Commentary

Op-ed

ضربت السخرية مصر ووقف الجميع يتفرج… حتى الكارهون

يتمتع جون ستيوارت، السياسي الساخر الأمريكي ومقدم البرنامج الحواري الأكثر شهرة في العالم، بتأثير هائلٍ. ويحظى نظيره المصري، باسم يوسف، بنسبة مشاهدة أكثر منه بعشر مرّات. وبالتالي، ومما لا شكّ فيه، أنّ غيابه عن الشاشة على مدى الأشهر الأربعة الماضية ترك تأثيراً مؤثراً وملحوظاً. في المقابل، شكّلت عودته إلى موجات الأثير، وسط بيئة سياسية شديدة القومية والحملة التي شُنّت على القوى السياسية المؤيدة لمرسي في مصر، حدث السّاعة. ونتيجة لحلقته الأولى، والتي اعتبرها المعارضون مهينة للجيش، رُفع عدد كبير من القضايا القانونية ضده. وفي الوقت عينه، يتعرض يوسف لنقد معارضي الإسلاميين نظراً لموقفه غير المعادي للجيش بشكلٍ كافٍ. ماذا تقول عودته عن الاستقطاب في مصر، وعن مستقبل الخطاب السياسي؟

أشار استطلاع اتجاهات التحرير الذي أجري قبل نهاية حكم محمد مرسي، إلى أنّ ستة مصريين من أصل عشرة يقولون أنهم يعرفون من هو باسم يوسف؛ إذ يشاهد عشرات الملايين من الناس في مصر والعالم العربي برنامجه. ومع ذلك، وفي بلد يقوده الاستقطاب تشكل شعبية يوسف أيضاً موضوع استقطاب. وأشارت الدراسة عينها أن المصريين انقسموا بالتساوي بين مؤيدين له ومعارضين. في ظلّ حكم مرسي، إنتقد يوسف الدعاة الإسلاميين المتشددين على تعصبهم وتطرفهم، والحكومة التي يهيمن عليها الإخوان المسلمون على سياستها. وفي المقابل، حصل على استحسان مناهضي الإسلاميين، فيما سخر منه الإسلاميون في مصر.

إثر الاطاحة العسكرية بالرئيس محمد مرسي في أعقاب الاحتجاجات التي قامت على نطاق واسع، اجتاحت الحماسة المفرطة والصاخبة المؤيدة للجيش أعداداً هائلة من السكان. وجاء ذلك رغم الحملة التي تقودها الدولة ضد أنصار مرسي لفرض النظام والتي لم تؤدِ إلى الإشتباكات مع المقاتلين فحسب، بل أودت بحياة المئات من المدنيين على حدٍّ سواء. وعلى خلفية خطاب “الحرب على الإرهاب” الذي تروج له أجهزة إعلام الدولة، تغاضى العديد من المصريين عن انتهاكات حقوق الإنسان – وفي الوقت عينه، مارس المتشددون الموالون لمرسي عنفاً سياسياً كبيراً.

طوال تلك الفترة، لم يظهر يوسف في الإعلام – تم تأجيل موعد البث المقرر إلى ما بعد موسم الصيف بسبب الأجواء الأمنية المتوترة، ومرة أخرى بسبب وفاة والدته. ورغم أن يوسف كان يظهر أسبوعياً من خلال عمود عبّر فيه عن آرائه حول الوضع السياسي (وشرح فيه سبب غيابه عن الشاشة)، ظهر عدد كبير من الشائعات، لا بل أن بعض المصادر المشكوك بأمرها نشرت شائعات تفيد بحظر برنامجه في ظلّ النظام العسكري الجديد المؤقت. وأخيراً وبعد أن عاد إلى الشاشة، بدا البعض من منتقديه أكثر شراسة في حضوره مما كانوا عليه في غيابه.

وأخيراً، تتفق الثنائيات في مصر على أمر: هي لا تحبّ باسم

سترى قاعدة خصومه الإسلاميين نفسها مضطرة بحقّ لإعطاء إشارة دعم ليوسف أكثر من أي وقت مضى. فبعد عزل مبارك، وقبل ذلك على مدى السنوات التي مارس في خلالها يوسف مهنة السخرية السياسية، كان حاسماً للغاية في موضوع استعمال الدين لأغراض حزبية. فبعد أن أصبح هدفاً لمواليي مرسي من الدعاة المتطرفين على القنوات الفضائية، بدا وكأنّه أصبح أكثر اقتناعاً من أي وقت مضى في التنديد بهذا الاتجاه من الإسلام السياسي. أمّا على الساحة السياسية، منح برنامج يوسف حكومة مرسي في البداية فرصة – ولكن، وتحديداً بعد قرار مرسي الذي وضع تصرفاته فوق المراجعة القضائية، أصبح يوسف حاسماً أكثر تجاه الحكومة وسخر منها.

أدت المبالغة في التأثير الذي يتركه برنامج يوسف إلى دفع الكثير من الإسلاميين (بشكلٍ خاطئ) إلى إلقاء اللوم على يوسف لسقوط حكومة مرسي نفسها. فمن الصعب أن نتصور أي برنامج يقدمه يوسف بعد عودته من شأنه أن يلقى استحسان الإسلاميين، ناهيك عن أنه سخر من الإسلاميين الموالين لمرسي حتى وإن كانت سخريته هذه لفترة قصيرة من الزمن. ويبقى شيء واحد مؤكد، وهو أنه رغم كره أنصار مرسي له، تعجز أعداد هائلة منهم عن مقاومة مشاهدة برنامجه – وهذا بحدّ ذاته دليل على نجاح يوسف.

دبّت الحياة في نوع آخر من المعارضة التي يواجهها يوسف ليلة الجمعة. هدف القسم الأكبر من تلك الحلقة إلى السخرية من الحكومة المؤقتة المدعومة من الجيش والقوميين المتحمسين، والمؤيدين للجيش في شكلٍ جنوني – وجاءت ردود الفعل حاقدة. ترى شريحة من سكان مصر في الجنرال السيسي المنقذ، وفي الجيش مؤسسة مقدسة، وفي الرئاسة رمز الفخر الوطني وكلها أمور لا يجب أن تكون موضع سخرية. لا يمكن أن تكون المفارقة أكثر حدة: عندما كان يوسف ينتقد رئاسة مرسي، كان ذلك المعسكر نفسه يحثه على أن يكون أكثر صراحة، وحتى فجاً.

في تلك المرحلة، لم تبدو “كرامة مكتب الرئاسة” بهذه الأهمية. تعرض برنامج يوسف لمعارضة رسمية كما هو متوقع من الشبكة التي بثت البرنامج، وفي غضون يومٍ واحدٍ، رفعت شكاوى قانونية ضده أمام مكتب المدعي العام. استند تأييد هذه المجموعة من المجتمع المصري ليوسف إلى مدى الإزعاج الذي كان يسببه لحكم مرسي – الآن، باتوا يرون في من يحبه طابوراً خامساً ومصدر تهديد. يبدو أن المسار التصادمي أمر لا مفر منه إلى حد ما – خاصة بعد أن وضّح يوسف في الأجزاء الجدية من البرنامج أنه يعارض القمع باسم القومية، في حين ترى المجموعة الأكثر تأييداً للجيش في الجنرال السيسي رمزاً للوطنية المصرية.

الوسط المنشق: أنصار أوفياء ناقدين

كانت تفاعلات تلك المجموعة متوقعة إلى حد ما – إلّا أنّ الغموض لفّ بردّ قسم يوسف السياسي. تلك المجموعة من المجتمع المصري غير الإسلامية بقوة، والمناهضة للإخوان المسلمين، والتي ترفض في الوقت عينه دور الجيش في الحياة السياسية، وتعارض بشدّة انتهاكات حقوق الإنسان ووفاة المدنيين نتيجة “الحرب على الإرهاب” في مصر. كيف سيستجيبون لعودة يوسف؟ هل سيرضى ذلك “الوسط الهامشي المنشق” في الساحة السياسية المصرية عن نهج يوسف لدى عودته؟

لم يكن أعضاء هذا الوسط المنشق عرضة للاستقطاب بعمق فيما بينهم تجاه البرنامج – حظيت الحلقة التي كرست عودة يوسف بقدر كبير من الثناء بالإضافة إلى إنتقادين رئيسيين محددين. سرّ الكثيرون بالتملق العسكري الذي أظهره والذي تخطى في جرأته الحدود المتوقعة وفقاً للكثيرين، نظراً للدعم القومي المفرط الذي يحظى به الجيش في البلاد. ومع ذلك، تمنى كثيرون لو أنّه كان قاسياً أكثر مع الجنرال سيسي. ففي حال بقي الجنرال منخرطاً بشدة في الساحة السياسية العامة، سيتعين على يوسف عنئذٍ أن يستمرّ في انتقاده، ومن المرجّح أن تتعدّد العواقب الناتجة عن ذلك (أقله المضايقة من خلال الدعاوى القضائية العديدة).

ومع ذلك، لن تضرّ جرأة يوسف في هذا الصدد بقاعدة دعمه داخل “الوسط المنشق” بل على العكس تماماً. ثانياً، رحب معظم الوسطيين بمعارضة يوسف العامة لأعمال القتل غير المشروع والقمع الذي تمارسه الدولة، رغم أن البعض أعرب أنه يفضل مناقشة المجموعة الموالية لمرسي في المجتمع المصري بدقّة أكثر. لا يعد ذلك أمراً مفاجئاً، نظراً للثمن الذي دفعه أنصار مرسي، ليس آخراه تشتيت اعتصام رابعة العدوية تشتيتاً قسرياً أودى بحياة المئات من المدنيين العزّل على يد قوات الدولة وأظهر عدم قدرتهم على الردّ على نحو فعال في وسائل الإعلام كما في السابق نظراً لظروف الهزيمة التي لحقت بهم. وتجدر الإشارة إلى أنّ يوسف خصص جزء صغير جداً من حلقته للتطرق للإخوان – ويرى البعض أنه سيخصص لهم مسقبلاً وقتاً أقل، إلا إذا كانت السخرية من الدولة جراء معاملتها لجماعة الإخوان هي الهدف.

وبعد مراقبة ردود الفعل، ولا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي، يبدو واضحاً أن عودة باسم يوسف إلى الشاشة ضربت على وتر حساس مؤاتٍ لذلك الوسط المنشق الهامشي لسبب بسيط جداً، وهو أنّه، شأنه شأنهم، كان شفافاً في تبني رفض الثنائية التي تغلف مصر في الوقت الحاضر. وتصر تلك الثنائية إما على ضرورة احتضان سوء استخدام السياسة للدين (مثل إسلامية الإخوان المسلمين) أو إيجاد عذر له، أو على غض النظر عبر نوعٍ من القومية الفاشية العنيفة. يوجّه أولئك الذين كانوا من أشد منتقدي الإخوان المسلمين أثناء وجودهم في السلطة إنتقاداتهم الآن إلى الحكومة المؤقتة المدعومة عسكرياً (تحديداً الجيش ووزارة الداخلية) ويرون في برنامج يوسف صوتاً قوياً داخل تلك المواقف السياسية الرافضة. قليلون هم المشاهدون الذين لن يجدوا ما ينتقدونه في برنامجه (التلميحات الجنسية الضمنية،على سبيل المثال). ولكن، يتمتع يوسف بجماهريّة متجذرة وطبيعية، ولو كانت ناقدة، داخل هذا الوسط المنشق، تتطلّع كل أسبوع لمتابعة برنامجه ” البرنامج” الذي يؤدي دوره كمرآة صادقة تعكس حالة المجتمع – لأنها تدرك تماماً أنّ المقدم منحاز للثورة الأصلية التي بدأت في 25 يناير 2011. إنه تحيّزٌ يقدّره هؤلاء الوسطيين.

عمد كلّ من المعسكر المؤيد للجيش في مصر وأنصار مرسي من الإسلاميين إلى نعت يوسف بالمهرج – ولكن، على حد قول المدون المصري البارزي، “زنوبيا”، يبدو وكأنه “المهرج الذي يخيف الجميع. نعم، انتقل من الرموز الدينية إلى الرموز العسكرية!!”

في نهاية المطاف، يستحيل أن يتمكن يوسف من إرضاء الجميع. ومع ذلك، سيشارك البعض يوسف في رفضه للثنائيات التي تجعل مصر عرضة للاستقطاب في الوقت الحاضر، وسيعتبر مساهمة يوسف في هذا الوقت العصيب بالغة الأهمية. وعدت هذه الحلقة بالمطالبة بحرية الفرد في انتقاد قادته، وبعدم التساهل في مساءلة الأشخاص في شكلٍ فعال. وقد فعل يوسف ذلك بجرأة غير مسبوقة. وبغضّ النّظر عن الثمن الذي قد يدفعه أو لا نتيجة هذه العملية، فإنّه سيلهم الآخرين للقيام بالأمر عينه