Commentary

سنوات من الإهمال جعلت منظّمة التحرير الفلسطينية تواجه الضمّ بدون خطّة

Palestinian President Mahmoud Abbas speaks during a leadership meeting in Ramallah, in the Israeli-occupied West Bank May 19, 2020. Alaa Badarneh/Pool via REUTERS

بعد أكثر من ربع قرن، قضت اتفاقيات أوسلو نحبها الأسبوع الماضي. أطلق محمود عبّاس، رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، من مجمّعه الرئاسي في رام الله، خطاباً قال فيه إنّ الفلسطينيين باتوا “في حِلّ من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية”،  بما في ذلك الاتفاقات والتفاهمات الأمنية.

وأتى هذا التصريح الصاعق بعد أيّام قليلة من استلام حكومة وحدة وطنية مهامها في إسرائيل وإعلانها صراحة نيّتها بالسير قدماً في خطط للبدء بضمّ أقسام كبيرة من الضفّة الغربية ابتداء من 1 يوليو. وإن نفّذت إسرائيل كلامها، سيصبح من المستحيل إقامة دولة فلسطينية في الضفّة الغربية، وستخسر اتفاقيات أوسلو ما بقي فيها من معنى أو وعود حتّى الآن، ولا سيّما أنّه تمّ توقيع هذه الاتفاقيات لتسهيل تقرير المصير والحكم الذاتي للفلسطينيين في تلك الدولة الموعودة.

مع ذلك، كان إعلان عبّاس بعيداً البعد كلّه عن خطّة عمل ملموسة ومُفصّلة كان ليتوقّعها الكثيرون في وضع كهذا. ويشير هذا الأمر على الأرجح إلى تردّدٍ مُتريّث وغيابٍ مذهل للتخطيط وارتباكٍ حول ما ينبغي فعله بعد إعلانٍ يبدو أنّه سيكون على الأرجح خطوة حاسمة لا رجوع عنها.

ما قاله عبّاس وما لم يقله

ترك الخطاب الكثير من الأسئلة بلا جواب، بما فيها: هل “الحِل” من اتفاقيات أوسلو يعني أنّ المنظّمة الفلسطينية ستتوقّف عن التنسيق مع إسرائيل أم ستُفضّ بالكامل؟ هل الحِل من التفاهمات والاتفاقات يعني أنّ اعتراف منظّمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، الذي ورد في إعلان المبادئ في أوسلو، لم يعد سارياً؟

وعلى صعيد عمليّ أكثر، كيف ستُحكَم الضفّة الغربية من الآن فصاعداً، نظراً إلى نظام الصلاحيات الإدارية والأمنية المعقّد الذي أسّسته اتفاقيات أوسلو؟ ومَن سيكون مسؤولاً عن حفظ الأمن وتوفير التعليم والرعاية الصحّية والخدمات الأخرى للشعب الفلسطيني التي نقلتها إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية من خلال عملية تفاوض مفصّلة في العام 1995؟ وهل يمكن نقض هذه العملية بمجرّد إعلان؟

والأهمّ في الموضوع، كيف سيتابع ملايين الفلسطينيين في الضفّة الغربية حياتهم اليومية ونشاطهم الاقتصادي اللذَين يَجريان تبعاً لهذه الاتفاقيات والهيكليات منذ ربع قرن؟

لا شكّ في أنّ القرار بالخروج من اتفاقيات أوسلو كان آتياً منذ زمن لا محالة. فقد انتهكت إسرائيل بانتظام كلّ ناحية من نواحي الاتفاقية لسنوات. ولسنوات أيضاً، هدّد عبّاس والآخرون بالتخلّي عن الاتفاقيات، لكنّه تهديد لم يتخطَّ يوماً مرحلة الكلام. وتلقى فكرة إنهاء التعاون مع إسرائيل، ولا سيّما في المجال الأمني، شعبية كبيرة ضمن منظّمة التحرير الفلسطينية ولدى الشعب. فالفلسطينيون يكرهون التعاون الأمنيّ الوثيق الذي تجريه حكومتهم مع إسرائيل، خصوصاً أنّها تُبقي على احتلالها العسكريّ وتستمرّ بانتهاكاتها لحقوق الإنسان.

علاوة على ذلك، المؤسّسات السياسية الفلسطينية شديدة الالتفاف والتعقيد نتيجة عملية أوسلو. واليوم يخضع الفلسطينيون لحكم منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية ودولة فلسطين وهي الكيانات التي تُمثّلهم أيضاً، على الرغم من رداءة هذا التمثيل، ولكلّ كيان أدوار غير واضحة ومتداخلة وتخضع لرئاسة الشخص ذاته، أي محمود عبّاس.

وفيما لم يضمّ خطاب عبّاس الكثير من التفاصيل، طرح بعض النقاط التي تسلّط المزيد من الضوء على ما يراود فكر القيادة الفلسطينية.

أولاً، طلَب القائد الفلسطيني من إسرائيل أن تستأنف كامل موجباتها بموجب القانون الدولي كسلطة احتلال. ومرّة أخرى، لم يتمّ توضيح الطريقة والزمن لتطبيق ذلك، لكن يمكننا أن نستنتج أنّ عبّاس يتوقّع أن تهتّم إسرائيل بجزء من مسؤولياتها.

ثانياً، لم يأتِ عبّاس على ذكر السلطة الفلسطينية في خطابه، وأشار عوضاً عن ذلك إلى الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي. ويلمّح ذلك إلى أنّه عبر إنهاء الاتفاقيات لكن عدم إلغاء السلطة الفلسطينية صراحة، أعادت القيادة تشكيل السلطة الفلسطينية على أنّها دولة فلسطين، تماشياً مع مكانتها في نظام الأمم المتحدة، التي تخضع لاحتلال إسرائيلي.

وهذه نقطة أساسية ينبغي التمعّن فيها، لكن لسوء الحظ، لم تردْ في خطاب عبّاس إلا بشكل إشارة لا أكثر، ممّا ترك الكثير من النقاط الغامضة. وينبغي توضيحها بالتفصيل لكلّ الجهات المعنية، بما في ذلك الشعب الفلسطيني، الذي ما زال يعيش حياته ويتدبّر شؤونه وأعماله من خلال النظام والهيكليات التي أنشأتها اتفاقيات أوسلو، والذي قلبت هذه الخطوة التحوّلية حياته رأساً على عقب.

كيف وصلت الأمور إلى هنا

ينبَع المنطق المُفترض لهذه المقاربة من إعلان استقلال فلسطين كدولة في العام 1988، وقد اعترفت 138 دولة به حول العالم. لكن في ذلك الوقت كان صفة الدولة حبراً على ورق لا أكثر.

بعد خمسة أعوام، انخرطت منظّمة التحرير الفلسطينية في عملية أوسلو، ووافقت على الوصول إلى صفة الدولة عبر التفاوض مع إسرائيل، على الرغم من أنّ إسرائيل كانت تقوّض فرص نشوء دولة فلسطينية على الأرض من خلال سياسات استيطانية توسّعية. وفي عهد بنيامين نتنياهو بالتحديد، بدت المفاوضات للفلسطينيين عائقاً أمام نشوء الدولة أكثر منه مُسهّلاً لها.

وبحلول العام 2011، اعتبر مراقبون أساسيون لهذا الصراع، من بينهم الأمم المتّحدة والاتّحاد الأوروبي والبنك الدولي وغيرها، مشروعَ بناء الدولة الفلسطينية جاهزاً، لكنّ المفاوضات لم تشهد أيّ تقدّم.

نتيجة لذلك، عمل الفلسطينيون على تجاوز عملية السلام المعطَّلة عبر مطالبة الأمم المتحدة مباشرة بالاعتراف بدولتهم في أواخر العام 2011، مع البقاء ملتزمين باتفاقيات أوسلو في بلادهم. وأتى الإنجاز الملفت الأول في هذه العملية في نوفمبر 2012، حينما نالت فلسطين صفة دولة مراقبة غير عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما أفسح في المجال أمام الاعتراف بها في عدد من المحافل الأخرى في السنوات التالية.

أسباب تدعو للشكّ

ينبغي النظر إلى خطوة عبّاس الأخيرة باستبدال السلطة الفلسطينية بدولة فلسطين بالتماشي مع تلك الإجراءات الأخرى الهادفة إلى الوصول إلى إنشاء الدولة كعمل للتصدّي للتصرّفات الإسرائيلية على الأرض. فقد يكون ذلك جذاباً للغاية لعبّاس، الشخص الذي يتفادى المخاطر، لأنّه لا يشكّل تغييراً ثورياً للحركة الوطنية الفلسطينية. فبذلك تتفادى القيادة أن تضطرّ إلى إعادة هيكلة مؤسّساتها بشكل جذري أو تعيدَ إحياء منظّمة التحرير الفلسطينية وإصلاحها أو تعيدَ التفكير في أجندتها السياسية النهائية بشكل يتخطّى صيغة الدولتَين التقليدية أو تُمكِّنَ الشعب الفلسطيني المحلّي أو الشتات أو تُصلِحَ العلاقات مع حماس.

نتيجة لذلك، على الأرجح أن يُعيب النقّاد في المجتمع الفلسطيني الخطوة على أنّها وسيلة لعدم المساس بالهيكليات الحالية بغية المحافظة على السلطة والمزايا لدى أصحاب المصلحة المباشَرين فيها، من دون مواجهة فداحة الوضع الذي يولّده الضمّ.

وبالفعل، تكثر الأسباب التي تدفع إلى الشكّ بصدْق القيادة الفلسطينية أو قدرتها على تنفيذ استراتيجية كهذه. فطوال عقدَين من الزمن، كان من الممكن والمنطقي لقيادة منظّمة التحرير الفلسطينية أن تتابع العمل على تحقيق السلام مع التحضير لإمكانية الفشل. فقد تمّ هدر سنوات من فترة التحضير الثمينة من خلال عدم وضع خطط طوارئ لهذه اللحظة بالذات التي بات فيها الضمّ مطروحاً بشكل علنيّ. زد على ذلك أنّ مؤسّسات الدولة التي تريد هذه الاستراتيجيةُ تمكينَها تقوّضت بفعل سنوات من الإهمال والفساد وغياب الانتخابات وحلّ البرلمان المُنتَخب في العام 2018، مع حصر السلطة بيد حفنة قليلة من الأشخاص.

لكن هذا لا يعني أنّ الخطوة التي اتّخذها عبّاس بالابتعاد عن اتفاقيات أوسلو لا يمكن أن تتبعها خطوات أخرى ضمن استراتيجية متماسكة تهدف إلى تعزيز موقف الحوكمة الفلسطينية على الأرض. فينبغي على السلطة الفلسطينية التركيز على استعادة الشرعية لمسؤوليها ومؤسّساتها من خلال الانتخابات وعلى إبطال مركزية السلطة وعلى إقناع الفلسطينيين أنّ العمل للوصول إلى الدولة ما زال قابلاً للتحقيق في المستقبل وعلى حشد الموارد وعلى إطلاق حملة استشرافية لتحقيق هذا الهدف النهائي. وينبغي أن تحشد استراتيجية كهذه الفلسطينيين والمجتمع الدولي دفاعاً عن بديل قابل للتطبيق لـ”صفقة القرن” التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي يستغلّها نتنياهو للحلول مكان اتفاقيات أوسلو.

لكن نظراً إلى ضعف الحكومة الفلسطينية وتفتّتها ومدى انفصالها عن شعبها وانعدام شرعيتها الشعبية إلى حدّ بعيد، من الصعب أن تتبلور استراتيجية كهذه على يد هذه القيادة. وفي هذا الوقت المتأخّر، ومع دنو عملية الضمّ، ينبغي طرح السؤال جدّياً ما إذا كانت هذه الأجندة الساعية إلى إنشاء الدولة ما زالت قابلة للتطبيق أم تبرز الحاجة إلى نموذج جديد في المستقبل الذي يلي مرحلة الضمّ.

Authors