Commentary

Op-ed

هل سيُحاكم الأسد يوماً على ما ارتكبه من جرائم؟

People inspect damage after a fuel truck exploded yesterday in the centre of rebel-held Azaz, near Syria's border with Turkey January 8, 2017. REUTERS/Khalil Ashawi
Editor's note:

تم نشر هذا المقال باللغة الانكليزية على موقع الجزيرة باللغة الإنجليزية.  

بقدر ما هو مثير أن نتخيل بشار الأسد وحاشيته ماثلين أمام المحكمة ليُحاكموا على ما اقترفوا من جرائم بشعة بحق الشعب السوري، بقدر ما يتعين علينا إعادة النظر في المسألة.

يتسم الصراع السوري بكافة السمات التي تشير إلى إنه من غير المحتمل إجراء محاكمات جنائية عادلة، حتى على المستوى الدولي. إلا أن التوثيق المستمر للانتهاكات يقدّم أساساً حاسماً لعملية تعافي حساسة ستستغرق عقوداً قبل أن تنكشف.

وتعجّ الحوارات بشأن الصراع السوري بدعوات يائسة تطلقها الجهات الفاعلة الدولية والسورية لإرساء “العدالة”.

يشير الباحث رضوان زيادة على سبيل المثال قائلاً: “تتحمل حكومة ما بعد بشار الأسد والمجتمع المدني السوري مسؤولية محاكمة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان”.

وركز العديد من هذه الدعوات بشكل كبير على العدالة في قاعة المحكمة، بخاصة محاكمة تشرف عليها جهات فاعلة دولية. إلا أنّ هذه المحاكمات ستفشل دائماً في تحقيق مبتغاها، إذ لا يمكنها أن تأخذ في الاعتبار العدد الكبير من الأفراد الذين يشكلون جزءاً من نظام راسخ ومفصّل من القمع. لن تسمح الموارد المحدودة التي تحظى بها المحكمة الدولية بمحاكمة كلّ طاغية من طغاة سوريا.

وهذا هو أحد الأسباب التي تدفع المحاكم الدولية، كالمحكمة الجنائية الدولية، إلى استهداف المجرمين رفيعي المستوى فقط – أي أولئك الذين خططوا لسياسات تسببت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وسمحوا بها. ومن جهة أخرى، تسمح المحاكمة المحلية للجرائم المرتكبة في الخارج بمحاكمة المجرمين رفيعي المستوى والعاديين.

فلنأخذ ألمانيا على سبيل المثال، فقد حقّقت مع مواطنين ألمان ارتكبوا جرائم في سوريا وحاكمتهم. إلا أن هذه المحاكمات تميل إلى استهداف الأفراد الصغار، وتترك محاكمة المسؤولين رفيعي المستوى عالقة.

قد تساعد لجان تقصي الحقائق، ومنح التعويضات، وغيرها من مبادرات المصالحة على حلّ النقص الحاصل في تحقيق عدالة الادعاءات العامة. إلا أن هذه الجهود تبقى احتمالاً بعيداً في ظلّ صراع ممتد لا يزال يحصد خسائر كبيرة ومدمّرة في الأرواح.

وفي أفضل الأحوال، من المرجّح أن تؤدي المحاكمات الجنائية الوطنية والدولية إلى عدالة صارمة ترضي فريقاً معيناً من الضحايا ومؤسسات حقوق الإنسان الدولية التي تدافع عنهم.

أما في أسوأ الأحوال، فستؤدي هذه المحاكمات إلى نوعٍ غريب من العدالة لتصفية الحسابات من دون الأخذ في الاعتبار توقعات العدالة الأكثر تعقيداً ورغبات الضحايا السوريين وأسرهم. والأسوأ من ذلك هو أنّ المحاكمات المتسرعة قد تؤدي إلى عملية عدالة انتقالية يمكن التشكيك بها.

دفع دولي “للعدالة”

ظهرت ثلاث مبادرات أشير إليها بمبادرات عدالة دولية منذ بداية الصراع السوري في العام 2011: لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، التي أسسها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 22 أغسطس 2011؛ وآلية الأمم المتحدة المشتركة للتحقيق بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة التي تأسست في العام 2015؛ والآلية الدولية الحيادية المستقلة للمشاركة في التحقيق مع المسؤولين عن أخطر الجرائم المرتكبة في سوريا ومحاكمتهم بموجب القوانين الدولية.

إلا أن نطاق هذه الآليات جميعها بقي محدوداً. فهي تحقق في الجرائم المرتكبة منذ مارس 2011 وأغفلت عقوداً من الأعمال الوحشية التي ارتكبها النظام السوري المستبد قبل اندلاع ثورة العام 2011.

كذلك، ركّزت المحاكمات في مصر وتونس بمعظمها على انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة خلال ثورتي 2010 و2011. لم تتناول الدعوات إلى إرساء العدالة طوال سنوات الربيع العربي (ربما باستثناء لجنة الحقيقة والكرامة في تونس) المظالم التي أدت إلى اندلاع هذه الثورات.

رغم أن القرار المبهج الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والذي تأسست بموجبه الآلية الدولية الحيادية المستقلة في ديسمبر 2016، يشير إلى الإمكانية المحتملة لإجراء المحاكمات الجنائية في المحاكم المحلية، إلا أنّ ذلك من المستبعد جداً حدوثه في الصراعات المحتدمة على غرار ما يدور في سوريا.

حتى في ظلّ بعض ما يُعرف بسياقات ما بعد صراعات الربيع العربي، كالسياق التونسي والسياق المصري، فشلت المحاكمات الوطنية في إرساء عدالة يرضى بها الضحايا والمحامون وممثلو المجتمع المدني الذين ضغطوا من أجل إجراءها.

فقد سيطرت على هذه المحاكمات الهيئات القضائية والنخب الحكومية الموالية للنظام القديم وتركوا قسماً كبيراً من المجتمع بين دفتي رحى عدالة مسيّسة جعلت منهم ضحيّة مرّتين.

علاوةَ على ذلك، في مذكرة أُرسِلت إلى أمين عام الأمم المتحدة في وقتٍ مبكر من هذا الشهر، أدانت 21 منظمة حقوقية فشل الأمم المتحدة في استشارة المجتمع المدني السوري بشأن تشكيل الآلية. وعلى نحوٍ أكثر أهمية، أشارت هذه المنظمات إلى أن الأمم المتحدة اقتربت من منظمات المجتمع المدني “فقط كمصادر وليس كشركاء في إرساء العدالة”.

من دون هيئة قضائية مستقلة ومؤسسات حكومية مسؤولة ومجتمع مدني قوي، ستفشل محاكمات مماثلة دائماً وستعرقل أي عملية عدالة انتقالية قد بدأت آخذةً في الاعتبار الضحايا.

سبل التقدم ورغم ما ذُكر، لا يسيطر التشاؤم كلّياً. فقد نشط المجتمع المدني السوري والضحايا السوريون جداً في توثيق سجلات مباشرة لمختلف أنواع الانتهاكات. وقد وضع السوريون قواعد بيانات تفصل الانتهاكات وسجلات الهجومات غير الشرعية، رغم البيئة العنيفة وغير الآمنة التي يعيشون فيها.

إلى ذلك، لا تزال منظمات أخرى، على غرار لجنة العدالة والمحاسبة الدولية، تحضّر ملفات قانونية تلاحق الارتكاب المخطط له للأعمال العدائية للمسؤولين الكبار في سوريا من خلال توثيق فعلي وعلى أرض الواقع للحقيقة.

وليست جهود التوثيق هذه، المدارة داخل سوريا وخارجها، مجرد مستودعات تجمع الغبار على أمل استخدامها يوماً ما كإثبات في قاعة المحكمة. إنما هي ذات قيمة عالية إذ تؤمن أساساً مصيرياً للتعافي والمصالحة والسعي وراء العدالة اليوم وكذلك في المستقبل.

إن نشر هذه الوثائق وإمكانية أن يشارك الضحايا السوريون مظالمهم وتفاصيل الرعب الذي عاشوه هو بحدّ ذاته عملية تعافي.

في الوقت ذاته، يحفظ التوثيق الروايات المتعددة والمتباينة التي تحكي الصراع وذكرى الانتهاكات ومختلف وجهات النظر القائلة بالحقيقة. نتيجة لذلك، نتأمل أن يُترجم تعايش هذه الروايات والسجلات والحقائق إلى تسامح في سوريا التي تشهد انقساماً عميقاً.

يمكن للضحايا من جانبي الصراع أن يشاركوا مباشرةً في المحافظة على روايات تحوّلهم إلى ضحايا من دون الحاجة إلى انتظار انتهاء الصراع. ولا بد أن يُترك للشعب السوري القرار بترجمة جهود التوثيق إلى عدالة الادعاءات العامة. ولكن أولاً، سيكون الاعتراف بمختلف سجلات الضحايا السوريين والجناة كذلك ضرورياً للمساعدة على تقريب سوريا من عدالة مصمّمة في الداخل بدلاً من عدالة تسقطها آليات دولية تعاني قصر بصرٍ شديدٍ من موقعها.