Commentary

Op-ed

آن الأوان لإعادة النظر في نهج معالجة أزمة النزوح العراقية

في مشهد يذكّرنا بأزمة النزوح في العراق بين العامين 2006 و2008، نرى مئات الآلاف من العراقيين يفرّون مرة أخرى من مناطق النزاعات العنيفة إلى مناطق تُعتبر أكثر أمناً. في الواقع، نزح أكثر من 1,2 مليون عراقي منذ اندلاع المعارك في محافظة الأنبار بين المتمرّدين السنة والجيش العراقي في بداية هذا العام، وقد ازداد الوضع سوءاً إثر التقدم الذي أحرزته دولة الإسلام في العراق والشام (داعش).

للأسف، يبدو أن هذا النزوح الجماعي سيكون أكثر تعقيداً من المرة السابقة.

أولاً، استولى مقاتلو داعش بسرعة ووحشية على مساحات كبيرة من الأراضي لإنشاء الخلافة الإسلامية الممتدة على سوريا والعراق. واستفادت داعش من الاستياء المنتشر بين السكان المحليين السنة لتشنّ حرباً طائفيةً مفتوحةً على الحكومة ذات القيادة الشيعية في بغداد. وفيما تعزّز داعش سيطرتها، تطلب من المسلمين مبايعتها والعيش وفق تفسيرها المتشدد للإسلام وتدعو إلى الجهاد العالمي.

ترد قوات الأمن العراقية بهجوم عسكري شرس يهدف إلى الدفاع عن بغداد أولاً، واستعادة السيطرة على الموصل وتكريت. لكن تصعيد العنف، مع ما يشمله من قتال وانعدام الاستقرار وقطع للطرقات، يعني أن المنظمات الإنسانية الوطنية والدولية لا تستطيع أن تصل إلى أهل الحاجة.

ومع سيطرة المقاتلين على الطرقات البرية المؤدية للجنوب، لجأ أكثر من 300 ألف عراقي من محافظات نينوى وديالى وصلاح الدين إلى كردستان المجاورة. ومع أن هذا الرقم يضم الكثير من العرب السنة – الموالين للحكومة عادةً – إلا أنّ قسماً كبيراً من النازحين في المناطق الكردية ينتمون إلى مختلف الأقليات العرقية والدينية الموجودة في شمال العراق، أي المسيحيون والشيعة والتركمان والشبك واليزيديون.

وتخشى معظم الأقليات العودة إلى مجتمعاتها المحلية بعد أن أطلقت داعش ما يصنَّف بحملة تطهير عرقي. في بلدتي تلعفر والبشير، على سبيل المثال، يُقال أن داعش قد أعدمت أفراداً من الأقليات ودمّر أماكن العبادة الشيعية ونهب المنازل واغتصب النساء وفرض عليهن الزواج بالإكراه.

الواقع هو أن الأزمة الحالية تجمع بين موجات سابقة من النزوح ضمن العراق وفي المنطقة. ولم يجد أكثر من مليون عراقي بعد ممن نزحوا من جراء أعمال العنف بين العامين 2006 و2008 حلولاً مستدامة. فقد أدت الأزمات إلى دفعات من النزوح داخل البلاد؛ وأضيف إلى عبء اللاجئين السوريين الـ220 ألفاً عشرات آلاف اللاجئين العراقيين في سوريا الذين عادوا إلى ديارهم مؤخراً. حتى بين آخر دفعة من النازحين ، قال أكثر من 80 بالمئة من الذين شملهم استطلاع للرأي أُجري مؤخراً إنهم أُجبروا على الهرب أكثر من مرة.

وتجعل هذه الدفعات من النزوح الحلول في المنطقة أكثر تعقيداً. شهدت منطقة الشرق الأوسط تاريخاً طويلاً من النزوح، لكن رغم أن مئات آلاف العراقيين نجحوا في الهرب إلى الدول المجاورة في الماضي، إلا أنّ عدداً قليلاً من العراقيين قد يلجؤوا إلى سوريا التي تمزّقها الحرب، فيما تعجّ الأردن باللاجئين.

حتى ضمن كردستان العراقية، بدأت السلطات بفرض قيود أمنية صارمة على الحواجز مع الدولة المركزية العراقية. وحدهم العائلات أو السكان الذين لديهم كفيل مقيم يُسمح لهم بالعبور إلى الأراضي الكردية – وعادةً ما يحصلون على إقامة لمدة سبعة أيام. أما بالنسبة للرجال العازبين، فيُمنعون من العبور أو يعانون الكثير للدخول إلى المنطقة للسفر بالطائرة إلى البصرة من مطار أربيل.

أما الفارق الأخير مع النزوح السابق فهو بكل بساطة أنّ الأوضاع الداخلية والدولية قد تغيّرت. ففي منتصف شهر يونيو، بعد انسحاب الجيش العراقي، سيطرت قوات البشمركة الكردية على مدينة كركوك المتنازع عليها ومساحات كبيرة من ديالى والموصل، لتتوسع الأراضي الكردية بحوالي 40 بالمئة. يدعو رئيس إقليم لكردستان مسعود البارزاني إلى إجراء استطلاع للرأي حول استقلال هذه المناطق عن العراق.

في الوقت الذي تقوم فيه قوات البشمركة بما في وسعها لحماية المدنيين من الهجمات الجهادية، غالباً ما تُقطع عن سكان المناطق المتنازع عليها الخدمات الأساسية والمساعدة. وقد تعهّدت الحكومة المركزية بتوفير 300 ألف دينار عراقي (250 دولار أمريكي) للعائلات النازحة في الأشهر الستة المقبلة. لكن مع التوتر السياسي بين كردستان والحكومة المركزية العراقية، حول صادرات النفط ودفع الرواتب ومستقبل كركوك مؤخراً، ليس من المرجّح أن يتحقق هذا الدعم فعليّاً في وقت قريب.

أما على الصعيد الدولي، عادةً ما يؤدّي نزوح مليون شخص في أشهر قليلة إلى استجابة طارئة يساهم فيها جميع الأطراف. بيد أنّ مع استمرار الوضع الراهن في سوريا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، على سبيل التعداد لا الحصر، يواجه نظام المساعدات الإنسانية الدولية صعوبات كثيرة. بينما كانت الأمم المتحدة تطالب بـ312 مليون دولار لدعم النازحين الجدد في العراق، كانت تطالب أيضاً بتأمين 3,24 مليار دولار للاستجابة الإقليمية في سوريا، مع أنه لم يتم جمع سوى جزء بسيط من الطلب الأساسي للعراق.

كل ذلك يعني أنه آن الأوان للبحث عن حلول جديدة.

من شأن تعّهد المملكة العربية السعودية الأخير بتوفير 500 مليون دولار أن يمكّن الأمم المتحدة من القيام بأكثر من ذلك لمعالجة الأزمة الإنسانية الحالية ومساندة الحكومة العراقية بفرق عمل مختصة. ولكن، في حين أن الشعب العراقي يستحق الثناء على كرمه وحسن الضيافة، من الواضح أنه حتى ذلك له حدوده. بالتالي، من الضروري توفير الدعم العملي، وليس مجرّد كلمات، لمساعدة البلاد على التعامل مع هذه الأزمة.