الخلاصة

إن الأزمة المالية التي كانت تعيث فسادًا في الأسواق في الولايات المتحدة ومختلف أنحاء العالم منذ آب / أغسطس 2007 تكمن أصولها في فقاعة اقتصادية لأسعار الأصول التي تتفاعل مع أنواع جديدة من الابتكارات المالية التي يعلوها نوعٌ من المخاطرة؛ مع الشركات التي لم تتبع الإجراءات الخاصة لإدارة المخاطر، بالإضافة إلى المنظمين والمشرفين الذين أخفقوا في كبح جماح الإفراط في تلك المخاطر. وقد ازدادت الفقاعة التي تكونت في أسواق الإسكان على شكل أسعار المنازل في جميع أنحاء البلاد كل عام، بدءًا من منتصف التسعينات ووصولاً إلى عام 2006، مع كونها لم تعد تتماشى مع المبادئ الأساسية مثل دخل الأسرة. وعلى وتيرة فقاعات أسعار الأصول التقليدية، أُثيرت التوقعات الخاصة بزيادة الأسعار في المستقبل، بالإضافة إلى كونها عاملاً مهمًا في تضخم أسعار المساكن. وكما شهد الناس ارتفاع الأسعار في الأنحاء القريبة منهم، وعبر جميع أرجاء البلاد، فقد بدءوا في توقع أن تواصل هذه الأسعار ارتفاعها، حتى في السنوات الأخيرة للفقاعة عندما وصلت تقريبًا إلى ذروتها.

وقد ساعد الارتفاع السريع لحالة الإقراض منخفض الأقساط للمقترضين على تضخيم فقاعة أسعار المنازل، فقبل عام 2000، كان الإقراض عالي المخاطرة شبه معدوم ، ولكن بعد ذلك شرُع في الانطلاق المُطرد. والارتفاع المستمر في أسعار المنازل، إلى جانب الابتكارات المالية الجديدة، قد جعلوا وبصورة مفاجئة المقترضين منخفضي الأقساط عملاءً جذابين لمقرضين الرهن بعدما كانوا في السابق محرومين من أسواق الرهن تلك. وقد ابتكر المقرضون مصطلح جديد يدعى الرهن العقاري ذو الفائدة القابلة للتغير وهو مصطلح قائم على أن أسعار المنازل سوف تستمر في الارتفاع، كما تم وضعه “بمعدلات إشكالية” منخفضة، وبلا مدفوعات مقدمة؛ كما يسمح البعض للمقترض بتأجيل بعض من الفوائد المستحقة كل شهر، مع إضافتها إلى أصل القرض.

ولكن الرهن العقاري في التصميم والابتكار وحده لم يكن ليمكّن الكثير من المقترضين منخفضي الأقساط من الحصول على الائتمان بدون ابتكارات أخرى في مجال ما يسمى بعملية الرهون العقارية “الضامنة”- أو تجميع القروض العقارية في مجموعات، ثم بيع الأوراق المالية التي تدعمها هذه المجموعات للمستثمرين الذين تلقوا مدفوعات تناسبية لأصل الدين والفائدة من قبل المقترضين. وقد طوّر المشروعان الرئيسيان الّلذان ترعاهما الحكومة والمخصصان لقروض الرهن العقاري، والتابعان لكل من فاني مي وفريدي ماك، هذا الأسلوب في التمويل في السبعينات، بعد إضافة ضماناتهم إلى “السندات المدعومة بالرهن العقاري” لضمان تسويقهم. ولنحو ثلاثة عقود، اقتصر فاني وفريدي في ضماناتهم على المقترضين”الرئيسين” الذين تناولوا القروض”المطابقة”، أو قروض مع رأس مال معين دون عتبة الدولار وائتمان المقترضين مع المعدل المسجل الذي يتجاوز حدًا معينًا. ومضى القطاع الخاص قدمًا في تطوير وتحسين السندات المعومة بالرهن العقاري والتي تدعمها القروض غير المطابقة والتي كان لها وسائل أخرى “لتعزيز الائتمان”. ولكن هذه الأسواق ظلّت صغيرة نسبيًا حتى أواخر التسعينات. وعلى هذا النحو، قام المستثمرون في وول ستريت على نحو فعال بتمويل مشتريّ المنازل من أصحاب الأحياء الفقيرة. وقد ساعدت المصارف والمؤسسات المالية والصناعة الجديدة لسماسرة الرهن على إنشاء القروض ولكنها لم تقم بالاحتفاظ بها، وهذه كانت الوسيلة “القديمة” لتمويل تملك المنازل.
 
وعلى مدى العقد الماضي، قام القطاع الخاص والبنوك التجارية والاستثمارية بتطوير وسائل جديدة لضمان الرهون منخفضة الأقساط عن طريق: وضعها في قالب “التزامات الدين المكفول” (وأحيانًا أخرى مع الأوراق المالية المدعومة بالأصول)، ثم تقسيم التدفقات النقدية المختلفة إلى”شرائح” لتروق لمختلف فئات المستثمرين على اختلاف قدراتهم على تحمل المخاطرة. وعن طريق طلب الحقوق بالتدفقات النقدية، تمكن مطورو التزامات الدين المكفول (وبعد ذلك غيرهم من السندات المبنية على أساس هذا النموذج)، من إقناع وكالات التصنيف الائتماني بتحديد أعلى درجات السندات في أعلى الشرائح، وإلا سيواجهون المخاطرة بتلك السندات. ولكن في بعض الحالات، قام ما يسمى برابطة شركات التأمين “أحادية الخط” (التي سبق أن ركزت على تأمين السندات البلدية) ببيع الحماية التأمينية لمستثمري التزامات الدين المكفول، الأمر الذي من شأنه أن يؤتي أكله في حال عدم إيفاء القروض. وفي حالات أخرى، لاسيما في الآونة الأخيرة، حذت شركات التأمين والمصارف الاستثمارية وغيرها من الأطراف نفس الحذو عن طريق الترويج لمبدأ “مقايضة الائتمان الافتراضي” والذي كان مشابهًا للتأمين أحادي الخط من حيث المبدأ لكنه يختلف في حجم المخاطرة، وذلك لأن مروجي مقايضة الائتمان الافتراضي كانوا قد قاموا بطرح رأس مال ضئيل للغاية من أجل دعم معاملاتهم.

وقد مكنت هذه الابتكارات الجديدة سوق الأوراق المالية بنيويورك أن تقوم بما سبق وقامت به فيما يخص الرهون منخفضة الأقساط لها أن فعلت لمطابقة الرهون العقارية، بما يسهل معه ازدهار الإقراض منخفض الأقساط الذي حدث بعد عام 2000. وبتحويل الأموال من جانب المستثمرين من المؤسسات لدعم نشأة الرهون العقارية منخفضة الأقساط، أصبحت الكثير من الأسر التي كانت غير قادرة على الحصول على ائتمان الرهن العقاري مؤهلةً للحصول على القروض. وهذه المجموعة الجديدة من المقترضين المؤهلين قد أخذت في زيادة الطلب على الإسكان، مما ساعد على تضخم أسعار المنازل.

إن هذه الابتكارات المالية الجديدة قد ازدهرت في بيئة من السياسة النقدية السهلة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، مع ضعف الرقابة التنظيمية. ومع انخفاض أسعار الفائدة وغض الطرف من قبل المنظمين، اقترضت المؤسسات المالية المزيد والمزيد من المال (مما يعني زيادة نفوذها) لتمويل شراء السندات المرتبطة بالرهن العقاري، حتى أن البنوك التي أُنشئت خارج الميزانية العمومية قامت بدمج كيانات مثل الاستثمارات المهيكلة لشراء الأصول ذات الصلة بالرهن العقاري والتي لم تخضع لمتطلبات رأس المال الرقابية، كما تحولت المؤسسات المالية إلى “الاقتراض المكفول” ذي المدى القصير مثل إعادة شراء الاتفاقات، لدرجة أنه بحلول عام 2006 كانت بنوك الاستثمار تجدد في المتوسط أكثر من ربع الميزانية العمومية عن كل ليلة. وخلال سنوات من ارتفاع أسعار الأصول، أمكن لهذا الدين القصير الأجل أن يتم تجديده بانتظام؛ وتلك الحالة الضعيفة قامت بقمع الذعر دفعةً واحدة في عام 2007، إذ أن حالة عدم اليقين بشأن المفاجئة في أسعار الأصول الناجمة جعلت المقرضين وبصورة مفاجئة رافضين لتجديد ديونهم، ووجدت البنوك المفرطة في الاستدانة نفسها عرضةً لهبوط أسعار الأصول بها في وجود رأس مال ضئيل للغاية.

ومع استرجاع الأحداث الماضية، يمكننا بالتأكيد أن نقول أن الزيادة على صعيد المنظومة للأموال المقترضة كانت غير مسؤولة ولكن متجهة نحو الكارثة، وليس صدمةً أن نجد المستهلكين، وملاك المنازل القادمين، والبنوك ذات الأرباح الكبيرة سيقومون باقتراض المزيد من المال عندما ترتفع أسعار الأصول؛ ولكن في الواقع، يمكن أن نعتبر ذلك بديهيًا تمامًا. وأمّا ما يعد صدمةً فعلاً هو كيف أن المؤسسات مع كل جزء من سلسلة توريق الدين لم تتمكن وبصورة كبيرة من أداء تقييم كافي للمخاطرة على الأصول المتداولة ذات الصلة بالرهون. ومن منشئ الرهن، لعملية صيانة القرض، للمصدر التأميني المدعوم بالرهن العقاري، إلى مصدر التزام الدين المكفول، إلى مروجي حماية مقايضة الائتمان الافتراضي، إلى وكالات التصنيف الائتماني، وأصحاب كل هذه الأوراق، لم تمنع أية مؤسسة مما سبق أي مخاطرة أو حتى قامت بالاستقصاء عن النماذج الحاسوبية المتعرفة بصورة قليلة على المخاطرة، كما لم يمكنها وبشكل صارخ تحمل التدهور في شروط القرض من القروض العقارية التي تقوم عليها.

أما النقطة الرئيسية في فهم هذا الإخفاق الواسع في النظام لعدم تقييم المخاطر هو أن كل جزء في سلسلة من التوريق أُصيبت بمعلومات غير متماثلة- بمعنى أن أحد الأطراف لديه معلومات أفضل من الطرف الآخر. وفي مثل هذه الحالات، عادةً ما يراعي أحد الجانبين الحذر في التعامل مع الآخر مع بذل كل جهد ممكن لإيجاد تقييم دقيق للمخاطر من جهة أخرى مع المعلومات التي ترد، بيد أن هذا النوع من العناية اللازمة والتي يمكن توقعها من الأسواق ذات المعلومات غير المتماثلة كانت أساسًا تعد غائبةً في السنوات الأخيرة للتوريق العقاري. وقد حلت النماذج الحاسوبية بدلاً من النظرة البشرية، ولأن المنشئين لم يقوموا بوضع تقييم لمخاطر المقترضين على نحو كاف، لم تقيم خدمات الرهن العقاري المخاطر على نحو ملائم من حيث القروض العقارية التي يقدمونها، كما أن مصادر السندات المدعومة بالرهن العقاري لم تقيم هي الأخرى مخاطر السندات المالية التي روّجوا لها على نحو كاف، وهكذا دواليك.

ويرجع عدم بذل العناية الواجبة على كل الجبهات جزئيًا إلى الحوافز الخاصة بنموذج التوريق نفسه، فمع القدرة الفورية على تمرير مخاطر الأصول لشخص آخر، كان لدى المؤسسات حافزًا ماليًا ضئيلاً للقلق من المخاطرة الفعلية للأصول المعنية. ولكن ماذا عن حاملي كل من السندات المدعومة بالرهن العقاري والتزام الدين المكفول ومقايضة الائتمان الافتراضي الذين تقع عليهم المخاطرة في نهاية المطاف؟ كان لدى مشتري هذه الصكوك كل حافز لفهم المخاطرة من الأصول الكامنة. إذًا، ما الذي يفسر إخفاقهم في القيام بذلك؟

أحد أسباب ذلك هو أن هؤلاء المستثمرين – مثلهم مثل أي شخص آخر – قد حوصروا في عقلية فقاعية يحكمها النظام بأكمله. ورأى البعض الآخر أن الأرباح الكبيرة من الأصول ذات الصلة بالرهون منخفضة الأقساط جعلتهم يرغبون في الانسياق في الموضوع. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مجرد التعقيد والتعتيم على النظام المالي المضمون تعني أن الكثير من الناس بكل بساطة ليس لديهم معلومات أو حتى القدرة على تكوين رأي خاص بهم حيال الأوراق التي كانت بحوزتهم، بدلاً من ذلك اللجوء إلى الاعتماد على وكالات التصنيف والنماذج الحاسوبية المعقدة وليست المعيبة . وبعبارة أخرى، ساهم كل من ضعف الحوافز، وفقاعة أسعار المنازل، وانعدام الشفافية بمحو كل الخلافات الكامنة في الأسواق ذات المعلومات غير المتماثلة (ومنذ الأزمة بداية في عام 2007 ، كان الأمر الأخر هو الحالة السائدة، مع وجود مشاكل عدم تماثل المعلومات والتي أدت إلى تجميد أسواق الائتمان بفعالية). وفي الصفحات التالية، نروي هذه القصة بشيء أكثر تفصيلاً.