Commentary

Op-ed

السودان بحاجة إلى عملية عدالة انتقالية مناطقية ومتعدّدة المسارات

Sudan's former president Omar Hassan al-Bashir stands guarded inside a cage at the courthouse where he is facing corruption charges, in Khartoum, Sudan August 19, 2019. REUTERS/Mohamed Nureldin Abdallah

ويعمل مركز الخاتم عدلان للاستنارة، بصفته جهةً فاعلة في المجتمع المدني وحاشدةً للناشطين الشباب، على الاستفادة من الازدياد الكبير في الدعم الشعبي للديمقراطية وحقوق الإنسان في السودان عبر وضع عملية عدالة انتقالية مناطقية ومتعدّدة المسارات وبقيادة محلّية.

ولا ينبغي أن تأخذ أدوات العدالة بعين الاعتبار نطاق الجرائم المُرتكبة بحقّ الأفراد في منطقة معيّنة وأثرها فحسب، بل عليها أيضاً أن تعالج الأذى الذي لحق بمجتمعات بأسرها. وتبرز الحاجة إلى أصوات الناجين وعائلات الضحايا والمجتمع المدني ومنظّمات حقوق الإنسان كلّها للحرص على مصداقية عملية العدالة. وينبغي أن ينخرط أصحاب المصلحة هؤلاء منذ البداية لمدّ المبادرات الإقليمية بالمعلومات وكسب ملكية العملية، لأنّهم أفضل من يتحدّث عن الانتهاكات الخاصة بمجتمعاتهم وكذلك عن تطلّعات تلك المجنمعات للمستقبل.

وكما يعلم الكثيرون ممّن يراقبون المسائل المرتبطة بالعدالة في السودان، أدّت المحكمة الجنائية الدولية دوراً بارزاً في محاولات الوصول إلى المساءلة لجرائم تمّ ارتكابها في خلال صراع دارفور الذي بدأ في العام 2003. فقد تمّ اعتقال علي كوشيب، قائد سابق رفيع المستوى في ميليشيات الجنجويد، وتمّ وضعه في عهدة المحكمة الجنائية الدولية في يونيو 2020. وكانت المحكمة قد أصدرت مذكّرة توقيف بحقّه قبل ثلاث عشرة سنة، في العام 2007، بتهمة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية يُزعم أنّه ارتكبها في دارفور. ووجّهت المحكمة الجنائية الدولية تُهمَ ارتكاب المجازر والجرائم بحقّ البشرية وجرائم حرب ضد الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، بيد أنّه خضع للمحاكمة على تهم فساد في العاصمة السودانية الخرطوم بعد خلعه بفترة قصيرة في أبريل 2019.

وفيما يشكّل نقل كوشيب إلى لاهاي خطوة مهمّة في البحث عن العدالة والمساءلة على الساحة العالمية، ما زالت الأسئلة مطروحة حول عملية العدالة الأوسع في السودان. وفيما تتعاون الحكومة الانتقالية مع المحكمة الجنائية الدولية على التنسيق للمحاكمات في المستقبل، من المهم التذكّر بأنّ التغيير الطويل الأمد يفرض على السودان تخطّي المحاكمات الدولية، عبر الاستفادة من الوضعَين السياسي والاجتماعي الداخليَّين الراهنَين للحثّ على الإصلاح المؤسّساتي. بناء على ذلك، يُنشئ مركز الخاتم عدلان للاستنارة تحالفاً من المجتمع المدني لتطبيق استراتيجية تعالج تاريخَ العنف المعقّد في السودان، بدءاً من فترة الاستقلال في العام 1956 وصولاً إلى الثورة الحالية.

تصفية حسابات لتاريخ من العنف والظلم

اتّصفت فترة حكم البشير الممتدّة على ثلاثة عقود بالعنف الجماعي، ولا سيّما ضدّ المجموعات المُهمّشة. فمن حرب أهلية بين العامَين 1983 و2005 حصدت ما يفوق مليونين من الأرواح وأدّت إلى نزوح الملايين قسراً إلى الفظائع المُرتكبة في صراع دارفور في العام 2003 وصولاً إلى صراع العام 2011 في جبال النوبة والنيل الأزرق في جنوب كردفان، عانى الشعب السوداني خسارة ما بعدها خسارة. وعلى مرّ الصراعات والانتقالات المتعدّدة في البلاد، كان الاضطهاد واقعاً يومياً. فقد تعامل جهاز الأمن والمخابرات الوطني مع المعارضين السياسيين بعنف وبدون مواجهة أيّ عقاب، ولجأ إلى الاعتقال العشوائي والإعدام بغير محاكمة والتعذيب وغيرها من الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان.

بيد أنّ الشباب السوداني أعطى فسحة أمل عبر الانخراط بالتظاهرات والعمل الناشطي، فوضع حدّاً لحكم البشير وحزب المؤتمر الوطني التابع له. وتتحلّى الحكومة الانتقالية الحالية بقيادة مدنية في السودان بإمكانية إنشاء مؤسّسات قوية ومساءلة السلطات، فتسمح بالتالي بحصول تغيير هيكلي وتصفية حساب مجتمعية مع الماضي. وسبق أن انخرطت الحكومة الانتقالية مع المجتمع المدني والمحكمة الجنائية الدولية وبدأت بتطبيق الإصلاحات المُطالب بها وعملت على نصّ القانون الذي ينظّم شؤون المفوضية الوطنية للعدالة الانتقالية التي سيتمّ إنشاؤها في نهاية المطاف. وأنشأت الحكومة أيضاً لجان تحقيق للجرائم المُرتكبة في خلال تظاهرات وإعتصامات العام 2019. وقد أصرّ الكثير من السودانيين على تحقيق العدالة بشكل خاص لضحايا مجزرة الثالث من يونيو التي قُتل في خلالها أكثر من 120 شخصاً وجُرح المئات.

دعوة لعمليات عدالة انتقالية مناطقيّة متعدّدة المسارات في السودان

تعتمد استراتيجية مركز الخاتم عدلان للاستنارة لعملية العدالة الانتقالية على مجموعة متنوّعة من الآليات المصمّمة لتناسب المنطقة، من بينها المحاكمات والتعويضات ولجان تقصّي الحقائق ومبادرات المصالحة ونشاطات تخليد الذكرى. وسبق أن بدأ العمل في عدد من هذه المجالات، فتمّ رسم جداريات في أرجاء المنطقة للمحافظة على الذكريات وانطلقت بعض المحاكمات. ويهدف هذا النطاق من آليات العدالة، عند امتزاجها مع مرور الوقت، إلى تأمين إصلاح شامل ومؤسّساتي. وهذه خطوة مهمّة لاستعادة الثقة بالمؤسّسات، من القضاء إلى الشرطة، وللحرص على عدم التساهل بانتهاكات الحقوق بعد الآن. وتستأثر استعادة كرامة الضحايا باعتبار أنّهم مواطنون وبشر على قدم المساواة بالقدر ذاته من الأهمّية، وذلك عبر الاعترافات ونشاطات تخليد الذكرى، فضلاً عن استعادة صفة الضحايا البشرية من خلال التعويضات والاستجابة النفسية الاجتماعية.

في نهاية المطاف، إنّ هدف عملية العدالة الانتقالية في السودان هو أن تشبه الثورة التي كانت مُلهِمة لها، أي أن تكون بقيادة الشباب والمجتمع المدني السودانيَّين وأن تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المعقّدة والمتعدّدة الطبقات التي يتّصف به الظلم المُرتكب في البلاد. ومع استمرار الثورة ستستمرّ عملية العدالة الانتقالية، فتتكيّف مع حاجات المجتمع واستجابات الحكومة وتمتثل لها، مع السماح في الوقت عينه للشعب السوداني بخطو خطوات واثقة نحو مستقبل أكثر عدالة وسلاماً.