Research

هل القضاء على أنشطة الإخوان الاجتماعية في مصر يدفع الجماعة إلى العنف؟

ملاحظة المحرر: “الإسلاميون يناقشون الحركات الإسلامية” هي سلسلة جديدة ضمن مبادرة “إعادة النظر في الحركات الإسلامية” لمعهد بروكنجز. في هذه السلسلة، سنسمع مباشرة من النشطاء و القياديين الإسلاميين وهم ينخرطون في نقاش مع مؤلفين المشروع لتقديم وجهات نظرهم الخاصة حول مستقبل حركاتهم. انطلاقاً من روح الحوار البناء، ستتاح الفرصة للإسلاميين الفرصة لأن يتفقوا أو يختلفوا مع المؤلفين، ولأن يتحدوا الافتراضات والحجج التي يقدمها بعض كبار الباحثين في الحركات الاسلامية

بعد أشهر قليلة من العمل المعلن وحيازة السلطة، أعاد الانقلاب العسكري جماعة الإخوان المسلمين إلى أجواء العمل السري، وصنفتها السلطات كمنظمة إرهابية، وصادرت نحو 1200 من مؤسسات المجتمع المدني التابعة للجماعة أو لأفراداها، فضلا عن آلاف القتلى والمعتقلين. لم يعد أمام الجماعة إلا التظاهر في مناخ يتسم بالإقصاء والمكارثية.

تناقش هذه الورقة تأثير الحملة الأمنية غير المسبوقة على توجهات الجماعة وآليات صنع القرار الداخلي خاصة في ظل اعتقال قياداتها الأكثر تأثيرا، وفي ظل حالة من اللايقين تخيم على المنطقة عموما، حيث بات العنف سواء من الدولة أو من ميليشيات مسلحة هو اللغة السائدة في دول الثورات العربية ربما باستثناء تونس التي لم تسلم أيضا من تصاعد التهديدات الإرهابية. مع هذا، تجادل هذه الورقة أن احتمالات لجوء جماعة الإخوان في مصر لممارسة العنف في صراعها من سلطة الانقلاب العسكري أقل مما يعتقد كثير من المتابعين، بسبب بنية التنظيم الحالي ونمط الأفكار والثقافة الحاكمة له منذ عقود. وهو ما لا يتعارض مع تزايد احتمالات لجوء شريحة ليست قليلة لمواجهة عنف الدولة بعنف مضاد، سواء بصورة فردية غير مركزية، أو عن طريق الانضمام للمنظمات الأكثر عنفا كتنظيم «ولاية سيناء» أو «المرابطين»، أو حتى الالتحاق بالمعارك الدائرة في سوريا والعراق.

الاجتماعي والسياسي: عودة إلى النشأة الأولى

منذ نشأتها، مثّلت جماعة الإخوان المسلمين حركة اجتماعية في المقام الأول، يعتمد منهجها على جعل التغيير الاجتماعي أساسا للتغيير السياسي وشرطا له؛ ومن ثم اهتم «حسن البنّا» بتطوير النظام الاجتماعي وإصلاحه قبل تعديل النظام السياسي، حيث تعديل الأخير مرهون بإصلاح الأول. ومن ثم كان الاهتمام موجها في الأساس لـ«الأمة» وليس لـ«السلطة».[1]

هذه واحدة من الإشكاليات الأساسية التي تواجه أي باحث أو مؤرخ يكتب عن طبيعة جماعة الإخوان. بالتأكيد كان حسن البنا يسعى لتغيير سياسي كبير، وليس مجرد الاكتفاء بالوعظ الديني ومحاربة الانحرافات الأخلاقية داخل المجتمع. لكنّ الإصلاح السياسي من وجهة نظره لم يكن ممكنا دون تغيير أوضاع المجتمع نفسه، باعتبار أن النظام السياسي (الحكم) هو نتيجة طبيعية لأوضاع المجتمع. لذلك عندما أسس جميعة الإخوان المسلمين عام 1928 كان تركيزه الرئيسي فقط على الأوضاع الاجتماعية وتجنب تماما أي مشاركة سياسية، ويقرر القانون الأول (اللائحة الداخلية) لجمعية الإخوان المسلمين الصادر في الإسماعيلية عام 1930 أن الجمعية لا شأن لها بالعمل السياسي، حيث ذكرت المادة الثانية: «هذه الجمعية لا تتعرض للشؤون السياسية أيا كانت»، وشددت المادة 15 على عدم التعرض للشؤون السياسية أثناء اجتماعات الجمعية. والأغرب، أن المادة 42 التي تحدد آلية تعديل اللائحة، تمنع نهائيا تغيير بعض المواد من بينها المادة الثانية التي أشرنا إليها والتي تمنع على الجمعية المشاركة في العمل السياسي.[2]

بحسب هذه اللائحة، فإن أهداف الجمعية تنحصر في الجوانب الاجتماعية والأخلاقية، مثل نشر التعاليم الإسلامية ومحاربة الأمية ونشر الوعي الصحي خاصة في القرى ومحاربة الآفات الاجتماعية مثل المخدرات والبغاء، ومعالجة الأزمات الاقتصادية من خلال الوعظ والإرشاد. ومن ثم، تركزت أنشطة الجماعة في افتتاح مدارس وإلقاء المحاضرات وإنشاء مقرات للجمعية في مختلف المحافظات.

لكنّ الأولويات اختلفت بحسب ما أعلن حسن البنا في افتتاحية العدد الأول من «مجلة النذير» في مايو/أيار 1938، حيث قال صراحة: «إلى الآن أيها الإخوان لم تخاصموا حزبا ولا هيئة كما أنكم لم تنضموا إليهم كذلك.. أما اليوم ستخاصمون هؤلاء جميعا في الحكم وخارجه خصومة شديدة أن لم يستجيبوا لكم ويتخذوا مقاليد الإسلام منهاجا يسيرون عليه ويعملون له .. فإما ولاء وإما عداء».[3] 

كذلك، لم يكن «حسن البنا» شديد الوضوح في تحديد خطواته التالية، وهو ما يضع دائما احتمالات واستنتاجات على حقيقة رؤيته لعملية التغيير. فبينما انطلق في تأسيسه من قاعدة اجتماعية ودعوية، إلا أنه خلال السنوات الأخيرة تقدم خطوات مهمة تجاه حيازة نفوذ سياسي غير قليل، وهو ما يظهر في سعيه لتكوين مجموعات موالية للجماعة داخل الجيش، والشرطة، والقضاء. بالإضافة إلى تكوين الجهاز الخاص الذي ظهر كتهديد محتمل للنظام السياسي القائم خلال أواخر الأربعينيات.

هل معنى هذا أن الجماعة كانت تخطط لحيازة أدوات تغيير سياسي واسعة بعد التكوين قاعدة اجتماعية ستتقبل صعود الجماعة للسلطة وتو فر لها الدعم الأساسي في البداية؟ ليس هذا من المستبعد، خاصة وأن حسن البنا حدد ”مراحل الدعوة“ بأنها: التعريف بالفكرة والتبشير بها – اختيار الأنصار والأعضاء وتكوين القاعدة الصلبة للتنظيم – التنفيذ. لم يوضح حسن البنا المقصود بالتنفيذ، وهو ما يزيد الغموض حول خطواته التالية خاصة وأنه رفض بحسم العمل الحزبي، كما لم يتحمس للثورات الطبقية التي تقوم على إقصاء طبقات اجتماعية لصالح طبقات أخرى، لكنه أيضا لم يرفض مبدأ الثورة على الحكومات التي لا تستجيب لتطلعات الشعب، حيث أكد أن الحكومة التي لا يجدي معها النصح والإرشاد يجدي معها الخلع والإبعاد.[4]

لكنّ الجماعة حافظت – فقط – على أدبيات «حسن البنا» التي تؤمن بأهمية التغيير الاجتماعي، وبأن وجود قاعدة اجتماعية واسعة تؤمن بأفكاره هو السبيل الوحيد لبناء نظام سياسي يطبق هذه الأفكار. ورسخت فكرة أن الإخوان لايؤمنون بالثورة، وأنه لا جدوى من الصدام مع الدولة خاصة بعد التجربة الناصرية المؤلمة. كانت الجماعة دائما على استعداد لتقديم تنازلات سياسية مقابل مزيد من الحرية في ممارسة الأنشطة الاجتماعية والدعوية باعتبار أنها الاستثمار اللازم لإحداث أي تحول سياسي، وهو ما بدأه «حسن البنا» نفسه حين تنازل عن الترشح هو و16 من أفراد الجماعة في الانتخابات البرلمانية عام 1942، مقابل تسهيلات في عمل الجمعية وقدرتها على ممارسة العمل الاجتماعي والدعوي.

في العام 2004 أعلن المرشد العام السابق محمد مهدي عاكف أن الجماعة بصدد مرحلة جديدة هي “الانفتاح على المجتمع”، وهو ما اعتبر داخليا مؤشرا حاسما على تقدم الجماعة في سلم الأولويات النظري الذي وضعه حسن البنا (الفرد – الأسرة – المجتمع – الدولة – أستاذية العالم) وانعكس ذلك في مشاركة سياسية تنافسية واسعة وانخراط غير مسبوق في العمل العام عموما.

إن مقارنة الوزن النسبي للعمل السياسي داخل الجماعة يمكن أن يتضح أكثر من خلال النظر إلى بنية التنظيم من ناحية لجانه الفنية المركزية، والتي تنقسم إلى: اللجنة السياسية، لجنة المهنيين، لجنة العمال، لجنة الطلاب، لجنة الأخوات، لجنة البر، لجنة نشر الدعوة، لجنة الأشبال (طلاب ما قبل المرحلة الجامعية). وهي جميعها باستثناء اللجنة السياسية معنية بالتواصل المباشر مع شرائح المجتمع المختلفة برسائل دعوية وأخلاقية، ولا يتم تبني خطاب سياسي من قبل هذه اللجان إلا ربما في مرحلة الدعاية الانتخابية التي مرت بالجماعة عدة مرات فقط خلال الثلاثين عاما التي سبقت ثورة يناير، كان دائما ينظر لها داخل الجماعة كفترات استثنائية.

هل تغير هذا بعد الثورة؟ بالتأكيد. ثمة شعور متنامي أنه من غير المجدي توقع أن تغيير نظام الحكم يتطلب قبله تغييرا مجتمعيا واسعا، لأنها عملية لن تنتهي ولا يمكن قياسها، خاصة وأن الرأي العام بات من السهل التلاعب به من خلال أجهزة الدولة المركزية الأيديولوجية (حسب ما يصفها ألتوسير [5])، أي أن التغيير القاعدي في ظل مركزية الدولة الحديثة – خاصة في نظم الحكم الاستبدادية – وهيمنتها على المجال العام وعلى مؤسسات التعليم والإعلام والمؤسسة الدينية الرسمية، كل هذا يجعل من قدرة أي تنظيم اجتماعي مهما بلغ انتشاره غير قادر على التعبئة الاجتماعية في مواجهة أجهزة الدولة، وهو ما لمسه الإخوان بصورة حاسمة خلال فترة حكم الرئيس مرسي حيث عجزت الجماعة على مجاراة أجهزة الإعلام، وتحكم الدولة في البيروقراطية، بل واستطاعات الدولة أن تؤثر على جمهور الإخوان القريب الذي يتلقى منذ سنوات دعاية الجماعة ورسائلها السياسية والدعوية على حد سواء.

علاوة على ذلك، فقد أثبتت الثورة أن ثمة آليات مدنية غير عنيفة قد تكون أجدى في مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي لا تسمح للمؤسسات الاجتماعية أو السياسية عموما بالتمدد وامتلاك أدوات تعبئة وتأثير على الرأي العام تهدد السلطة القائمة. بصورة ما يمكن القول أن الإخوان باتوا أكثر اقتناعا أنه من غير الممكن تحقيق أهداف “ثورية” مثل تغيير النظام السياسي وإعادة توزيع القوة بين الدولة والمجتمع، لا يمكن تحقيق ذلك بوسائل “إصلاحية متدرجة” كالتي اقترحها حسن البنا مستلهما تجارب دعوات الإصلاح الإسلامية السابقة، والتي نشأت كلها وعملت في عصور ما قبل الدولة الحديثة وبالتالي كان نمط العلاقة بين السلطة والمجتمع وتوزيع القوة بينهما مختلف تماما.

ليس معنى هذا أن هذا الاتجاه سيتطور لتحويل الجماعة للعمل السياسي التنافسي وتجاوز إصلاح المجتمع؛ بل على الأرجح سيفضي هذا الجدل الداخلي إلى مزيد من القيود حول مشاركة الجماعة المباشرة في العمل السياسي مستقبلا، واستعادة دورها الأساسي كحركة إصلاح اجتماعي ودعوي، كما سنناقش لاحقا.

الجماعة الأوليّة

قام تشارلز هورتون كولي (1920) بصياغة مصطلح “الجماعة الأولية” للإشارة إلى مجموعة تتسم بالتعارف و التعاون وجهاُ لوجه ، فينتج عن ذلك روابط قوية تنمي الولاء و التضامن.[6]  اجتهد «حسن البنّا» في تحقيق نمط «الجماعة الأولية»[7]  التي توفر السند العاطفي الذي يحتاجه الإنسان للاندماج في الحياة الاجتماعية، وكلما اقتربت من ذلك لعبت دورا أكبر في الوساطة بين الإنسان والمجتمع. ترك «البنّا» مشروعه في عهدة بناء تحوطه روابط عاطفية وروحية، بنفس القدر الذي تلعب فيه الروابط الاجتماعية والاقتصادية دورا محوريا في إبقاء أطراف إلى التنظيم المترامية مشدودة ومنتمية المركز الصلب.

ليس المجال مناسبا للحديث بالتفصيل عن أهمية الرابطة الروحية داخل الجماعة. باختصار، بدأ «حسن البنا» حياته في صفوف حلقات الطرق الصوفية، (الطريقة الحصافية)، وتعلم منها أهمية الروابط الروحية في تقوية بناء التنظميات الاجتماعية. لا حقا، طور «البنا» هذه السمة ووضعها ضمن قالب أكثر تماسكا، واستطاع من خلال نظام (الأسر) أن يقوي الرابطة الداخلية بين أفراد التنظيم. وهو ما يؤكده «وحيد عبدالمجيد» الذي يجادل أنه بالرغم من أن نزعة «حسن البنا» الصوفية توارت بعد ذلك، فقد بقي معه منها الأجواء الروحية التي سعي إلى خلقها في العلاقة بينه وبين أعضاء الإخوان ونجح في ذلك.[8]

ومن اللافت أن أركان (الأسرة) الثلاث كما حددها «البنا»، لا تشمل أبعادا ثقافية وإنما كلها أمور تتعلق بتعميق رابطة “الأخوة” بين الأعضاء: التعارف، التفاهم، التكافل. وعلى مدار عقود، وحتى الأيام الراهنة، حافظ الإخوان على الأدبيات والممارسات التي تهتم بتعميق الرابطة الروحية بين الأعضاء، إما من خلال مناهج ثقافية تعمق مفاهيم إسلامية مثل: “الأخوة” و”الإيثار” و”الحب في الله” …الخ أو من خلال ممارسات مثل الأنشطة الاجتماعية الداخلية الخاصة بالأعضاء، ودعاء «وِرْد الرابطة» الذي يردده أفراد الإخوان بصورة يومية. وكلمة (وِرْد) في اللغة العربية تشير إلى القدر الثابت أو المعتاد من الأذكار أو القرآن أو القراءة عموما. أي أن هذا الدعاء بمثابة نصيب يومي ثابت يخصصه الفرد للدعاء لإخوانه، وتذكرهم وتذكر الرابطة الروحية التي تجمعهم به حتى ولو لو يعرفهم بأسمائهم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن السمة الأساسية التي تميز جماعة الإخوان منذ نشأتها هي سمة “الشمولية”، بمعنى شمولية أنشطة الجماعة لأغلب أنشطة العمل المدني العام (ديني دعوي – تربوي – اجتماعي- تنموي – اقتصادي – سياسي)، هذه السمة نتجت عن جدال «حسن البنا» أن الإسلام نظام شامل يتناول كافة مظاهر الحياة (وهي دعوة مضادة بطبيعة الحال لأي تصور علماني). وبالتالي قرر «البنا» أن يكون تنظمية انعكاسا لشمولية الإسلام رغم أن شمولية الإسلام لا تلزم بالضرورة كل جماعة اجتماعية بممارسة كافة الأدوار.

لا شك أن هذه واحدة من القضايا المعقدة حاليا. بصورة عامة يمكن القول أنه لا يوجد، وليس من المتوقع، أي تراجع عن الاقتناع أن الإسلام نظام شامل، وأن أحكامه وتعاليمه لا تقتصر على حياة الفرد الخاصة وإنما يتعلق بعضها بصورة مباشرة بالحياة العامة بكل جوانبها السياسية والاقتصادية ..الخ. لكن ما يشهد تغيرا حقيقيا هو النظر إلى دور الإخوان كجماعة شاملة. فليس معنى أن الإسلام نظام شامل أن كل جماعة إسلامية يجب أن يشمل نشاطها كل جوانب الحياة، لأن الحياة أصبحت شديدة التعقيد، والتخصص في كل مجال أصبح ضرورة، خاصة وأن نظام الدولة الحديثة بكل ما يتضمنه من هيمنة واحتكار وضع تحديات جديدة على حركة المجتمعات الإسلامية لم تتعود عليها سابقا.

الانقلاب العسكري وتجربة الحكم تعززان من الاتجاه الداعي إلى الفصل بين دور الجماعة كمؤسسة اجتماعية وبين الممارسة السياسية التنافسية؛ الوظيفتان الآن تتعارضان، وتجربة الجمع بينها أضرت بكلا المسارين. شمولية الإسلام ستجعل من حق الجماعة إبداء الأراء السياسية أو ممارسة الضغط مستفيدة من ثقلها الاجتماعي في تبني قضايا معينة تراها مرتبطة بمشروعها الحضاري، دون أن يعني ذلك أن تنشئ حزبا سياسيا أو أن تشارك في الانتخابات. في الواقع، فإن مشاركة الجماعة المباشرة في العمل السياسي التنافسي أضرت بصورة كبيرة بحصيلة عقود من العمل الاجتماعي والدعوي.

هذه الميزة – الشمولية – لم تجعل فقط نشاط الجماعة شديد التنوع، ووفر لها مسارات عديدة للتواصل مع المجتمع، لكنها كذلك ساهمت في الحفاظ على قاعدة عضوية كبيرة، لأن الجماعة توفر مجالات مختلفة تلبي تطلعات قاعدة واسعة من الأعضاء. وعلى سبيل المثال، لم يكن غالبا أداء الإخوان السياسي عاملا حاسما في استقطاب الأعضاء، مثل أي حزب سياسي تقليدي، ورغم انتقادات داخل الإخوان لأداء الجماعة السياسي إلا أن تنوع أنشطتها وأدوارها كان دائما حافزا لاستمرار مسيرتها التي تحمل بالإضافة للسياسي مسارات اجتماعية ودعوية وروحية.

الدولة والتنظيم: الصراع على القاعدة الاجتماعية

مع التأسيس الثاني للإخوان (من منتصف السبيعينات وحتى حوالي 1987) استعادت نخبة الجماعة هذه السمات الأساسية: المركزية الشديدة والترابط التنظيمي (الذي أضيف إليه مزيدا من أجواء العمل السري عكس تنظيم حسن البنا الذي عمل كجمعية رسمية معلنة)، بالإضافة إلى توسع نشاط الجماعة السياسي التنافسي، والنشاط الاقتصادي، وشبكة واسعة من المؤسسات الاجتماعية (مدارس – مشروعات خدمية – جمعيات خيرية – مستشفيات …الخ).

هذه الحالة المركبة: أولوية العمل مع المجتمع، ونمط الجماعة الأولية، وشمولية التنظيم أنتجت مظهرين يمثلان معا قوة الجماعة الحقيقية على مدار عقود: قاعدة تنظيمية صلبة شديدة الترابط، وقاعدة اجتماعية واسعة احتضنت الجماعة دائما خلال مسيرة صدامها المتقطع مع الدولة خلال سنوات حكم «مبارك».

استهدف الانقلاب القضاء على مصدري قوة الجماعة. بداية استهدفت الحملة الإعلامية بالتوازي مع خطة تعويق أداء الرئيس «مرسي» وحكومته، استهدفت عزل الجماعة عن قاعدتها الاجتماعية، وإبطال أي مبرر لدى الناس كي يحافظوا على تعاطفهم مع التنظيم. مع نهاية يونيو/حزيران 2013 نجحت الدولة في «تطييف الإخوان»، أي تصويرهم كطائفة مختلفة عن باقي المصريين لها مصالحها وأهدافها الخاصة التي لا تتقاطع مع الأهداف والمصالح الوطنية أو الثورية. أعقب ذلك حملة أمنية لم تتوقف حتى الآن، نتج عنها اعتقال وهروب أغلب أعضاء مكتب الإرشاد [9]، ونحو نصف أعضاء مجلس الشورى العام، وأغلب مسؤولي وأعضاء المكاتب الإدارية للمحافظات، وقيادات حزب الحرية والعدالة.

استهداف القاعدة الاجتماعية تطلب القضاء على مؤسسات الجماعة المدنية والاقتصادية، وأعلنت الدولة رسميا أن عدد من تم التحفظ على أموالهم بلغ 1370 فردا، و81 شركة بينها 19 شركة صرافة، وتم التحفظ على عدد 1125 جمعية، كما تم التحفظ على 105 مدارس، وبلغ عدد المستشفيات المتحفظ عليها 43 مستشفى بالإضافة إلى الجمعية الطبية ولها 27 فرعا، وجمعية رابعة العدوية ولها فرعان.[10]

الاعتقالات الواسعة – بلغت حصيلتها نحو 40 ألف معتقل – تمت بالتوازي مع سياسة أمنية انتقامية، تضمنت حالات تعذيب وتصفية ميدانية واعتداءات جنسية، مهدت الطريق بعد إجهاض المسار الديمقراطي لتبني خيارات أكثر عنفا خاصة مع السياق الإقليمي الذي حققت فيه جماعات إسلامية مسلحة إنجازات غير مسبوقة بلغت ذروتها بسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات واسعة في سوريا والعراق، والإعلان عن تأسيس ”خلافة إسلامية“.

بيئة واسعة من العنف والفوضى

عزز تنظيم أنصار بيت المقدس نفوذه في سيناء عقب الانقلاب العسكري. اعتبر انهيار رهان الإسلاميين على الديمقراطية وإمكانية التغيير عبر آليات سياسية انتصارا لخيارات التغيير بالقوة، وهو ما وظفه التنظيم الصغير في سيناء للتأكيد على ضرورة مواجهة الدولة، واستطاع استقطاب أعضاء خارج سيناء وتكوين صلات مع مجموعات صغيرة تنشط في القاهرة والدلتا. لا حقا، أدى صعود تنظيم الدولة الإسلامية، والحملة العسكرية في سيناء إلى توفير مزيد من الدعم المعنوي والمبررات للتنظيم الذي أعلن رسميا تبعيته للدولة الإسلامية، وأطلق على نفسه اسم «ولاية سيناء». أدى ذلك لانشقاق قيادي بارز في التنظيم[11]، ضابط الصاعقة السابق «هشام عشماوي» الذي أسس تنظيم المرابطين ، وفتح مجالا أوسع لاستقطاب أعضاء من القاهرة ومحافظات الدلتا.[12]

في الوقت الذي تتصاعد فيه الحالة الجهادية في سيناء، وتسعى للتمدد تدريجيا إلى قلب مصر، يتم قمع أكبر منظمة إسلامية مدنية بعد الإطاحة عسكريا بكافة ”الاستحقاقات الديمقراطية“ (برلمان – رئاسة – دستور)، وبعد أكبر جريمة قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث. من المفهوم أن يكون لدى المجموعات المسلحة مبررات كافية تروج بها للعمل المسلح، كما أنها باتت أكثر قدرة على إقناع الغاضبين بأن ثمة ”حرب على الإسلام“ وأن الديمقراطية لا يمكنها أن تقبل بفوز الإسلاميين، وأن رهانات الإخوان باءت بالفشل.

أمكن رصد عدة حالات لأعضاء أو مقربين من الإخوان، والمجموعات السلفية الثورية التي شاركت في الحياة السياسية عقب ثورة يناير، اختارت العمل المسلح ضمن صفوف ولاية سيناء، أو حتى السفر للقتال في سوريا والعراق سواء للانضمام إلى داعش أو مجموعات المعارض السورية المسلحة، وكشفت رسائل لهؤلاء مدى النقمة على منهج الإخوان السلمي و”استسلام“ الجماعة لما قامت به الدولة ضد اعتصام رابعة، ثم حالات الاغتصاب بحق معتقلات. ويمكن بسهولة من خلال تتبع نمط خطاب ولاية سيناء الإعلامي رصد الرسائل الموجهة للشباب الإسلامي خاصة أعضاء الإخوان، التي تروج لانتهاء جدوى السلمية والديمقراطية، وأنه لا بديل عن الجهاد والمواجهة المسلحة مع الدولة.[13] 

هل أصبح العنف خيار الإخوان الحتمي؟

يجادل «ستيفن بروك»، أحد المؤلفين المشاركين في سلسلة “إعادة النظر في الحركات الاسلامية” لمعهد بروكنجز، أن التضييق على نشاط الإخوان المجتمعي، وإغلاق مؤسسات الجماعة الاجتماعية وضع المنظمة أمام خيار وحيد هو التظاهر، وأن عدم قدرة المظاهرات حتى الآن على تحقيق هدفها يدفع الجماعة إلى العنف، كما أن انهيار مقاربتها عن العمل الاجتماعي الشرعي يعزز من جاذبية النماذج الأخرى التي تنتمي لمقاربات التنظيمات المسلحة مثل ولاية سيناء، أو تنظيم القاعدة في اليمن، أو حتى الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. [14]

وعلى الرغم من دقة هذه الفرضية، خاصة فيما يتعلق بتعزيز فرص النماذج الأخرى الأكثر عنفا في استقطاب شرائح أوسع، إلا أننا نجادل أن المقدمات السابقة التي أِشرنا إليها تضع بعض القيود على هذه الفرضية، للأسباب التالية:

أولا: إن دافع الانتماء للإخوان لا يمكن حصره فقط في رغبة الفرد في ممارسة نشاط اجتماعي، ثمة دوافع مركبة يتم مراكمتها خلال عضوية الفرد داخل الجماعة. لذا توقف أحد أنشطة الجماعة لا يعني بالضرورة أن العضو سيقرر ببساطة البحث عن بديل، سواء كان البديل هو النماذج الأكثر عنفا، أو حتى القبول بالسلطة القائمة والعمل من خلالها. وقد كشفت دراسة ميدانية قمت بها في الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2013 إلى ديسمبر/كانون الأول 2013، عن قناعة عامة أن أولوية الجماعة حاليا ليس في العمل الاجتماعي، ولكن المهمة الرئيسية هي توفير الدعم والرعاية الداخلية لأسر ضحايا الانقلاب والمعتقلين، واستمرار الفعاليات الرافضة للانقلاب.[15]

يمكن القول أن استمرار الأنشطة الاجتماعية ليس بالسهل حاليا؛ أولا: لأن أفراد الجماعة وكوادرها قيد الملاحقة الأمنية بصورة واسعة، وليس من الممكن القيام بأي أنشطة. ثانيا: لأن تقريبا كل مؤسسات الجماعة الاجتماعية تم مصادرتها. ثالثا: بسبب الأعداد الكبيرة من المعتقلين والمختفين والمسافرين للخارج أصبح من الضروري تركيز الجهود في الداخل على مسار الدعم الداخل وعلى فعاليات وأنشكة مواجهة ورفض الانقلاب. بالتأكيد لايوجد قرارا بوقف أي نشاط اجتماعي أو دعوي، لكنه لا يمثل أولوية حاليا وبالتالي فالأمر متروك للوحدات التنظيمة الأصغر وللأفراد كي يقرروا ما يمكنهم فعله في هذا المجال.

ثانيا: لا شك أن الحد الفاصل حاليا بين التظاهر السلمي الثوري وبين استخدام وسائل أكثر عنفا ”ضبابيا“ – كما وصفه «ستيفين بروك» – لكن بعد مرور أكثر من عامين على فض اعتصام رابعة مازال التيار الرئيسي داخل الإخوان، وداخل الحراك الرافض للانقلاب عموما، متمسكا بالأنشطة والفعاليات السياسية السلمية، وكافة الحركات التي حاولت تبني قدرا من العنف ظلت محدودة وهامشية. إن تبني خيار العنف يصطدم بشكل واضح بنمط الثقافة السائد داخل تنظيم الإخوان؛ صحيح أنه من الناحية النظرية يمكن لأي ثقافة سائدة داخل المجتمع نفسه أن تتغير، لكن يجب أن تتوفر مبررات كافية كي يحدث هذا. على سبيل المثال، كانت هناك بعض المبررات في الستينيات كي تتغير ثقافة الجماعة بسبب القمع الناصري، لكن قيادة الجماعة استطاعت التصدي له وحافظ على الموقف الرئيسي للجماعة المتعلق بالعنف أو التكفير.[16]  والآن، يعكس الجدل الكبير داخل الجماعة نفس المسألة تقريبا، عندما أشيع أن بعض القيادات تتجه لتبني خيارات عنيفة في مواجهة الانقلاب أحدث هذا رفضا واسعا داخل الجماعة سواء في الداخل أو الخارج، لاحقا تبين أنه لا يوجد خلاف جوهري حول هذه المسألة وأن الخلاف يتعلق أكثر بنواحي تتعلق بالصراع بين القيادات التقليدية التي لا ترغب في التخلي عن مواقعها، وبين قيادات جديدة صعدت عقب الانقلاب وترفض نمط الإدارة السابق وتسعى لإجراء تغييرات قيادية. تغيير ثقافة المنظمة نتيجة الصدمة ممكن، لكن لم تتوفر حتى الآن مؤهلات ذلك، وأهمها وجود قيادة تتمتع بشرعية كافية وتملك الكاريزما الكافية للتأثير على الأفراد، بالإضافة إلى امتلاكها استراتيجية ورؤية واضحة لإدارة الصراع.

وجود قيادة تتمتع بالشرعية والكاريزما ضرورة لإحداث تحول جذري من هذا النوع، ليس فقط على الصعييد الفكري والتنظيري (الثقافي)، ولكن أيضا على صعيد بنية التنظيم وهيراريكية وحداته، وهي مهمة شديدة الصعوبة في تنظيم مركزي محافظ مثل تنظيم الإخوان. خاصة وأن تبني اللامركزية اقتصر على تنظيم وإدارة الفعاليات وتحديد المناسب لكل مكان في مصر حسب إمكانياته، اما اتخاذ قرارات سياسية أو تبني رؤية معنية لإدراة الصراع مازال يدار بمركزية شديدة. وأحد أسباب تفاقم الخلاف الداخلي مؤخرا هو أن من بقي من مكتب الإرشاد القديم (ثلاثة أفراد في الداخل) يصر اثنان منهم على أن تبقى القرارات الرئيسية من اختصاص القائم بأعمال المرشد، الدكتور محمود عزت، بشكل حصري. وهو ما ترفضه بعض قيادات المحافظات التي انتخبت مؤخرا. كذلك مازال مجلس الشورى يمارس بعض التوجيه المركزي، لأن حوالي نصف أعضائه متواجدين سواء في داخل مصر أو خارجها. باختصار، أصبحت الجماعة أكثر مرونة في تبني وإدارة تكتيكات الفعاليات الثورية المعارضة للانقلاب وتحديد أنماط ووسائل الاحتجاج، لكنّ القرار السياسي واستراتيجية المواجهة العامة وتوجيه الموارد المالية داخل الجماعة كل ذلك مازال يدار بصورة مركزية. الخلاصة أن القيادات التقليدية التي لم يتم اعتقالها تركت للشباب أدورا واسعة لكن فقط في المستويات الإدارية المتوسطة واللجان الفنية، وهو ما يبقي التنظيم على مركزيته ويجعل من إجراء تحولات كبرى في توجهاته الفكرية أمرا شديد الصعوبة.

ثالثا: نماذج العمل الاجتماعي الأخرى لا تنطلق من نفس المنظور الذي يستند إليه الإخوان، وبالتالي لا تمثل بالضرورة بديلا؛ فالجماعة في مصر تعتبر النشاط الاجتماعي أحد أدورها الرئيسية، وتقوم به تحت سلطة وقوانين الدولة القائمة وهو من ناحية مطلوب لذاته من وجهة نظر إسلامية باعتباره نوعا من التكافل داخل المجتمع ويرتبط بترغيب الإسلام في العطف على الفقراء والضعفاء … الخ، كما أنه يحقق للجماعة انتشارا واسعا، ويعزز من القاعدة الاجتماعية المؤيدة لها. أما التنظيمات المسلحة فلا تكترث بالقيام بأي أنشطة اجتماعية تحت حكم الدولة القائمة لأن هدفها الأول هو القضاء على هذه الدولة تماما، هذه التنظيمات لا تقوم بالأنشطة الاجتماعية لكسب قاعدة اجتماعية لكنها في الأساس تقوم بهذه المهام كـ”سلطة حكم“ تسعى لتقديم نموذج لـ”الحكم الإسلامي“ عقب سيطرتها على بعض المناطق أو ضعف قبضة الدولة فيها، وهي الحالة في سيناء وفي بعض مناطق اليمن وبالطبع في مناطق الدولة الإسلامية. أما في حالة وجود الدولة فلا تهتم هذه التنظيمات بأي نشاط اجتماعي لأن الأولوية تكون للقضاء على الدولة عبر العمل المسلح.

الفارق جوهري بين الحالتين. فالإخوان مثل باقي الجمعيات الإسلامية – الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة -، تقدم أنشطة اجتماعية وخيرية لأهداف أولا تتعلق بالثقافة الإسلامية التي تشجع على رعاية الضعفاء والفقراء ..الخ. علاوة على ذلك فإن نشاط الإخوان السياسي أدى إلى أن تكون الأنشطة الاجتماعية الخيرية أحد مصادر زيادة القاعدة الشعبية التي يمكن للجماعة أن تحشدها، لكن كل هذا يتم من خلال مؤسسات رسمية خاضعة للقانون، وتعمل تحت سلطة الدولة.

بالطبع يمكن تقبل فكرة أن الجماعة تسعى لتقديم صورة جذابة للحكم الإسلامي الذي تسعى إليه، لكن في هذه الحالة البديل هو نظام سياسي جديد ونخبة حاكمة مختلفة تعمل داخل نفس الدولة. لكن التنظيمات المسلحة لا تعترف بالدولة القائمة ذاتها، وبالتالي لا تفكر في أي أنشطة اجتماعية إلا إذا تمكنت من التخلص من سلطة الدولة على بعض المناطق، ثم تقوم هي بعد ذلك كسلطة حكم بممارسة سلطتها في كافة المجالات بما فيها مجالات الرعاية الاجتماعية. بصورة محددة مثلا، تنظيم ولاية سيناء لا يقدم رعاية اجتماعية في القاهرة ولا حتى مدينة العريش، لأنها ببساطة لا تخضع لسلطته، هو فقط يقيم شبكة رعاية اجتماعية في المناطق المحدودة التي عزز فيها نفوذه وغابت عنها سلطة الدولة.

هذه الأمور لا تنفي أن الوضع الراهن يدفع بعض الأفراد أو المجموعات غير المنظمة إلى تبني خيار العنف، كما أنه يعزز من فرص التنظيمات المسلحة لاستقطاب أعضاء جدد، والتمدد خارج سيناء إلى الوادي والدلتا ،ولكن ليس بدافع القيام بنشاط اجتماعي، ولكن لأهداف سياسية مباشرة تتعلق برفض النظام القائم وفشل رهانات مواجهته سلميا من وجهة نظرهم.

مآلات غامضة

تراجع عدد وحجم التظاهرات بصورة كبيرة خلال العام الأخيرة لأسباب كثيرة، منها استمرار التعامل الأمني العنيف مع المظاهرات والتوسع الكبير في عمليات الاعتقال والمحاكمات الجماعية السريعة وهو ما تسبب في وضع عشرات الآلاف إما في السجون أو جعلهم مطاردين لا يمكنهم البقاء في بيوتهم واضطر الكثيرين منهم للسفر خارج مصر؛ كما أن استمرار التظاهر فترة طويلة يتطلب رؤية سياسية واضحة – وليس مجرد شعارات عامة حماسية – خاصة وأن تكلفة التظاهر قد تكون القتل أو التعرض للسجن سنوات طويلة.

حاليا لا يملك الإخوان أي استراتيجية بديلة عن التظاهر والتعبئة ضد النظام. يراهن الكثيرون أن الحالة الثورية لم تنته، خاصة وأن كافة أسبابها مازالت قائمة (الفقر والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية والقمع الأمني …الخ)، كما أنها لا تتوقف على الإخوان فقط، وبالتالي فإن استمرار التظاهرة ولو بأعداد أقل يساعد على تشجيع الآخرين، ويحافظ على حالة الرفض داخل المجتمع حتى تحدث شرارة جديدة تكسر حالة الخوف والإحباط التي أصابت جمهور يناير.

ربما تكون هذه الفرضية صحيحة، خاصة وأن حالة يناير 2011 لم تكن قرارا من الإخوان، بل حركة المجتمع نفسه نتيجة أسباب تراكمت لسنوات سابقة. لكن إعادة إنتاجها وتعبئتها قي مواجهة القمع الأمني العنيف يتطلب أولا بناء تحالفات سياسية تقوم على مطالب وشعارات وبرامج عامة تتجاوز ثنائية الشرعية/الانقلاب، والإخوان/الجيش. أي أن المنطق الأساسي الذي تستند إليه حركة تعبئة الإخوان الرئيسية ليس من المتوقع أن يجتذب رصيد الغضب المتراكم في المجتمع، أو أن يعيد إنتاج حالة يناير. وطالما بقي خيال الإخوان السياسي غير قادر على تجاوز منطق الانقلاب/الشرعية، وغير قادر على تطوير خطاب سياسي معارض يلبي متطلبات الشرائح الاجتماعية التي أطلقت ثورة يناير، فسيظل القيد الرئيسي المفروض على توسيع الحركة الاحتجاجية الراهنة يضعه الإخوان أنفسهم! وهو ما يعطل محاولات بناء تحالفات سياسية واسعة بين القوى الرافضة للانقلاب العسكري وحكم السيسي. 

الجماعة كذلك غير قادرة على تبني خطة واضحة، ولا تملك إجابات محددة حول إمكانية التعايش مع الدولة القائمة بعد أن بدا واضحا أن أجهزة الدولة القمعية نفسها تتخذ موقفا معادية منها (الشرطة- الجيش- القضاء –البيروقراطية)؟ وإذا كان من غير الممكن فهل تملك الجماعة أدوات لتفرض أي سيناريو بديل؟ هل تستهدف الجماعة فعلا من خلال الفعاليات الرافضة للانقلاب الضغط من أجل التوصل لتسوية ؟ وما هي حدود هذه التسوية والتنازلات التي ستقبل الجماعة أن تقدمها دون أن يتأثر تماسكها الداخلي؟

الخلاف الداخلي الحالي مازال عنوانه الرئيسي “التغيير القيادي” و”المؤسسية” و”تعديل اللائحة” و”رفض الفردية”..الخ لكن ما يتعلق بالرؤية والأسئلة المنهجية مازال غائبا عن النقاش الداخلي. البعض يفترض أن التغيير القيادي – إذا حدث – هو ما سيؤدي لبدء نقاش داخلي حول هذه المسائل باعتبار أن القيادة الجديدة ستكون أكثر حماسا لتغيير حالة الجمود الفكري الحالية.

لكن من الضروري هنا التأكيد أنه لا معنى لتصنيف الاتجاهات داخل الجماعة حسب المرحلة العمرية. هذه واحدة من المسلمات السائدة رغم أنها خادعة تماما؛ لأن الأفكار تتوزع بشكل طولي داخل الجماعة وليس بمستويات أفقية، بما يعني أن وجهات النظر المختلفة تجد أنصار لها بين جميع المراحل العمرية وجميع المستويات التنظيمية داخل الجماعة.

كما هي الأمور دائما، يوجد من يتبنى رؤية راديكالية تجاه الصراع القائم باعتباره صراعا صفريا لا يمكن القبول فيه بحلول وسط، ويوجد من لديه استعداد أكثر لتقديم تنازلات والقبول بهدنة أو تسوية كاملة يتم خلالها إعادة رسم العلاقة بين الإخوان والدولة. بالتأكيد الجميع يتفقون على استحالة تحقيق أي تقدم في ظل بقاء السيسي، أي أن رحيل السيسي هو نقطة الإجماع الرئيسية داخل الجماعة وليس من المتوقع – على الأقل بالنسبة لي – أن يحدث تغير في هذه المسألة.

من وجهة نظري، تسبب الانقلاب وما تبعه من موجة قمع غير متوقعة، في تغير طبيعة الصراع بما يعقّد من فرص الحلول الوسط؛ حيث تحول الصراع من كونه صراعا سياسيا بين الإخوان كجماعة معارضة وبين النظام السياسي الحاكم، إلى كونه صراعا بين الإخوان والدولة نفسها (بعد تورط أجهزة الدولة التي كانت بصورة عامة لا تتدخل مباشرة في الصراع مع الإخوان منذ التأسيس الثاني في السبعينيات: الشرطة، الجيش، القضاء، والبيروقراطية). كذلك، تورطت الكنيسة بصورة مباشرة في الحرب على الإخوان والإسلاميين، لأول مرة في تاريخها، وهو ما وضع قيادات الكنيسة في نظر الكثيرين كمحرض على عمليات القتل التي مارستها السلطات عقب الانقلاب. 

هذه تعقيدات تتطلب تسوية شاملة، وغير شكلية، كما تتطلب تنازلات مؤلمة والتزامات محددة. وحتى الآن لا يوجد مبرر، أو قدرة، لأي من طرفي الصراع على القيام بذلك.

خلاصة

الإجابة على سؤال ”لماذا لم تتجه جماعة الإخوان المسلمين في مصر إلى العنف حتى الآن؟“ هو المفتاح لتبني فرضيات ومقاربات حول تداعيات الحملة الأمنية غير مسبوقة المستمرة على مؤسسات وأفراد الجماعة. ومن ثم تجادل هذه الورقة من خلال منظور اجتماعي – ثقافي يستند إلى الرابطة المعقدة بين أعضاء الجماعة وبين المنظمة وإلى تعريف دور الجماعة كما يراها أعضاؤها؛ فالجماعة تقدم مبررات متعددة ومتنوعة بقدر تنوع أوجه نشاطها والأدوار التي تقوم بها في إشباع حاجات وميول الأعضاء. وهو ما يعطيها قدرة على الاحتفاظ بقدر من الفاعلية الداخلية حتى لو تعطلت – مؤقتا – أنشطتها الخارجية الموجهة للمجتمع.

لا يعني هذا بالضرورة أن الجماعة قادرة تماما على احتواء غضب قواعدها، أو أنها تمثل حاليا النموذج المناسب لكافة الإسلاميين الرافضين للانقلاب العسكري، ومن ثم ستظل فرص التنظيمات المسلحة مهيأة لاستقطاب مزيد من الأعضاء.

وضع الانقلاب العسكري جماعة الإخوان أمام استحقاقات يمكن أن تغير وجه الجماعة في السنوات المقبلة، وهو ما يفتح الباب لديناميات داخل المنظمة الكبيرة قد تفضي لإعادة تعريف دورها السياسي والاجتماعي والديني.

التحدي الرئيسي الذي تواجهه الجماعة يتلخص في إجابتها على سؤال رئيسي يرتبط بإمكانية التعايش مع الدولة القائمة (بغض النظر عن مستقبل حكم السيسي نفسه)؛ حتى الآن لم تبلور الجماعة رؤية واضحة تجاه ما تعنيه ببناء نظام سياسي جديد، كما أنها لا تملك أدوات حقيقية لإخراج الجيش من المعادلة السياسية، وهو ما يحتم عليها العمل مع غيرها من القوى الرافضة لسياسات النظام القائم، بهدف بناء جبهة وطنية تستمد أهدافها وبرنامجها من أولويات الحالة الثورية التي يتوقع أنها مازالت قائمة، كما يمكنها تبني خطط أكثر براجماتية تجاه التعايش لفترة ليست قليلة مع نفوذ الجيش السياسي والاقتصادي.

بالطبع يوجد لدى بعض الأفراد رؤى حول هذه المسائل، لكن الجماعة غير قادرة حتى الآن على إدارة حوار داخل المنظمة ينتهي إلى تطوير وتبني رؤية واحدة، كما أن قيادات الجيش لم يظهروا حتى الآن أية نية للتوصل لتسوية وانهاء الاعتماد على أدوات القمع والقهر، وهو ما يرجح أن تطول المواجهة الحالية بكل تداعياتها.


[1] رفيق حبيب، رؤية للمستقبل السياسي للإخوان المسلمين، في عمرو الشوبكي محررا: أزمة الإخوان المسلمين، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة 2009، ص: 27-28
[2] الموسوعة الرسمية لتاريخ الإخوان المسلمين ويكيبيديا جماعة الإخوان، قانون جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية الأول: http://goo.gl/Dla0Oj .
[3] حسن البنا، مجلة النذير العدد 1، 30 مايو/أيار 1938: http://www.ikhwanwiki.com/index.php?title=%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF_1_%D9%85%D9%86_%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B0%D9%8A%D8%B1
[4] حسن البنا، مجموعة رسال الإمام حسن البنا، رسالة التعاليم
[5] For more information, see Louis Althusser. “Ideology and Ideological State Apparatuses,” Lenin and Philosophy and Other Essays, Monthly Review Press, 1971.
[6] Henry L. Tischler, Introduction to Sociology, (Belmont, CA: Wadsworth Publishing, 2007)
[7] هنري تيري، الجماعات كقوة فاعلة، ترجمة رشدي كامل صالح، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2013، ص:46-52
[8] وحيد عبدالمجيد، “الإخوان المسلمون بين التاريخ والمستقبل: كيف كانت الجماعة وكيف تكون؟”، الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع، القاهرة 2010
[9] تم اعتقال 12عضوا بمكتب الإرشاد (بينهم المرشد العام محمد بديع ونائبه الأهم خيرت الشاطر). ولا يوجد حاليا داخل مصر سوى ثلاثة أعضاء فقط قيد الملاحقة الأمنية، بينما توفي نائب المرشد جمعة أمين عزيز في 24 يناير/كانون الثاني بلندن، ويقيم الأمين العام للجماعة الدكتور محمود حسين في تركيا،
[10] أعلنت اللجنة التي شكلتها الحكومة للتحفظ على أموال الإخوان هذه الأرقام النهائية يوم الأحد 24 يناير/كانون الثاني 2016. http://goo.gl/pndDW5.
[11] الخليج الجديد، ضابط سابق بالجيش المصري يدعو للجهاد ضد «السيسي»، 22 يوليو/تموز 2015، http://www.thenewkhalij.net/node/17534
[12] Mokhtar Awad and Samuel Tadros, “Baya Remorse Wilayat-Sinai and the Nile Valley”, Competing Terrorism Center, Aug. 2015, https://www.ctc.usma.edu/posts/baya-remorse-wilayat-sinai-and-the-nile-valley
[13] المونيتور، ”إعدامات مصر… ضوء أخضر لاستقطاب داعش شباب الإخوان المسلمين“، 24 يونيو/حزيران 2015، http://www.al-monitor.com/pulse/ar/originals/2015/06/egypt-sinai-muslim-brotherhood-terrorism-death-sentences.html# . وأنظر: الخليج الجديد، «ولاية سيناء» يبث الإصدار الثاني من «صولة الأنصار» ويتوعد «السيسي» بالذبح، 3 مارس/آذار 2015، http://www.thenewkhalij.net/node/14135
[14] Steven Brooke, “The Muslim Brotherhood’s social outreach after the Egyptian coup”, Brookings Institution, Aug. 2015, https://www.brookings.edu/~/media/Research/Files/Reports/2015/07/rethinking-political-islam/Egypt_Brooke-FINALE.pdf?la=en
[15] الدراسة قمت بها بالتعاون مع الباحث المصري أحمد زغلول. الخلاصة الرئيسية التي توصلت إليها من خلال المقابلات هي قناعة الأفراد أن المهمة الرئيسية التي على التنظيم القيام بها هي أولا: رفض ومواجهة الانقلاب العسكري واستمرار الفعاليات المعبرة عن ذلك. ثانيا: توفير الدعم اللازم لأسر القتلى والمعتقلين. الغالبية كانت ترى أن هذه هو ما يجب التركيز عليه حاليا، وليس عودة الجماعة لممارسة أنشطتها الدعوية والاجتماعية في ظل الظروف الحالية. كذلك، لم يكن هناك تخوف كبير من انجرار الجماعة لممارسة العنف؛ توقع العديد من الأعضاء أن يتجه بعض الأفراد لخيار العنف، لكن الجماعة بصورة عامة بحكم بنيتها وخياراتها السياسية والفقهية منذ عقود ليس من المتوقع أن تغير استراتيجيتها الرئيسية المبنية على الأنشطة المدنية السلمية والمعارضة السياسية.
[16] أنظر حسن الهضيبي، دعاة لا قضاة. http://www.ikhwanwiki.com/index.php?title=%D8%AF%D8%B9%D8%A7%D8%A9_%D9%84%D8%A7_%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A9