهذا ليس بكافٍ، بل تحتاج البلاد إلى المزيد من المساعدات الطارئة، فضلاً عن جرعات اللقاح، نظراً إلى أنّ معدّلات التلقيح فيها هي الأدنى في شمال أفريقيا ومن بين الأدنى في العالم حتّى الآن. وأتى القسم الأكبر من المساعدات التي تلقّتها من موسكو وبكين. ففي فبراير، تلقّت الجزائر مئتي ألف جرعة من لقاح سينوفارم الصيني، وفي أبريل، أعلنت عن شراكة مع روسيا للمباشرة بإنتاج لقاح سبوتنيك في الخريف. وينبغي بالقوى العالمية الأخرى، ولا سيّما في أوروبا، أن تحذو حذو هذَين المثلين.

علاوة على هذه الحلول القصيرة الأمد للهموم التي توجهها الجزائر بفعل الجائحة، ينبغي عليها أيضاً معالجة المشاكل الهيكلية الطويلة الأمد وتنويع اقتصادها. فمع أنّ الجائحة تسبّبت بنكسة قاسية لهذه الجهود، يبقى المجال متاحاً لكي يقدّم الشركاء الدوليون المساعدة، مثلاً عبر تقديم الدعم المالي لتطوير قطاع الطاقة المتجدّدة وزيادة بناء القدرات للشركات الخاصة والاستثمار في قطاع السياحة الجزائري المتواضع.

وعلى الأرجح أنّ المجال الأكثر حساسية وتعقيداً لكلّ الأطراف المنخرطين سيكون التعامل مع المناخ السياسي المحتدم بين الدولة التي يقودها الجيش والمعارضة. ومن المستبعد أن يُحلّ هذا الطريق المسدود من خلال الانتخابات التشريعية المقبلة. فسيكون إقبال الناخبين منخفضاً على الأرجح، كما كان الحال في الانتخابات السابقة لأنّ الكثير من الجزائريين يعتبرون الانتخابات تمويهاً. علاوة على ذلك، القيادة العسكرية قوية جدّاً لدرجة أنّه من الصعب تصوّر سيناريو يتمكّن فيه أيّ مرشح أو حزب من التفوّق عليها. بعبارة أخرى، لن تحقّق الانتخابات التغيير الجذري الذي ينشده المحتجّون. ومع استمرار الاعتراضات، سيلجأ النظام من جديد إلى القمع.

والمعضلة التي تواجهها الجهات الفاعلة الدولية هي أنّها إذا انتقدت قمع النظام للمحتجّين والناشطين قد يولّد ذلك سلوكاً عدائياً لدى أصحاب القرار الجزائريين. بيد أنّها إن لم تعالج مسألة القمع فقد يراها الشعب على أنّها تدعم النظام الذي يعتبره الكثيرون غير شرعي. بالتالي، مع تحضّر القوى الأجنبية لتوطيد علاقاتها مع الجزائر، عليها أن تأخذ بعين الاعتبار مناخها السياسي المتأزّم واعتماد سلوك سياسي متوازن حساس.

Author