Research

العلاقات عبر الأطلسية بعد الانتفاضات العربية: أقوى في شمال أفريقيا، أكثر تصدعًا في الشرق الأوسط؟

في التاسع عشر من مايو، ألقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطابًا طال انتظاره حول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لقد اهتزت المنطقة جراء التحولات الصعبة في كل من تونس ومصر، والقمع بالقوة في البحرين، واليمن وسوريا، والحرب أهلية وتدخل حلف شمال الأطلسي العسكري في ليبيا، والإعلان الوشيك عن قيام الدولة الفلسطينية. منذ بضعة أيام فقط، تناولت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون ذات القضية ذاتها أثناء زيارتها لواشنطن، والتي كانت تهدف إلى تعزيز التعاون عبر الأطلسي. بالنظر إلى المخاطر في شمال أفريقيا وعملية السلام المتباطئة، هل يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معًا زيادة ثقلهما وتأثيرهما معًا؟ وما هي نقاط الالتقاء والاختلاف الرئيسية في نهوجهما؟ نطرح في هذا البحث بأن أمريكا وأوروبا، في حين أن لديهما أهدافًا مشتركة، فلديهما أولويات مختلفة في دعم العمليات الديمقراطية في المنطقة. الأهم من ذلك أن لديهما قراءات متميزة بشكل كبير لعملية السلام في الشرق الأوسط، والتي سوف تصبح قضية حاسمة على نحو متزايد في الأشهر المقبلة.

القراءة ذاتها للثورات في واشنطن وبروكسل

في يوم الجمعة الموافق 20 مايو، قدّم الرئيس أوباما تقديرًا صادقًا للمصالح الحيوية طويلة الأمد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بدءًا من مكافحة الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، إلى ضمان أمن إسرائيل، والتدفق الحر للتجارة وتعزيز عملية السلام في الشرق الأوسط. بالنسبة لأوروبا، تُعد المصالح في منطقة الشرق الأوسط ذات أهمية ولكن أقل حيوية، أما المصالح في شمال أفريقيا فضرورية. ويُعد شمال أفريقيا منطقة الجوار الجنوبي للاتحاد الأوروبي – أي فِناؤه الخلفي. على مدى العقدين الماضيين، بات تعزيز الرخاء والاستقرار في هذه المنطقة من أولويات السياسة الخارجية بغية التوصيل إلى شراكة عبر الأطلسي، لا سيما من أجل الاستجابة للمخاوف الأمنية المتزايدة للدول الأوروبية، بما في ذلك الإرهاب والهجرة غير المشروعة. وعلى نفس القدر من الأهمية تأتي حقيقة أن أوروبا هي أيضا الشريك التجاري الرئيسي لمعظم هذه البلدان.

حتى مع وجود تاريخ طويل من المشاركة والمصالح العليا، فقد فشلت الولايات المتحدة وأوروبا في صياغة نهوج منسقة لشرح الروابط بين تعزيز الديمقراطية والمصالح الأمنية في المنطقة، مع السماح لهذه الأخيرة بأن تطغى على الأولى حيثما كان هناك تعارض بين الاثنتين. وقد أجبرت الثورات العربية الطرفين الفاعلين عبر الأطلسيين – على حد سواء – على إعادة التفكير في سياساتهما ومبرراتهما في محاولة التصدي لثلاث معضلات على وجه الخصوص. أولاً، تشير الانتفاضات إلى نهاية نماذج الإصلاح بقيادة غربية من أعلى إلى أسفل في العالم العربي. إن حقيقة أن ذلك التغيير السياسي نابع من الداخل، وأنه ينبغي له أن يقوم على أساس التفاهمات الأصلية للديمقراطية ما هي إلا درس تتعلمه الولايات المتحدة وأوروبا ببطء. تعمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أيضًا على افتراض أنه لا يمكن تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلا في الدول الضعيفة (لبنان، فلسطين) حيث لا يوجد خطر زعزعة استقرار الأطراف الفاعلة الإقليمية الهامة المؤيدة للوضع الراهن. في هذه الحالات، تغلبت اعتبارات السياسة الواقعية على القيم المعيارية نفسها. لقد ثبت أن الرهان على الدول الضعيفة باعتبارها أهدافًا لسياسات الترويج للديمقراطية يُعد وصفة ناجحة، مع تضرر النخب الموالية للغرب في تلك الدول بصورة اعتيادية من التعاون الوثيق مع نظرائهم الأميركيين والأوروبيين. من ناحية أخرى، الافتراض المكمّل – والذي اعتبر أن الأنظمة الاستبدادية الموالية ستكون مستدامة من الناحية السياسية على المدى الطويل، والتي مجتمعاتها منقسمة جدًا ومتحررة من الوهم لدرجة يستحيل معها أن تمثل هذه المجتمعات أي نوع من المعارضة القوية -، قد تمزق إربًا. في أجزاء كثيرة من العالم العربي، سوف يتم منح الاستدامة السياسية من خلال عمليات سياسية ديمقراطية وشاملة، لا سيما في الدول غير القادرة على الاستفادة من ريع النفط والغاز لشراء الولاء من خلال الإعانات العامة.

ينبغي التأكيد على أنه وعلى الرغم من مشاركتهما العميقة في المنطقة، فلا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي تنبأ بالثورات العربية المقبلة، لكنهما مرحبان بالتغييرات الديمقراطية. لقد اعترفوا بتواضع بوضعهم باعتبارهم مجرد مراقبين واستغرقوا وقتًا لإعادة تعديل رؤيتهم للمنطقة، من حيث المنحى الذي قد تأخذه، وكيف يمكنهم المساعدة في المحافظة على الزخم الديمقراطي دون تعريض مصالحهما للخطر. على المستوى التفسيري، لأول مرة في التاريخ الحديث تضع الولايات المتحدة – مجبرةً – الشعوب العربية، وليس أنظمتها – في موضع الصدارة في سياستها. يأتي هذا الافتراض بعد تراجع العديد من الافتراضات “المستشرقة” التي طال أمدها في الغرب، والتي قضت بأن الشعوب العربية راضية عن قادتها حتى وإن استعبدوهم سياسيًا وفكريًا. لقد انهار أيضًا الاعتقاد بأن الأنظمة غير الخاضعة للمساءلة والسلطوية الموالية للغرب يمكن أن تمثل – على المدى الطويل – معاقل للاستقرار.

إن سياسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باتت الآن تتضمن “إعادة ضبط” بشأن مسألتين: نوع الديمقراطية الواجب دعمه، وسياسة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة. تتشارك واشنطن وبروكسل في نفس جدول الأعمال بشأن هاتين النقطتين، وإن كان ذلك مع تأكيدات مختلفة. إنهما يضعان ثقلهما وراء التحوليْن، محددين الإجراءات المشتركة ومحاولين لم شمل بقية المجتمع الدولي لإظهار التزام حقيقي (خصوصًا المالي) تجاه تعافي هذه الدول بنجاح. يتمتع الرئيس أوباما بفهم شامل لنوع الديمقراطية الذي تؤيده الولايات المتحدة في المنطقة، استنادا إلى الركائز الثلاث المتمثلة في الفرص الاقتصادية والإصلاحات السياسية، وحقوق الأقليات. لقد ربط بشكل توضيحي بين ازدهار الاقتصاد في تونس ومصر بوصفه نقطة جذب ديمقراطية لبقية المنطقة وبين التوسع الأوروبي في التسعينات للدول الشيوعية السابقة في شرق أوروبا. ترى واشنطن أن نجاح التحوّلات التونسية والمصرية يعتمد على نمو اقتصادي كبير قائم على الابتكار والمؤسسات الفعالة الخاضعة للمساءلة، والتي تخلق فرص العمل للشباب وحلقة ارتباط إيجابية بين التحديث وإرساء الديمقراطية. تؤيد أوروبا نهجًا أكبر من الناحية السياسية، مع التشديد على الحاجة إلى دعم بناء “ديمقراطيات عميقة”، والاعتراف بالضرورة الملحة لتأييد إعادة الإعمار الاقتصادي، كما اتضح من إنشاء فرقة العمل الأوروبية لجنوب البحر الأبيض المتوسط، والتي تتألف من أعضاء هيئة العمل الخارجي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية وبنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي للتعمير والتنمية وغيرها من المؤسسات المالية الدولية. أما التحدي الماثل أمام المشاركة الأوروبية والأمريكية الفعالة في مجال التنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط فيتمثل في التركيز على المساعدة في تعزيز التجارة البينية والعلاقات المالية والتغلب على الإقليمية البينية الاقتصادية الناقصة النمو.

أوروبا المعيارية بصورة متزايدة

ينظر العالم العربي إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره طرفًا فاعلاً راضيًا عن نفسه، يتصرف بمستوى أقل من ثقله، مقنعًا نفسه بإصلاحات طفيفة نحو سيادة القانون، ويتحرك لتحرير الاقتصاد، وإحراز التقدم التكنوقراطيي، بدلاً من التنمية السياسية والاقتصادية الجوهرية. فبالنظر في السياسات الأوروبية حتى الآن، نجد أن ثمة بعض الحقيقة في هذا التصور، إذ تركز سياسة الجوار الأوروبي المنقّحة (لا تزال قيد المناقشة حاليًا) على الإصلاحات السياسية وتحسين الحريات السياسية الأساسية، لكنها لا ترقى إلى وضع نهج جديد واسع النطاق يربط بين الأهداف والأدوات في إطار إقليمي.

لقد تحوّل الخطاب في أوروبا من التفاهمات الإجرائية للديمقراطية إلى تعزيز “الديمقراطية العميقة” الكاملة الشاملة التي تتجاوز التعويذة الانتخابية إلى حد كبير. تتألف الديمقراطية العميقة من الأنظمة السياسية التي تتسم بسيادة القانون وحرية التعبير، واحترام حقوق الإنسان ونظام قضائي مستقل. ومن خلال إعادة صياغة سياسة الجوار الأوروبية تجاه المنطقة، فإن الاتحاد الأوروبي يتحوط في رهاناته، في محاولة لاستعادة جزء من المصداقية التي فقدها بسبب إشراكه للأنظمة الاستبدادية على مدى عقود عدة من دون الترويج للإصلاح بشكل فعال. وعلى الرغم من توافر الفرصة للاتحاد الأوروبي لاستخدام كل من المشروطية الإيجابية (من خلال عملية برشلونة) والمشروطية السلبية (من خلال سياسة الجوار الأوروبية)، إلا أنه أحجم عن الاستفادة من هذه الأدوات، مما حد من قدرته على التأثير بشكل ايجابي في التحولات السياسية في منطقة الجوار الجنوبية. وما زاد من تقييد قدرة أوروبا على ربط التمويل بأهداف سياسية محددة هو غياب الديمقراطية ومعايير حقوق الإنسان.

إن منطق ’المزيد من أجل المزيد‘ المعزِز لسياسة الجوار الأوروبية المعاد صياغتها ينبغي أن يعني إقامة علاقة أوثق بين التقدم السياسي والتمويل. ومع ذلك، فإن استمرار غياب المقاييس لا يبشر بالخير فيما يتعلق بالتنفيذ الفعال لهذه السياسة. فمن الممكن للإشارة إلى “المساءلة المتبادلة” بين الاتحاد الأوروبي وأطراف ثالثة – والتي كان الهدف منها مواجهة اختلالات السلطة عن طريق إخضاع الاتحاد الأوروبي للمساءلة – أن تزيد من ضعف مطالبات المشروطية. قبل كل شيء، لأن سياسة الاتحاد الأوروبي الجنوبية كانت ثمرة سياسة الجوار الأولية التي كانت تستهدف دول شرق أوروبا، فهي تفتقر إلى الرؤية السياسية للمنطقة. لقد تمت إضافة جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى سياسة الجوار الأوروبية السابقة من قبل رومانو برودي رئيس المفوضية تقريبًا كفكرة تلوية. من هذا المنطلق، لا نرى الكثير من التغيير في الإعلان عن سياسة الجوار الأوروبية الجديدة. وسوف يستمر التعامل مع حل النزاعات الإقليمية بمعزل عن خطط العمل الثنائية، وستظل منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط تعاني من التعاون غير الكافي فيما بين بلدان المنطقة، وعلى نطاق أوسع، لن تكون هناك استراتيجية لتعريف نوع العلاقات التي يريد الاتحاد الأوروبي إقامتها مع شمال أفريقيا والشرق الأوسط على المدى المتوسط والمدى الطويل. إن المنطق التفاعلي المحض، وهو العمل في أعقاب أزمة، والقيام بأفضل ما يقوم به الاتحاد الأوروبي، أي بناء القدرات والمؤسسات، من دون تحديد أفق سياسي أوسع، سيكون بالكاد وصفة فعالة لعلاقات أوثق وأكثر شمولاً مع الجيران الجنوبيين للاتحاد الأوروبي.

البعض في أوروبا يشكلون تحديًا بالفعل لأساس سياسة الجوار ككل، والتي تجمع ستة عشر بلدًا مختلفا للغاية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية وجنوب القوقاز والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى الرغم من حقيقة أن الاتحاد الأوروبي قد حاول حياكة مجموعاته الفردية من العلاقات الثنائية، فبحسب بعض النقاد ينبغي أن يكون هناك أطر مختلفة تمامًا للتعامل مع التنوع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في جميع أنحاء المنطقة الجنوبية والشرقية، وليس إطارًا واحدًا شاملاً. ينبغي أن ينهض التغيير المعقول بالتمايز بين المجموعات شبه الإقليمية، فضلاً عن تحديد نهج واحد للمغرب العربي مثلا، ونهج آخر للمشرق. داخل كل كتلة، قد تكون المقارنات عبر الحالة، وتقاسم أفضل الممارسات أمورًا مجدية. وضمن تلك النهوج شبه الإقليمية، يمكن إنشاء روابط لقضايا محددة، مع التركيز، على سبيل المثال، على ديناميات الصراع على أساس تدابير بناء الثقة وخطط التكامل بين بلدان المنطقة لجمع الأجزاء المختلفة من السياسة الجوار الأوروبية.

التقارب عبر الأطلسي مع شمال أفريقيا يُترجم إلى تنسيق فعال

يتجلى التقارب بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بصورة أوضح أيضًا بشأن النهوج تجاه شمال أفريقيا في نهج الممثل السامي كاترين اشتون الذي يُطلق عليه “3 Ms” لمستقبل المنطقة وإسهام أوروبا فيه، والذي يركز على الوصول إلى الأسواق، والمال، والتنقل. أما الوصول إلى الأسواق فيشير إلى حاجة أوروبا إلى فتح أسواقها أمام جيرانها الجنوبيين بطريقة أكثر اتساقًا ووفقا لاحتياجات هذه البلدان واستعدادها. فيما يشير المال إلى الموارد اللازمة على المدى القصير والمتوسط عندما تكون التحوّلات أكثر صعوبة وتكون مخاطر عدم الاستقرار أعلى. أخيرًا، يشير التنقل إلى نية الاتحاد الأوروبي بفتح أبوابه أمام المزيد من الشباب ورجال الأعمال القادمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى أية حال، في المراحل الأولى من وصولهما إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تخصص الولايات المتحدة وكذلك الاتحاد الأوروبي ملياري دولار فقط لتونس ومصر، ثم في اجتماع مجموعة الثمانية في دوفيل في 26 مايو، تم التعهد بمبلغ إضافي قدره 20 مليار دولار. ومع ذلك، لم يتم تحديد مصدر الأموال. في غضون ذلك، لن يصمت أصحاب المصلحة الإقليميين: المملكة العربية السعودية وحدها تعهدت بتقديم 4 مليارات دولار من المساعدات لمصر. إذا كان هذا سيأتي مصحوبًا بقيود، فإن تلك القيود من المرجح أن تكون مختلفة عن المشروطية السياسية الأوروبية. إذ يتركز معظم النشاط الأميركي والأوروبي على زيادة دور المؤسسات المالية الدولية التي يُتوقع أن تتدخل بقروض طويلة الأجل: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي للاستثمار والبنك الأوروبي للتعمير والتنمية. ومع ذلك، فإن ذلك لا يكفي لمنح هذه البلدان التحولات الاقتصادية على نحو سلس، والمعترف بها على نطاق واسع بأنها المفتاح لآفاقهم المستقبلية لتحقيق الاستقرار السياسي. وقد أكدت كل من الولايات المتحدة وأوروبا على أن القروض تركز على التجارة والاستثمارات أكثر منها على المعونات والمساعدات، وأنه سوف يتم ربط هذه القروض بالإصلاحات الديمقراطية التي من المتوقع للبلدين اللذين يمران بمرحلة انتقالية الاضطلاع بها. سيقوم البنك الأوروبي للتعمير والتنمية – الذي أُنشأ في نهاية الحرب الباردة للمساعدة في عملية انتقال البلدان الشيوعية إلى اقتصاد السوق المتقدمة – بتمديد ولايته لمنح المساعدات لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الملتزمة بالمبادئ الأساسية للديمقراطية والتعددية السياسية واقتصاد السوق.

إن سياسة الولايات المتحدة الجديدة تجاه المنطقة سوف تشمل مشاركة أقوى بكثير مع السلطات المحلية ومنظمات المجتمع المدني، لتشمل حتى أولئك الذين “يتحدثون بحقائق غير مريحة”. هذا الموقف ينسجم مع دعوة الرئيس أوباما للوقوف إلى جانب الأفراد لا الأنظمة. وسوف تزيد أوروبا أيضًا من تركيزها على العمل مع منظمات المجتمع المدني المحلية. في هذا الصدد، لم تعالج واشنطن ولا بروكسل المعضلة الأساسية التي سيواجهها كلاهما بشكل متزايد: هل سيشركون الأطراف الفاعلة المعادية للغرب في المجتمع السياسي والمدني إذا نبذت تلك الأطراف استخدام العنف؟ في خطابه الذي ألقاه في القاهرة، قال الرئيس أوباما إن الولايات المتحدة سوف تحترم جميع الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا والملتزمة باحترام حقوق الإنسان والمساواة، والتي ترفض استخدام العنف، ولكن هذه الكلمات سوف يتم اختبارها.

للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تصورات متداخلة وغير متطابقة حول الديمقراطية، ومنها يتضح لنا الأهمية التي يعزوها كلاهما إما للتقدم الاقتصادي أو السياسي. ففي حين أن كلا من الولايات المتحدة وأوروبا يعتبران هذين البعدين متشابكين ويعزز بعضها بعضًا، نجد أن واشنطن تعلّق أهمية على الاقتصاد، في حين يركز الخطاب في أوروبا على السياسة. بيد أن التقارب عبر الأطلسي أكثر وضوحا على أرض الواقع. فمنذ أن بدأت الانتفاضات، كانت الولايات المتحدة وأوروبا يتعاونان على المستوى العملي بشكل يومي، الأمر الذي سهّل المرحلة الانتقالية من خلال النقل المباشر للخبرات وتنسيق البرامج المشتركة. لقد كانت أوروبا نشطة بشكل خاص في تونس، حيث بعثت بروكسل بفريق انتخابي استعدادًا لانتخابات يوليو. أما تونس فتمثل قصة النجاح التي تحتاجها أوروبا لأجل تعزيز المطالبات المعيارية في المنطقة.

المشكلة التي يتجاهلها الجميع في نقاشات دول عبر الأطلسي: الدول الاستبدادية المعاندة

لم تواصل واشنطن وبروكسل التنديد بجميع تلك الدول العربية غير الراغبة في إجراء إصلاحات سياسية بيد أن ولاءهم يخدم الغرب لعدة عقود لضمان الاستقرار الإقليمي والسلام مع إسرائيل، وتدفقات التجارة والنفط. حتى لو اعتبرنا الحكام المناصرين للوضع الراهن، والذي يتمادون في الوقت الراهن في قمع المعارضة في أنحاء الشرق الأوسط والخليج، على دعم الحياة، فهذا لا يعني إعادة تفكير أساسي في مدى الحاجة إلى تغيير استراتيجيات الولايات المتحدة وأوروبا. فكلاهما يبدو عازمًا على الحفاظ على العلاقات مع بعض من حلفائهما الرئيسيين الاستبداديين في المنطقة، لا سيما دول الخليج. فلا الولايات المتحدة ولا أوروبا عرفا بأن المطلوب الآن هو سياسة خارجية إقليمية متماسكة فيما يتعلق بالتعامل مع الحكام المستبدين: فهذا أوباما لم يذكر قط المملكة العربية السعودية في كلمته، وكاثرين أشتون ورجال الدولة الأوروبية الأخرى يعيدون صياغة سياسة الاتحاد الأوروبي من خلال استهداف بلدان منتقاة فقط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خارج منطقة الخليج. ولا تزال العلاقات السياسية والمؤسسية بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، والتي تشمل الدول الخليجية الست، ومؤخرًا الأردن والمغرب، ناقصة النمو على الرغم من ازدياد التعاون الاقتصادي في السنوات العشر الماضية. من ناحية أخرى، فإن العلاقات الاقتصادية والعسكرية المكثفة التي تتمتع بها الولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون الخليجي قد أعفت هذه الدول من الضغط المستمر من جانب واشنطن لمواصلة الإصلاح السياسي.

ومع ذلك، حتى لو لم يكن هناك أية تحولات في السياسة الخارجية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه دول الخليج، فتغير مسار واشنطن وبروكسل – المرتبط بتقديم المزيد من المساعدات والاستثمار لالتزامات الدول الإقليمية للشروع في القيام بإصلاحات تدريجية ومستمرة – سيكون له أثره في الخليج الفارسي أيضا. ونظرًا لالتزامات الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية والأمنية في الخليج، فنفوذها يعد أكثر أهمية بكثير من الناحية التاريخية هناك عنه في أوروبا، ولكنه تضاءل مع اندلاع الانتفاضات العربية. لقد ضعف نفوذ واشنطن ومصداقيتها بين زعماء الخليج بوقوفها بجانب الشعوب العربية وليس أنظمتها بعد أن دعمت الحركات الديمقراطية في إسقاط الأنظمة العربية المستبدة. الولايات المتحدة وأوروبا لديهما الآن خيارين لاتخاذ خطوات معيارية: إما أن يمارسا نفوذهما على تلك الأنظمة للضغط من أجل إدخال إصلاحات تدريجية حقيقية، أو تبني نهجاً أكثر “توازنًا” للتعامل مع الحكام المستبدين على أنهم قوى إقليمية ولكن ليس كحلفاء .
 
الانقسامات حول إعلان الدولة الفلسطينية يضعف الولايات المتحدة وأوروبا

بناء على تحليل أولي، وافقت الولايات المتحدة وأوروبا في الغالب على كيفية الاستجابة للانتفاضات وعواقبها في شمال أفريقيا، على الرغم من وجود خلافات كبيرة لديهما حول كيفية دفع عملية السلام في الشرق الأوسط. إذا وصل الأمر إلى قرار الاعتراف بدولة فلسطينية في مجلس الأمن الدولي، فإن الولايات المتحدة ستستخدم حق الفيتو، وسوف تصوّت إما ضده أو تمتنع عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة. عند قيام الولايات المتحدة بذلك فإنها ستعزل نفسها وستستقطب العديد من حلفائها الأوروبيين وكذلك ستفقد مصداقيتها في العالم العربي. وصف الرئيس أوباما إعلان الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة على أنه فعل ضار على “شرعية إسرائيل”. وبينما ذكر الرئيس أوباما أن “الإجراءات الرمزية لعزل إسرائيل في الأمم المتحدة لن تؤدي إلى إقامة دولة مستقلة”، فإن معظم الدول الأوروبية (بما في ذلك فرنسا وبريطانيا واسبانيا والنرويج حتى الآن) ستعترف بدولة فلسطينية، مع معارضة ألمانيا والدنمارك وهولندا وايطاليا لهذه الخطوة في الوقت الراهن. ولتجنب هذا السيناريو، فإن الدبلوماسية الأوروبية تعمل بنشاط وراء الكواليس لتفادي كل من الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي والصدع بين ضفتي الأطلنطي من خلال إعداد مشروع قرار بديل لتقديمه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يمكن أن يقبله كل من الإسرائيليين والفلسطينيين.

عقب الاعتراف بحدود عام 1967 كنقطة انطلاق للمفاوضات (مع تبادل الأراضي)، أكد الرئيس أوباما في خطابه أمام اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة – أيباك (AIPAC) – في 22 مايو 2011 التزام إدارته بشعور إسرائيل بالأمن كأولوية أولى ورئيسية. وقد صرح الرئيس في أيباك أن الولايات المتحدة لن تفرض شرط حدود عام 1967 على إسرائيل، ولكن سيكون الحُكم نقطة انطلاق للمفاوضات وانفتاحًا لحدوث تغييرات جوهرية تحت غطاء “تبادل الأراضي”. وفي خطابه في الشرق الأوسط في 19 مايو وخطابه في أيباك تجاهل أوباما القضايا الثلاث التي يعتبرها الفلسطينيون جوهرية: حق اللاجئين في العودة، ووقف بناء المستوطنات، وقبول القدس الشرقية عاصمة فلسطين. في المقابل، ذُكرتا هاتين القضيتين الخيرتين خطاب الرئيس في القاهرة عام 2009 على الأقل على أنهما جانبان على قدر من الأهمية لتضمينهما في اتفاق مستقبلي. وقد اتخذت أوروبا، والتي رحبت بالإشارة الصريحة عن معالم الحدود، موقفًا ثابتًا وقويًا من كلا القضيتين، وانتقدت عمليات الاستيطان والاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولتين في المستقبل.

أبدى الرئيس نية لوضع الكرة في معلب إسرائيل وفلسطين بعدم وضع طريقًا لاستئناف المحادثات أو دفع معالم شاملة. وتجنب الطلب من إسرائيل وقف بناء مزيد من المستوطنات، أو مزيد من تخفيف الحصار على غزة، أو صرف عائدات الضرائب المستولى عليها على السلطة الفلسطينية. جدير بالملاحظة أن اللجنة الرباعية لم تجتمع خلال الأشهر القليلة الماضية، واستقال المبعوث الأمريكي قبل أيام قليلة من خطاب الرئيس. تبدو اللجنة الرباعية، وهي بالفعل ممارسة فاترة في مجال الدبلوماسية المتعددة الأطراف التي تتوازن عبر اختلال التوازن الداخلي للقوى في صالح الولايات المتحدة، أضعف يومًا بعد يوم، ويبدو أنها تتجه نحو الزوال دون أسف. من المرجع أن هذه الصيغة الدبلوماسية لن تبقى حتى قيام دولة فلسطينية يتم التوصل إليها في غياب مفاوضات السلام.

دافع الرئيس أوباما عن صحة المبادئ الثلاثة للجنة الرباعية (نبذ العنف وقبول شرعية وجود إسرائيل وقبول جميع الاتفاقات السابقة) على إنها شروط مسبقة للمفاوضات، وتصور المصالحة بين الفلسطينيين باعتبارها عقبة في طريق السلام. حول هذه المسألة، فضل الأوروبيون وجهة نظر مختلفة بالموافقة على إدراج حماس باعتبارها السبيل الوحيد لبناء فريق يمثل التفاوض وقادر على التحدث لجميع الفلسطينيين.

يبدو أن الولايات المتحدة، فضلاً عن أوروبا، تدرك أن القيود الإقليمية والدولية ستؤدي إلى ضغوط متزايدة على إسرائيل لتقديم تنازلات والعمل من أجل السلام. ولقد أعرب الرئيس أوباما عن الحاجة إلى الشروع في مسار التفاوض عاجلاً وليس آجلاً. مع ذلك، فقد امتنع عن الإشارة إلى وضع جدول زمني وآلية جديدة للمفاوضات، ولن يقبل أن يترك هذا لفرنسا أو عقد مؤتمر مع الطرفين.

ستبدأ القضية الإسرائيلية الفلسطينية – بعد عقود من التعاون عبر المحيط الأطلسي – البدء في إبعاد معظم أوروبا عن الولايات المتحدة، مع انحياز أوروبا إلى المجتمع الدولي وتقاسم الولايات المتحدة العزلة الجيوسياسية المتزايدة مع إسرائيل. لا يتضح أن سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل سوف تدفع عملية السلام إلى الأمام، وبعد أكثر من أربعين عامًا من المشاركة المباشرة في عملية السلام في الشرق الأوسط، يشعر الكثيرون في أوروبا بإحباط بسبب عدم بذل جهد مستمر في دفع الأمور قدمًا. ما لم يلق المجتمع الدولي بثقله وراء إقناع القيادة الإسرائيلية والشعب بأن الوقت يعمل ضدهم الآن، فهناك احتمال ضئيل لإعادة بدء المفاوضات. بعبارة أخرى، قد تكون الأفضلية الإسرائيلية الحالية لتأجيل الاقتراب من الفلسطينيين حتى يستقر الغبار العربي أمرًا خطيرًا في غير محله.

إذا كان الاهتمام السياسي الكبير من قبل الولايات المتحدة وأوروبا بالشرق الأوسط يدور حول الاستقرار والإصلاحات والسلام، فإن أوروبا وأمريكا تواجهان الآن معضلة مزدوجة: بناء رواية جديدة لشرح كيف تؤدي الإصلاحات إلى مزيد من الاستقرار في ظل الأنظمة الإقليمية المقاومة للتغيير، وربط عملية السلام في الشرق الأوسط بهذه الاعتبارات العريضة. تم اقتراح أول رواية مؤقتًا من قبل كل من الرئيس أوباما وكاثرين اشتون. ومع أنه لم يثبت على أرض الواقع، فالدعم الحاسم من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للتحولات في شمال أفريقيا يومئ بعهد جديد في السياسة المعيارية. ومع ذلك، لكي تكون عملية السلام في الشرق الأوسط معيارية حقًا يجب أن يتم معالجتها في وقت واحد. حتى الآن يتم التعامل مع عملية السلام في الشرق الأوسط بمعزل عن الاعتبارات السياسية الإقليمية ودون شعور واضح بأهمية القضية. بدأت الساعة تدق في 25 يناير 2011 لجميع الأنظمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ولمؤيديهم. وبدأت أيضًا تدق لإسرائيل، التي يجب أن تعيد التكيف الآن لتجد لنفسها مكانًا جديدًا في منطقة الشرق الأوسط التي تتحول إلى منطقة متعددة الأقطاب، حيث يتضاءل إلى حد كبير تأثير القوى الخارجية التقليدية التي طالما دعمتها.