Commentary

Op-ed

كيف يمكن للهند أن تحافظ على التوازن الدقيق في علاقاتها مع إسرائيل وفلسطين

عندما قام الرئيس الهندي براناب موخرجي بزيارة إحدى الجامعات الفلسطينية في القدس الشرقية أثناء موجة الاضطرابات الأخيرة، استقبله المحتجّون بلافتات حملت عبارات انتقدت بأدب تنامي الروابط بين الهند وإسرائيل. في هذه المنطقة التي تتصف على ما يبدو بالكراهية المستحكمة والعنف المتصاعد، يعتبر هذا النوع من الاحتجاجات المهادنة تعبيراً عن خيبة أمل  صديق  قديم  من خيار الهند لشركاء جدد.

من شأن زيارة الرئيس الهندي إلى فلسطين والأردن وإسرائيل تأزيم التوتر وإظهار التناقض بين موقف الهند التقليدي  في دعم القضية الفلسطينية ومؤازرتها والعلاقات المزدهرة الأكثر حداثة مع تل أبيب. هناك جملة من القيم والمصالح المتعارضة تحكم سياسات الهند في الشرق الأوسط، ليس أقلها الالتزام بتضامن دول العالم الثالث ونبذ العنف والسياسات المحلية وتوسيع المصالح الاستراتيجية والاقتصادية. وقد صرّح موخرجي في أحد بياناته عن سبب مهم آخر يؤكد تعرّض السياسة الهندية للضغوط  حين قال “إن علاقاتنا  الثنائية [مع إسرائيل] مستقلة عن علاقاتنا مع فلسطين”. وفي قوله هذا إنما ينطلق من تقليد قديم يتمثل في محافظة الهند على موقف حيادي و”علاقات صداقة مع الجميع”، ناهيك عن النأي بعلاقاتها الفردية عن التحالفات المتشابكة.

نهج تضامني

خلال معظم فترة ما بعد استقلالها، ساندت الهند نضال الشعب الفلسطيني، من خلال تضامنها مع الدول العربية ضد الاستعمار والتزامها بحركة عدم الانحياز. وقد صوتت الهند ضد دخول إسرائيل إلى عضوية الأمم المتحدة، كما صوتت لإدانة الصهيونية والعنصرية. ومع هذا، أظهرت نيودلهي موقفها الحيادي حين اعترفت بدولة إسرائيل في العام 1950. أما على الصعيد الاجتماعي، فتُعرف الهند بأنها إحدى الوجهات المحببة لدى السياح للسيّاح الإسرائيليينً.

بعد انتهاء الحرب الباردة، لجأت دلهي إلى إظهار جانبها الحيادي بشكل أكثر وضوحاً، فأصبحت أول دولة غير عربية تعترف بدولة فلسطين في العام 1988، تلا ذلك إعلانها إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في العام 1992، بعد استشارة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.

العلاقات في عهد حزب الشعب الهندي BJP (بهاراتيا جاناتا) ومودي

لجأت الهند في العقود الأخيرة إلى توطيد علاقاتها مع إسرائيل بحيث شملت صفقات شراء الأسلحة. وفي عهد حزب المؤتمر، ظلت هذه العلاقة طي الكتمان، لكن الخطاب الذي تُحركه خلفية أيديولوجية والذي يعتمده حزب الشعب الهندي ل كان حاسماً في تأييده لإسرائيل. وجاءت أول زيارة لرئيس وزراء إسرائيلي إلى الهند خلال فترة حكم حزب الشعب الهندي عندما زار أرييل شارون دلهي في العام 2003. ومن المعروف أن وزيرة الخارجية الحالية سوشما سواراج كانت قد شغلت منصب رئيس جمعية الصداقة البرلمانية الهندية-الإسرائيلية، ويُقال إنها معجبة بشخصية غولدا مائير.

قد يشير تاريخ مودي السياسي إلى ميل قوي تجاه إسرائيل، فقد زارها حين كان رئيس الوزراء لولاية غوجارات. أما كرئيس الوزراء الهندي، فيمكن القول إن تلميحاته ومبادراته تجاه إسرائيل تشكل تحولاً كبيراً من قبل حزب المؤتمر تجاه سياسات الشرق الأوسط. هذا وقد التقى مودي رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو في مقر الأمم المتحدة (حيث كان بإمكانه اللقاء بالرئيس الفلسطيني محمود عبّاس لو أراد أيضاً، لكنه لم يفعل) كما التقى بالرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في سنغافورة. وفي يونيو الماضي، أعلن مودي عن خططه لزيارة إسرائيل، وبهذا يكون أول رئيس وزراء هندي يقوم بهذه الخطوة.

إذا ما نحينا الأيديولوجيات جانباً، نرى أن هناك العديد من المصالح الاستراتيجية والاقتصادية التي تدفع دلهي نحو إسرائيل، فالدولتان تواجهان تهديدات أمنية متشابهة. وقد اشترت الهند أسلحة إسرائيلية بقيمة 662 مليون دولار أمريكي منذ انتخاب مودي. كما تعمل مجموعتا اللوبي الهندي والإسرائيلي معاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وتملكان مصالح مشتركة تتمثل في إقناع واشنطن بالسماح لتل أبيب ببيع منظومات أسلحة قائمة على التكنولوجيا الأمريكية إلى دلهي. ويصل حجم التبادل التجاري السنوي بين البلدين إلى حوالي 5 مليارات دولار مع احتمال الاتفاق هذا العام على صفقة للتجارة الحرة من شأنها مضاعفة هذا الرقم. كذلك تطمح الهند إلى مضاهاة الاقتصاد الإسرائيلي الذي يتمتع بمستوى تكنولوجي عالي.  

تغير في المواقف في الآونة الأخيرة

ومع هذا، رُصدت في الآونة الأخيرة بعض التغيرات في مواقف مودي تجاه علاقة الهند بإسرائيل، إذ بدأت مواقفه تتسم على نحو غير معهود بالحذر، فقد أرجأت دلهي إعلان موعد زيارة رئيس الوزراء، وأرسلت بدلاً منه رئيس الجمهورية موخرجي، الذي يعتبر تمثيله تشريفي ، كما إن موخرجي هو وزير سابق في حزب المؤتمر الذي يعتبر أقرب إلى الشعب الفلسطيني من حزب الشعب الهندي. أدلى موخرجي  قبل زيارته هذه بتصريح اقتبس فيه قولاً للمهاتما غاندي مفاده “إن فلسطين ملك للعرب كما هي إنجلترا ملك للإنجليز…”. وقيل إن تل أبيب كانت قلقة من تأخير زيارة رئيس الوزراء الهندي، حتى إن نتنياهو أوفد أقرب معاونيه إلى الهند لاستطلاع الأمر والحصول على إجابات.

قد تكون هناك عوامل عدة وراء هذا التراجع في زخم العلاقات بين الهند وإسرائيل، أولها اقتراب موعد الانتخابات في ولاية بيهار. إذ عانى حزب الشعب الهندي من بعض الهزائم في الآونة الأخيرة، وتعتبر بيهار ذات الأهمية الانتخابية، بمثابة اختبار لشعبية مودي. تضم الولاية نسبة من المسلمين أعلى من المتوسط، ما يعني أن على رئيس الوزراء أن يكون حذراً جداً بشأن صورته هناك. وما يزيد من حدة الأمر تصاعد العنف مؤخراً بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ما يستدعي قراءة دقيقة لموقف مودي تجاه إسرائيل، في حال  أعلن موعداً للزيارة.

بالإضافة إلى ذلك، في حين أنّ الفلسطينيين لا يمكنهم توفير ما توفّره إسرائيل للتجارة أو التكنولوجيا العسكرية الهندية ، إلا أن هناك بعض المكاسب الاستراتيجية التي تدفع الهند إلى عدم إقصائهم من المعادلة. فالهند تسعى للحصول على عضوية دائمة في مجلس الأمن، وهذا أمر يحتاج إلى دعم العالم العربي والدول النامية على نطاق واسع. كما أن مصالح الهند الاستراتيجية وعلاقاتها مع دول الخليج العربي وإيران آخذة بالتوسع نتيجة تزايد الاعتماد على الطاقة الأجنبية وظهور تعددية الأقطاب في الشرق الأوسط، الأمر الذي يخلق منافسة مع الصين. يُضاف إلى هذه الأسباب كلها حاجة حزب الشعب الهندي الدائمة لكسب أصوات المزيد من الناخبين المسلمين، وبذلك يبقي على النموذج القديم الذي اعتمده حزب المؤتمر في دوزنة الرسالة الدبلوماسية بشأن بفلسطين مما يتناسب مع الاحتياجات السياسية المحلية.

كما وأنّ التحولات الجيوستراتيجية التي تتعرّض لها المنطقة تعني أن تل أبيب سوف تبذل ما في وسعها لتمتين علاقاتها مع دلهي على نطاق واسع، بصرف النظر عن حجم الدعم الدبلوماسي الذي تقدمه الهند للفلسطينيين. فقد شهدت التطورات الأخيرة تراجعاً في المزايا الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة بعد الانعتاق الاقتصادي لإيران عقب الاتفاق النووي، وأيضاً بعد تأكيد روسيا استعدادها على التدخل لدعم حلفائها، كالأسد مثلاً، الأمر الذي طمأن حزب الله وإيران.

هناك أيضاً اتجاه على المدى الأبعد يزيد من حاجة إسرائيل لاتخاذ شركاء جدد من القوى العظمى. هذا الاتجاه يتمثل في تراجع اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية ونفوذها في المنطقة مع إصرار متزايد من قبل الصين وروسيا على دعم عملائهما الحاليين والعملاء المحتملين في المستقبل. كما إن العلاقات مع الهند لن تثير الكثير من قلق واشنطن كما قد يحدث لو بنت إسرائيل علاقات مع الصين وروسيا مثلاً. ومن الأمثلة على هذا استخدام واشنطن حق النقض (الفيتو) ضد نقل تل أبيب أنواعاً معينة من التكنولوجيا الدفاعية إلى بكين.

إن توسيع الرهانات الاستراتيجية والاقتصادية يعني صعوبة أنّه سيكون من الصعب أكثر فأكثر على الهند الالتزام بمبدأ “الصداقة مع الجميع”. لكن الوقائع المستجدة في المنطقة تؤكد ازدياد نفوذ الهند أكثر من ذي قبل. إن التوازن الأمثل للمؤثرات المتنافسة في سياسة الهند في الشرق الأوسط قد يتمخّض فعلياً عن استمرار انتهاجها لموقف حيادي. لقد شهدنا أمثلة على هذا مؤخراً حين دعت الهند مجلس الأمن إلى اتخاذ خطوات لإيقاف العنف الحالي.

إن التزام جانب الحياد يجعل دلهي شريكاً دبلوماسياً ذا قيمة كبيرة، ويعطي الهند نفوذاً أكبر مع إسرائيل وفلسطين والدول العربية وإيران. إذا استطاع مودي أن يدرس بدقة أهمية دول الشرق الأوسط في علاقات الهند، فربما ينجح حينها في تحقيق مصالح بلاده مع التمسك بقيمها في الوقت عينه.