Commentary

استقرار مصر على المدى البعيد ودور الاتحاد الأوروبي

People line up with empty canisters and bottles as they wait to collect filtered water in Toukh, El-Kalubia governorate northeast of Cairo, Egypt June 30, 2017. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh - RC15FDCAEB90

في أوروبا، أظهرت التوليفة المكوَّنة من أزمة الهجرة والتهديدات الإرهابية والضغوط الاقتصادية وصعود التيار اليميني، أنَّ حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط تؤثِّر تأثيراً مباشراً في الاستقرار في الغرب.

مصر – الدولة التي يبلغ عدد سكانها 97 مليون نسمة، والتي يزيد ناتجها المحلّي الإجمالي على 336 بليون دولار، وذات الباع الطويل في جهود الوساطة لتحقيق السلام في منطقتها – هي شريك مهمٌّ لأوروبا في إيجاد حلول لمواجهة التحديّات التي تتخطَّى الحدود القومية في المنطقة الأوروبية – المتوسطية. من جانبها، تهتم أوروبا بتعزيز الأمن والاستقرار في مصر التي تواجه العديد من التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن الإرهاب في سيناء، والتي تتجلّى جميعها للعيان في سياق سلطوي متفاقِم.

في دراسةٍ شاملة جديدة أجريتها للبرلمان الأوروبي بعنوان “مصر مستقرة من أجل منطقة مستقرة: التحدِّيات والآفاق الاجتماعية والاقتصادية”، درستُ بعض العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية والبيئية الرئيسة، التي قد تؤدّي إلى حالة عدم استقرار في مصر على مدى العقود الخمسة المقبلة. تطرَّقت الدراسة أيضاً إلى تحليل الجوانب الأساسية للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومصر، وقدَّمت توصيات بشأن السياسات التي يستطيع الاتحاد الأوروبي من خلالها دعم استقرار مصر وازدهارها على المدى البعيد.

الديموغرافيا والبطالة والتغيّر المناخي: خلطة منفجِرة

النمو السكاني هو أحد الدوافع الرئيسة لعدم الاستقرار في مصر خلال العقود القادمة. وحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإنَّ عدد سكان مصر سيصل إلى 150 مليون نسمة بحلول العام 2050. أما في العام 2100، فسيصل إلى رقم مذهل هو 200 مليون نسمة. لم تنجح السياسات الحكومية في مجال تنظيم الأسرة في الحدِّ بشكل كبير من النمو السكاني. يقف النمو السكاني، إلى جانب نظام التعليم الذي يشكّل عبئاً جسيماً، حجر عثرة في وجه الشباب المصري ويمنعه من مواجهة الحياة ودخول أسواق العمل. ومع استمرار النمو السكاني بهذا الشكل، سيكون من الصعب على المدن المصرية أن توفّر خدمات الإسكان والصرف الصحي والرعاية الصحيّة والتعليم.

وفي الوقت نفسه، فإنَّ آثار التغيُّر المناخي – كارتفاع درجات الحرارة والتغيُّر في أنماط المطر وارتفاع منسوب مياه البحر والزيادات المحتملة في الأحداث المناخية الكارثية – تخلق تهديدات كبيرة للمجتمعات المحلّية وللقطاع الزراعي في دلتا النيل، التي تُعتبر المصدر الرئيس لإنتاج الغذاء في مصر. أما الأراضي المنتجة للمحاصيل والصالحة للزراعة، فسوف تتعرَّض لمزيدٍ من الضغط، لإنتاج كميات أكبر من المواد الغذائية والحبوب، مما يؤدي إلى تفاقم مشكلة نقص المياه. وفي إطار مشاريع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ستؤدي الفيضانات من البحر المتوسّط في دلتا النيل، والانخفاض في الإنتاج الزراعي الذي سيترتب عن هذه الفيضانات، إلى تقليص العمالة في القطاع الزراعي. وبالتالي، فإنَّ تغيُّر المناخ في مصر يمكن أن يكون له في نهاية المطاف آثار على صحة المجتمعات المحليّة ورفاهيتها (مع زيادة خطر تعرُّضها لسوء التغذية)، وبالتالي يصبح التغيُّر المناخي عاملاً محفِّزاً للفقر والاضطرابات الاجتماعية.

اصلاحات اقتصادية طموحة، ولكن هل تستهدف الناس الذين يحتاجونها فعلاً؟

يصل متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي المصري إلى 2 في المئة سنوياً، وذلك منذ العام 2011، أي العام الذي بدأت فيه حالة عدم الاستقرار السياسي تعصف بالبلد. وفي محاولة لتشجيع النمو الاقتصادي، شرعت الحكومة المصرية في خطةٍ طموحة للإصلاح الاقتصادي بدءاً من العام 2015.

بعد عدة سنوات من النمو البطيء، هناك عدّة أسباب تدعونا إلى التفاؤل. أولاً، أدّى تعويم الجنيه المصري إلى تقييدٍ كبير للسيولة بالعملات الأجنبية، وضَبَط السوق السوداء للعملة الأجنبية. ثانياً، ساعدت الاصلاحات المالية على استقرار الإيرادات العامة. ثالثاً، من المرجَّح أن تؤدِّي التنمية المتسارعة لاحتياطيات مصر من الغاز، بما في ذلك حقل ظهر العملاق للغاز الطبيعي، إلى تحسين العجز التجاري وضمان إمدادات الطاقة المحلية خلال السنوات العشر المقبلة. ومن شأن هذا أيضاً أن يطلق سوقاً للتصدير، يحتمل أن تكون مربحة في المستقبل.

أما النتائج السلبية التي تمخَّضت عنها الإصلاحات الحالية، فكانت زيادة الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها غالبية المصريين. فرغم أنَّ تعويم الجنيه المصري قد حفَّز عودة بعض الاستثمارات الأجنبية، إلا أنَّ العملة فقدت أكثر من نصف قيمتها، مما أدَّى إلى ارتفاع حاد في تكاليف المعيشة، فوصلت أسعار الوقود والمواد الغذائية والمرافق العامة إلى مستويات غير مسبوقة. وشهد شهر يوليو 2017 ارتفاع معدَّل التضخُّم السنوي إلى 34,2 في المئة، مع ارتفاع تكاليف النقل بنسبة 36,7 في المئة، والرعاية الصحية بنسبة 24 في المئة، وتكاليف الأغذية والمشروبات بنسبة 43 في المئة. وانخفض معدَّل التضخُّم منذ ذلك الحين إلى 17 في المائة، لكنَّ الجمع بين ارتفاع التضخم، و14 في المئة من قيمة الضريبة المضافة أدّى إلى إضعاف قدرة المصريين الفقراء على شراء السلع اليومية العادية.

القمع السياسي

كما يبدو من الاعتقالات الأخيرة التي طالت عدداً من المرشَّحين الرئاسيين والشخصيات المعارِضة، فإنَّ السياسة المصرية قد شهدت عودة للسلطوية، الأمر الذي وصفته مجلة ذي إيكونومست بأنَّه “أسوأ من نظام مبارك”.

لقد انتقلت الحكومة إلى تعزيز سيطرتها على وسائل الإعلام المصرية، حيث أشارت التقارير إلى امتلاك أجهزة المخابرات حصصاً في شركات الإعلام. في العام 2016، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي إطاراً تنظيمياً جديداً للإعلام، أُنشئت من خلاله ثلاث هيئات إشرافية خاضعة لسيطرة الحكومة، وتمتلك صلاحيات واسعة في الإشراف على المحتوى والتراخيص، مع توفير القليل من الحماية للصحافة. وكان الرئيس صادقاً إلى أبعد الحدود حول نظرته عن الآراء السياسية البديلة. ففي خطابٍ متلفز قال بوضوح: “متسمعوش كلام حد غيري”.

تمرُّد سيناء

في شبه جزيرة سيناء، شنَّت جماعة أنصار بيت المقدس، المتحالفة مع تنظيم داعش، حرباً إرهابية استمرَّت عاماً ضد قوات الأمن. لطالما كانت سيناء أرضاً خصبةً للجماعات المتطرفة لتنشط وتنمو، ويرجع ذلك جزئياً إلى إهمال الحكومة للمنطقة، وعدم قدرتها على السيطرة على طبيعتها الوعرة.

تستخدم العملية العسكرية التي تجري في سيناء الآن تحت اسم “سيناء 2018″، القوة الضاربة في محاولة لاجتثاث الإرهاب في المنطقة المذكورة. أما نشر القوّات العسكرية بشكل شاملٍ في المنطقة فيستهدف كلاً من الخلايا الارهابية والمنظمات الاجرامية على حدٍّ سواء. هذا أمر جدير بالثناء، لكن لضمان نجاح الخطة، يجب الجمع بين القوة وبين إطلاق نهج إنمائي شامل طويل الأجل. فالأجهزة الأمنية تتعامل مع البدو الذين يعيشون في سيناء على أنَّهم جزء من التهديد الأمني، وهذا هو نفس الأسلوب الذي اعتمدته الحكومة خلال تاريخها الطويل في معالجة أعراض الإرهاب، بدل معالجة الدوافع الاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراءه.

العلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبي: توازن دقيق

إنَّ الجمع بين كل هذه التحديّات يعني أنَّ أي حالةٍ من عدم استقرار قد تصيب مصر في العقود القادمة، سيكون لها على الأرجح تأثير على المنطقة الأوروبية – المتوسطية. أما أولويات الشراكة الحالية بين الاتحاد الأوروبي ومصر، فتسلِّط الضوء على مخاوف أوروبا من حالة عدم الاستقرار المحتملة، وهي تغطي ثلاثة مواضيع عامة:

  • تحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل؛
  • إقامة شراكات أقوى في مجال السياسة الخارجية، مع التركيز على تحقيق الاستقرار في المنطقة المشتركة؛
  • وتعزيز الاستقرار والأمن في مصر

وفي ضوء التحديَّات الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية التي تناولتُها في الدراسة، سيكون من الصعب بشكل متزايد تنفيذ أولويات الشراكة هذه. وفي الواقع، فإنَّ سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه مصر تبدو في معظم الأحيان وكأنَّها تنتقل من أزمة إلى أخرى.

ماذا يمكن أن تفعل أوروبا

يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفعل الكثير لتعزيز استقرار مصر على المدى القريب. لكن إذا كانت أوروبا تسعى للحصول على تعاون مصر على المدى البعيد، فيجب إطلاق نهجٍ مشترك بشأن قضايا الساعة، ويجب أن يكون هذا النهج حازماً وقابلاً للقياس، مع نموٍ اقتصادي شامل ودعم لحقوق الإنسان وسيادة القانون.

ورغم أنَّ هناك بالتأكيد حدوداً لقدرة الاتحاد الأوروبي على نشر الديموقراطية في مصر، إلا أنَّ اتخاذ موقف حازم بشأن انتهاكات حقوق الإنسان والهجمات على حرية التعبير ما زال يشكّل جزءاً هاماً من تشجيع القيادة في القاهرة على النظر إلى ما هو أبعد من أمن نظامها واستقراره. والحُجَّة واضحة: فالنظام السلطوي يمكن أن يولِّد التطرُّف، بل إنّه سيولّده بالتأكيد؛ والتطرُّف له عواقب وخيمة يمكن أن تنعكس على مصر والمنطقة.

يمكن للاتحاد الأوروبي، إذا ما قام ببعض الخطوات الملموسة لصالح سيادة القانون، أن يتقدَّم بحذر على عدَّة جبهات لتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المصري، والمساعدة في تأمين مصالح أوروبية أوسع.

أولاً، يجب أن تركِّز برامج المساعدة التي يضطلع بها الاتحاد الأوروبي على دعم البرامج الاقتصادية الشاملة، التي تفيد الشباب والنساء من خلال مبادرات مثل برنامج “مرفق الاتحاد الأوروبي للنمو الشامل وخلق فرص العمل” وبرنامج الأعمال التجارية الصغيرة التابع للبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير. إنَّ زيادة الفرص التعليمية لبرامج مثل إراسموس + يمكن أن تساعد في تثقيف المزيد من الشباب المصري، وإعداده لدخول سوق العمل. كما يمكن لبرامج مساعدات الاتحاد الأوروبي، التي تركِّز على التدريب المهني أن تساعد في تخفيف الضغط على النظام الجامعي المصري، وتوفير المزيد من المسارات الوظيفية للشباب.

ثانياً، يجب على الاتحاد الأوروبي أيضا أن يدعم طموحات مصر بأن تصبح مركزاً إقليمياً للغاز. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإنَّ الظهور الجديد لمصر على ساحة إنتاج الطاقة يمكن أن يعزِّز أمن الطاقة، حيث من المتوقع أن يستمرَّ الطلب الأوروبي على الغاز في النمو مع انخفاض الإنتاج المحلي. كذلك، فإنَّ زيادة التعاون بين دول شرق البحر المتوسط والاتحاد الأوروبي يمكن أن تساعد على تعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين.

ثالثاً، يجب على الاتحاد الأوروبي دعم المبادرات الرامية إلى تطوير مصادر طاقة متجدِّدة في مصر واعتمادها. وبالإضافة إلى التخفيف من آثار التغيّر المناخي، يمكن للطاقة المتجدِّدة أن تحدَّ من ارتفاع مستويات التلوث، وهذا من شأنه تحسين صحة حياة الناس ونوعيتها، مع خفض تكاليف الرعاية الصحية المرتبطة بمعالجة الأمراض المزمنة الناجمة عن التلوث المفرط. كما أنَّ زيادة توافر مصادر الطاقة المتجدِّدة يساعد أيضاً على استقرار مصر على المدى البعيد، من خلال تزويد السكان بمصادر طاقة أكثر تجانساً واستدامة.

توحيد الصف

أخيراً، من المرجَّح أن تحقِّق مشاركة الاتحاد الأوروبي نجاحاً أكبر، في حال اتخذت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي نهجاً موحَّداً تجاه مصر. أحد الجوانب الرئيسة لضعف الاتحاد الأوروبي في التعامل مع مصر هو أنَّ كل دولة من الدول الأعضاء أقامت، على حدة، علاقات ثنائية قوية مع مصر، وهو أمر لا تزال مصر تعطيه الأولويّة على العلاقات المتعدّدة الأطراف.

هذا النهج لا يقتصر فقط على مصر، بل هو ضعف مؤسَّساتي في صياغة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وهو يؤثّر في علاقات الاتحاد بدول شمال أفريقيا ومناطق أخرى من العالم. ولكي يكون لنهج الاتحاد الأوروبي الشامل في مصر أثر أكبر، يجب زيادة التعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء. وإلى أن يحدث ذلك، ستواصل القاهرة التعامل مباشرةً مع باريس وروما وبرلين، مستثنيةً بروكسل من المعادلة.