في خلال الانتخابات في 9 أبريل، بالكاد تمكّنت الأحزاب السياسية العربية في إسرائيل من تفادي خسارة كارثية، فقد هدّدت نسبة اقتراع هي الأدنى في الانتخابات الإسرائيلية بالحدّ من التمثيل السياسي للأحزاب العربية في الكنيست، لا بل بإمكانية إلغاء هذا التمثيل بالكامل. غير أنّ فورةً في الساعات الأخيرة من التصويت رفعت نسبةَ الناخبين العرب إلى قرابة 49 في المئة وأنقذت الوضع في نهاية المطاف، مع تسجيل تحالف حزبي عربي واحد، مؤلّف من التجمع الوطني الديمقراطي والقائمة العربية الموحدة، نسبةً بالكاد تتخطّى نسبة 3,25 في المئة الدنيا من الأصوات المطلوبة للتأهّل (أعلى بـ0,05 نقطة مئوية) وحصوله على أربعة مقاعد في المجلس النيابي. ومع التحالف الحزبي العربي الآخر المؤلّف من الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحركة العربية للتغيير، تمكّن هذان التحالفان من الحصول على عشرة مقاعد، بعد أن كسبت الأحزاب العربية في الكنيست السابق على 13 مقعداً.
وفيما برزت بعض المؤشرات قبل حلول موعد الانتخابات بأنّ الدعوات في المجتمع الفلسطيني العربي في إسرائيل إلى مقاطعة التصويت قد تؤثر في نسبة الاقتراع، لم تترسّخ فكرة أنّ نسبة الاقتراع قد تسجّل فعلياً مستويات منخفضة للغاية إلّا في يوم الانتخابات. ففي مدينة الناصرة، المدينة الفلسطينية العربية الكبرى في إسرائيل وعاصمة المجتمع السياسية، بالكاد يلاحظ المرء أنّ عملية انتخابية تجري. وكانت تعبيرات الناخبين الاعتيادية عن حماسهم وولائهم للأحزاب غير بارزة. وفي أحد مراكز الاقتراع التي دخلتُها عند العصر، خلت حجرة الاقتراع من أيّ ناخب. وفي خارج المبنى، انكبّ العملاء السياسيون للأحزاب البارزة على هواتفهم النقالة لإقناع الناس بالحضور والتصويت.
وتغيّرت نبرة القادة السياسيين العرب بشكل لافت على امتداد ذلك اليوم. ففي الصباح، اتّسمت تغريدات القادة السياسيين بالحماس والتفاؤل. لكن بحلول أولى ساعات المساء، عبّرت رسائلهم عن نوع من الهلع. فقال قائد الحركة العربية للتغيير أحمد الطيبي إنّ أعداد التصويت تشكّل “خطراً حقيقياً”. واعتبر مطانس شحادة، رئيسُ التجمع الوطني الديمقراطي، الذي كان متحالفاً مع حزب القائمة العربية الموحدة التابع للحركة الإسلامية، أنّ في نسبة الاقتراع المتدنية احتمالَ “انتحار سياسي”. وغرّد أيمن عودة، قائد الحزب الأكبر، أي الجبهة الديمقراطية للسلام، قائلاً إنّ السيناريو “الكابوسي” لهم، أي خسارة التمثيل في الكنيست، يبدو فجأة خياراً واقعياً.
فماذا حدث إذاً؟ لِمَ شهدت نسبة الاقتراع العالية نسبياً بين الناخبين العرب في العام 2015 (قرابة 64 في المئة) تراجعاً مفاجئاً بنسبة 15 نقطة؟
يمكن عزو ذلك جزئياً إلى عودة بسيطة إلى التوجّه. إذ تشهد أعداد التصويت العربية تراجعاً لسنوات، فقد أدّى الشعور بخيبة الأمل إزاء العملية الانتخابية والتهميش المتنامي عن المجتمع الإسرائيلي ككلّ إلى زيادة لامبالاة الشعب العربي الناخب. ومن الممكن أيضاً إسناد هذا التراجع في التصويت إلى قمع الناخبين. فيُعتبر مثلاً القرارُ بإجراء الانتخابات الوطنية والمحلّية في تواريخ مختلفة استراتيجيةً لقمع التصويت الفلسطيني العربي في الانتخابات الوطنية، بما أنّهم يسجلون نسبة مشاركة عالية في الانتخابات المحلية، المرتبطة بشكل مباشر أكثر في حياتهم اليومية. لكن في العام 2015، توحّدت الأحزاب العربية الأربع الرئيسية لتأليف القائمة العربية الموحدة. وقد حدث ذلك نتيجة نجاح بعض النواب اليمينيين الإسرائيليين، من بينهم أفيغادور ليبرمان، في رفع الحدّ الأدنى الانتخابي في محاولة سافِرة لانتهاز فرصة التصدّع السياسي العربي وإبقاء الأحزاب العربية خارج الكنيست. وشكّل هذا التوحّد لحظةً تاريخية، فدبّ الحماس في قلوب الشعب. إذ اعتبر الناس أنّ قادتهم اتّخذوا خطوة مهمّة في تخطّي اختلافاتهم، وأنّ ذلك قد يتيح لهم أخيراً أن يتمتّعوا بنفوذ حقيقي. غير أنّ هذا الأمر لم ينجح فعلياً. فعندما لم يستفد الأعضاء العرب في الكنيست من هذه الفرصة، لا بل عجزوا حتّى عن إبقاء التحالف موحّداً في خضمّ المشاحنات التافهة في ما بينهم قبل الانتخابات التالية، شعر الناخبون بخيبة أمل مريرة.
غير أنّ هذا الأمر لا يفسّر بالكامل الدعوات المنتشرة هذه المرّة لمقاطعة الانتخابات. وفيما اعتبر بعضهم هذه الدعوة إلى المقاطعة أشبه بالحركة، لا يُعدّ هذا الوصف صائباً. إذ تتطلّب الحركة درجةً لا بأس بها من التنظيم وأيديولوجيةً كامنة وراءها. أمّا القرارات بمقاطعة الانتخابات في العام 2019، فقد صدرت إلى حدّ كبير عن أفراد، كطريقة لردّهم على مجموعة من المحفّزات ومشاعر الإحباط (التي يمكننا القول إنّها مترابطة).
ومن بين هذه المحفّزات والإحباطات الاعتقادُ الراسخ بأنّ المشاركة في الانتخابات الوطنية تمنح شرعيةً للديمقراطية الإسرائيلية، التي يعتقد الكثيرون أنّها بطبيعتها غير ديمقراطية إزاء مواطنيها غير اليهود. وقد أدّت وجهة النظر هذه ببعض المجموعات في المجتمع، مثل حركة أبناء البلد والجناح الشمالي للحركة الإسلامية، إلى مقاطعة الانتخابات النيابية، مركّزةً بدلاً من ذلك على الانتخابات المحلّية وتنمية المجتمع. ودعا أحد الأساتذة البارزين، البروفيسور أسعد غانم، النوّاب الفلسطينيين العرب إلى الاستقالة.
وشهدت هذه الفكرةُ دعماً متزايداً على مدى العقد الماضي مع إقرار الحكومات ذات التوجه اليميني المتزايد في إسرائيل عدّة قوانين تهدف إلى التمييز ضدّ المواطنين الفلسطينيين العرب وحرمانهم من حقّ التصويت. وأهمّ هذه القوانين هو قانون الدولة القومية، الذي أُقرّ العام الماضي والذي يحدّد هوية إسرائيل الدستورية على أنّها يهودية حصراً، من دون أيّ ذكر للديمقراطية أو المساواة أو المواطنين غير اليهود. بالفعل، نصّ القانون صراحةً على أنّ حقّ تقرير المصير في دولة إسرائيل يعود إلى اليهود وحدهم، مستثنياً بذلك المواطنين العرب من حقّ تقرير مصير إسرائيل.
ويرتبط بذلك الاعتقادُ بأنّ السياسيين العرب عاجزون عن التأثير في السياسات، سواء أكان لهم خمسة مقاعد أم كان لهم عشرون مقعداً. ومن الممكن تفسير ذلك جزئياً بواقع أنّ الأحزاب العربية لم يتمّ ضمّها قطّ إلى تحالف حاكِم إسرائيلي، ممّا يحدّ من إمكانية تمتّعها بهذا النوع من النفوذ. بالفعل، في خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، صرّح تحالفُ “أزرق أبيض” برئاسة بيني غانتس، وهو يشكّل الغريم الأساسي لحزب الليكود برئاسة بنيامين نتانياهو، أنّه لن يضمّ حزباً عربياً إلى تحالفه تحت أيّ ظرف. فمجرّد التفكير في الانفتاح على إمكانية من هذا النوع يُعدّ مضرّاً بالسياسة الإسرائيلية.
ويُعتبر هذا الإحساس بعدم الجدوى مهمّاً لأنّه يمثّل عدم رضى عن النظام بعينه، وهو أمر لا تمكن معالجته إلا عبر اللجوء إلى أساليب خارج القنوات الرسمية. وفيما يبدو أنّ الكثير من المقاطعين الأجدد للانتخابات ليس لهم استراتيجية واضحة حول كيفية التصرف عند خروجهم أو خروج نوّابهم من الكنيست، غالباً ما أسمع أنّ المجتمع العربي بحاجة إلى بعض الوقت ليعيد تقييم أهدافه ويحدّد مجتمِعاً ما يريد وكيفية المضيّ قدماً ككيان واحد. وقد لا يحتاج العرب إلى أكثر من دورة انتخابية واحدة للعثور على الأجوبة، غير أنّه يسري الاعتبار بشكل عام أنّ التركيز الحالي على الانتخابات الوطنية والفوز بمقاعد في الكنيست يحوّل اهتمامهم عن هذا الجهد الأهمّ ويضيّع اهتمام الشعب وطاقته.
أخيراً، من الممكن القول بكل بساطة إنّ الكثير من الناس قد ضاقوا ذرعاً بالقادة السياسيين. فيعتبر الكثيرون أنّ الطبقة السياسية العربية تُحَرّكها مصالحها الخاصة أكثر منها رغبة في خدمة المصلحة العامة. ويتأتّى هذا التفكير عن الملاحظة بأنّهم نادراً ما يتحدثون مع مجتمعاتهم المحلية إلّا في خلال فترة الانتخابات، وبأنّ خطابهم في الكنيست يركّز بشكل شبه حصري على المسائل الوطنية الأوسع المتعلقة بالعلاقات الفلسطينية اليهودية، بما فيها الأراضي المحتلة، بدلاً من تركيزهم على الحاجات اليومية لقواعدهم الناخبة. في هذا الإطار، بات السياسيون منفصلين عن مجتمعاتهم وخسروا ناخبيهم. ولم يشكّل انهيار القائمة العربية الموحدة سوى الشعرة التي قصفت ظهر البعير. ويبدو أنّ أحد أهداف الشعب يكمن في إرسال رسالة إلى السياسيين بأنّه لا يمكن الاستخفاف بأصوات شعبهم بعد اليوم. فإذا أراد السياسيون أن يكونوا قادةً، عليهم أن يضعوا خطةً أفضل حول كيفية معالجة حاجات مجتمعهم.
ومع أخذ جميع هذه النقاط بعين الاعتبار، تفسّر هذه الشكاوى المتنوّعة سبب الدعوات إلى مقاطعة التصويت الأسبوع الماضي، الذي لم ينجم عن مجرد لامبالاة. كذلك، تقوّي هذه الشكاوى المقاطعةَ في وجه محاولات التأثير في الناس عبر اللجوء إلى التخويف من البديل. بالتالي، على الرغم من التهديد الواضح الذي يشكّله بنيامين نتانياهو وأحزابه اليمينية المتحالفة على الفلسطينيين، لم يفرّق المقاطعون بين الأحزاب اليهودية الإسرائيلية، فقد اعتبروا أنّ حتّى الأحزاب الوسطية واليسارية تعمل لأذية مصالح الفلسطينيين.
لكن هل سُمعت الرسالة؟
لا شكّ في أنّ نسبة الاقتراع المتدنية أخافت الممثّلين السياسيين العرب. فقد قال لي أحد السياسيين البارزين إنّ شعبه فقد الأمل، ويعود الأمر إلى القادة لمنحهم أملاً جديداً للمستقبل، ربّما من خلال تأليف تحالفات مع الأحزاب اليسارية اليهودية في إسرائيل. لكن نظراً إلى أنّ كلتا القائمتَين الحزبيتَين العربيتَين قد تمكّنتا من كسب بعض المقاعد في الكنيست هذه المرة، من غير الواضح إذا ما يُعتبر التهديد بالمقاطعة أمراً موثوقاً. وحده الوقت، وربما انتخابات أخرى، كفيلةٌ بالجواب.
Commentary
لماذا تهاوت نسبة اقتراع الناخبين العرب في الانتخابات الإسرائيلية؟
الثلاثاء، 16 أبريل 2019