Commentary

Op-ed

السنة التي تدهور فيها الربيع العربي

في الأيام العنيفة من التعبئة الجماهيرية السلمية (نسبياً) التي أسقطت ديكتاتور تونس ومصر، كان شعار المراقبين الأمريكيين في عام 2011: “حانت الآن الفترة الصعبة.” وقد حانت في عام 2012، ولكن بطريقة انتقامية.

لكني أتوقع أن العديد من مراقبي تطورات الربيع العربي لم يعتقدوا حقاً أن هذا العام سيكون دموياً أو محفوفاً بالمخاطر كما اتضح. لقد كانت حالات الانتقال إلى الديمقراطية في أوروبا الشرقية بعد عام 1989 سريعة جداً وناجحة جداً. أما التحولات في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين فكانت لها خلفيات طويلة ومضطربة، ولكن فور تأسيس النظم الديمقراطية، تحولت معظمهما إلى حالات مستقرة وسلمية. فلماذا يختلف العالم العربي؟

هناك سببان أساسيان. خلافاً لما حدث في تلك الأجزاء الأخرى من العالم، فإن العديد من البلدان في الشرق الأوسط تفتقر إلى تاريخ طويل من الوحدة السياسية: فليبيا، ولبنان، وسوريا، والأردن، والعراق، والمملكة العربية السعودية، واليمن كلها كيانات حديثة نسبياً؛ حدودها مصطنعة وسكانها منقسمين على أسس طائفية وعرقية وإقليمية.

علاوة على ذلك، لا يوجد توافق في الآراء بشأن القضايا السياسية الأساسية في العالم العربي. ففي أوروبا الشرقية بعد الحرب الباردة، كما أشار فرانسيس فوكوياما بامتياز، لم تكن هناك أيديولوجية سياسية جادة بديلة للرأسمالية الديمقراطية. لكن الأمر مختلف في الشرق الأوسط. هناك أغلبية من الناس، أو على الأقل جمع كبير منهم، في هذه البلدان يقولون الآن “الإسلام هو الحل” لمشكلاتهم، لكنهم يواجهون معارضة على نفس القدر من الحدة. وقد أظهرت هذه السنة مدى قوة الصراع الذي يمثله هذا المزيج من الصراع الأيديولوجي والمجتمعات المنقسمة.

إليك نظرة على العثرات التي أفسدت أكثر التكهنات تفاؤلاً حول الربيع العربي في عام 2012 وما زالت تلوح بصورة كبيرة في عام 2013.

الدول الضعيفة والمجتمعات المنقسمة

لطالما عانت بعض الدول العربية دائماً من الحكومات الضعيفة. وقد وصلت إلى هذا المستوى بطرق مختلفة: فاليمن تعرقلت بسبب نقص الموارد، وظلت الدولة اللبنانية ضعيفة بسبب اتفاق النخب فيها ثم بسبب الحرب الأهلية، وليبيا في عهد معمر القذافي كانت ضحية تجربة سياسية غريبة في الحكم المباشر. ومع ذلك، فإن عواقب ضعف الدولة- أي تعزيز القبلية، والطائفية، وغيرها من الهويات الفرعية داخل الدول، وتآكل سيادة القانون- متشابهة إلى حد كبير.

الدولة السورية تعاني الآن من نفس المصير، حيث تلتهمها الحرب الأهلية، والانشقاق، والضعف الاقتصادي. لا شئ من هذا غير مألوف تماماً، فقد اعتادت تلك الدولة أن تكون عنواناً صارخاً لعدم الاستقرار السياسي العربي. بين عامي 1949 و 1970، شهدت تسعة انقلابات عسكرية مع فترة وجيزة من الاندماج مع مصر. ولكن عقب تولي حافظ الأسد السلطة، فإنه فرض استقراراً قاتماً رغم أنه كان في كثير من الأوساط محل ترحيب. لقد حافظ على حكمه من خلال سياسة واقعية صريحة، وخاصةً بناء جسور مع طبقة رجال الأعمال من السُنّة والسحق الوحشي لانتفاضة الإخوان المسلمين في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. كانت الدولة غير فعالة وفاسدة، لكنها أتاحت قدراً من النظام، وتوقفت سوريا عن كونها الملعب الذي تتدخل فيه القوى الخارجية، وأصبحت لاعباً دولياً في حد ذاتها.

يبدو أن فترة القتال التي دامت عامين تقريباً قد عكست المكاسب التي حققها حافظ الأسد في بناء الدولة. فالخدمات العامة إما أنها انهارت أو امتدت إلى نقطة الانكسار. كما انهار القانون والنظام. ينظر السوريون إلى مجتمعاتهم الطائفية من أجل الأمان وليس من أجل الدولة، هذا إن لم يكونوا يفرون من البلاد.

إن المشكلة، بالطبع، ليست مقتصرة على سوريا. فالقبلية والإقليمية والطائفية تجعل التقدم السياسي في اليمن بطيئاً للغاية، كما هو الحال مع الانقسامات القبلية والإقليمية في ليبيا. حكام البحرين يستغلون مخاوف إخوانهم في العقيدة، أي الأقلية السُنّية، في وجه الأغلبية الشيعية لتقسيم المعارضة وترسيخ سيطرتهم في البحرين.

هذه الهويات الفرعية داخل الدول في الدول الضعيفة تتسبب في ظهور حلقة مفرغة. فالحكومات الجديدة، حتى تلك المنتخبة بحرية، تجد قدرتها على الحكم محدودة للغاية. إنها لا تملك بيروقراطيات عاملة في سبيل تنفيذ السياسات. لقد كافحت ليبيا لإعادة بناء قوات الشرطة والجيش في مواجهة الميليشيات التي تكون، في كثير من الحالات، أفضل تسليحاً، وأفضل تمويلاً، وأفضل تنظيماً من قوات الدولة. في اليمن، انقسم الجيش نفسه على طول الخطوط الحزبية.

في ظل ضعف سلطة الدولة المركزية، أصبحت هذه البلدان ملاعب للتنافس الإقليمي. فالجهات المحلية الفاعلة تدعو الأجانب للتدخل، وتتطلع إليهم بحثاً عن المال والسلاح والدعم السياسي. كما أن تركيا، والمملكة العربية السعودية، وإيران، وقطر كلها تلعب في سوريا والعراق. والمملكة العربية السعودية وإيران على حدٍ سواء تدعمان الفصائل في لبنان. ما زال السعوديون اللاعبون الاحتكاريون في اليمن والبحرين، رغم أنهم يحذرون بتكتم من التدخل الإيراني في كلا البلدين. وغني عن القول إن مثل هذه الحروب بالوكالة تُضعِف سلطة الدولة المركزية.

الربيع الإسلامي

مصر وتونس لا تعانيان من حالة الدول الضعيفة والمجتمعات المنقسمة، وبالتالي لا تزال لديهما أفضل فرصة من بين كل دول الربيع العربي لإقامة ديمقراطيات مستقرة. ومع ذلك، فإن تطورات هذا العام ألقت وجعاً في خطط البلدين حيث أن وحدة المعارضة العنيدة للنظام القديم أفسحت المجال لمعارك منهكة حول مستقبل البلاد. كانت تلك المعارك في معظمها سياسية وانتخابية، وخطابية، وذلك رغم وجود حلقات مقلقة من العنف في كلا البلدين. إن خطوط المعركة الأيديولوجية في هاتين الدولتين واضحة بشكل استثنائي: والسؤال الأساسي لكليهما هو ما الدور الذي سيلعبه الإسلام في النظام الجديد بينما يفوز الإسلاميون حتى الآن.

في كلٍ من مصر وتونس، فإن عملية كتابة دستور جديد ساهمت في حدوث حالة استقطابية في المجتمع. فالعروض الانتخابية القوية أعطت الأحزاب الإسلامية اليد العليا في عملية كتابة الدستور. هناك عدد أكبر من القوى العلمانية- التي تضم بعض القوى الليبرالية، وبعض القوى المتوافقة تماماً مع النظم الاستبدادية القديمة- تعارضها بقوة، ولكن يبدو أنها غير قادرة على حشد ما يكفي من الدعم في المجتمع لمنع مشروعات الإسلاميين الدستورية.

إن الاضطراب يزداد سوءاً. فقد شهدت القاهرة والإسكندرية ومدن مصرية أخرى مواجهات عنيفة بين مؤيدي ومعارضي الرئيس محمد مرسى وصولاً إلى الاستفتاء. وفي تونس، في الوقت نفسه، شارك السلفيون في عدد من أعمال العنف ضد خصومهم المحليين.

لسنا هنا في مجال النقاش حول الدساتير نفسها، على وجه التحديد. فلا توجد حالة من الحالتين (مصر وتونس) تكون فيها المواد الدستورية كلها راديكالية التوجه، ولا توجد دولة من الدولتين على وشك أن تصبح إيران أو المملكة العربية السعودية. ينص كلا الدستورين على النظم الديمقراطية، والحرية الدينية، والحرية الشخصية، وإن كان في ظل دور أكبر، وغير محدد إلى حد ما، للإسلام ومؤسساته. لعل الاختلاف الأكثر أهمية بينهما هو أن الدستور المصري المقترح يحافظ على رئاسة قوية، في حين يدعو المقترح التونسي إلى نظام برلماني. علاوة على ذلك، هذا اختبار لقوة الإسلاميين- الذين صعدوا بعد الفوز في انتخابات 2011 و 2012- وخصومهم الأكثر علمانية.

بينما يلفت الانقسام الإسلامي-العلماني في مصر المزيد من الاهتمام في الولايات المتحدة، فإن الدراما الأكثر أهمية بالنسبة لمستقبل الديمقراطية في المنطقة ربما تحدث في تونس. جاءت أهم الانتقادات للمشروع الدستوري التونسي من جانب الحركة السلفية التي تريد نظاماً إسلامياً أكثر وضوحاً. فحزب النهضة، الذي له جذور إخوانية وفاز بالأغلبية في انتخابات عام 2011 في الجمعية التأسيسية، خفف من وطأة الموضوعات الإسلامية في محاولة لكسب تأييد العلمانية. ولكن على عكس السلفيين في مصر، ما زال إسلاميو تونس المتشددين يرفضون السياسات الديمقراطية، فقد ألحوا على قضيتهم من خلال احتجاجات الشوارع والعنف، بما في ذلك هجوم شهر سبتمبر 2012 على السفارة الأمريكية وعلى مدرسة أمريكية في تونس. إذا كان باستطاعة السلفيون التونسيون إفشال التجربة الدستورية في تونس، فإن آفاق الديمقراطية المستقرة تبدو قاتمة.

بعد ظهور نسخة أكثر تشدداً عن الإسلام، فإن دور السلفيين سوف يؤثر بشكل كبير على مستقبل التحولات السياسية في أرجاء العالم العربي. تاريخياً، رفضوا السياسات الديمقراطية باعتبارها ابتكاراً غربياً يتعارض مع اعتقادهم أن الله، وليس الإنسان، هو المُشرّع. كما أنهم يحققون نتائج جيدة في الانتخابات، كما هو الحال في مصر والكويت. ويتضاعف نفوذهم في الحروب الأهلية، حيث من المرجح بشكل غير متناسب أن ينضموا للقتال، كما هو الحال في سوريا والعراق. لكن الربيع العربي شهد انشقاقاً في الحركة، حيث أن بعض السلفيين على استعداد للمشاركة في السياسة الانتخابية وغيرهم مستمرين في رفضها. وبينما نحن في الغرب قلقون حول ما إذا كان العلمانيون يمكنهم التأثير في مسار التحولات السياسية في العالم العربي، ربما يكون السؤال الأهم ما إذا كان يمكن توظيف السلفيين في سبيل مستقبل ديمقراطي.

السياسة الأمريكية

دعونا نكون صادقين مع أنفسنا: إذا كانت مفاتيح الاستقرار والتنمية الديمقراطية في العالم العربي مرتبطة ببناء الدولة وبالنقاش الأيديولوجي داخل أوساط الحركات الإسلامية، فليس هناك الكثير الذي يمكن للولايات المتحدة القيام به لمساعدة هؤلاء العمليات على الاستمرار. أظهرت واشنطن في العراق أنها أكثر مهارة على تدمير الدول من بنائها. وحتى لو أردنا ذلك، فإن جيشنا المترامي والموارد المستنزفة تعني أن أولويات الولايات المتحدة ينبغي أن تكمن في مكان آخر في الوقت الراهن. فالولايات المتحدة ليس لديها الكثير لتساهم في النقاش الإسلامي الداخلي بين اتجاهات الإخوان والسلفيين بخصوص مدى ملائمة الديمقراطية.

لا توجد منطقة في العالم العربي تبدو فيها عدم قدرة أمريكا على التأثير بشكل حاسم في اتجاه التطورات السياسية الداخلية أكثر وضوحاً من سوريا. فنحن لا نملك رصيداً من المشاركة الوثيقة سواء مع الجيش السوري أو المجتمع السوري. الداعون الأكثر عدوانية للتدخل يريدون فرض منطقة حظر جوي وزيادة الدعم الأمريكي لقوى المعارضة، بما في ذلك توريد الأسلحة مباشرة. ولكن هل منطقة الحظر الجوي- التي ستتحول بسرعة إلى اشتباكات مباشرة مع القوات السورية- ستوفر للولايات المتحدة أي تأثير على سوريا ما بعد الأسد أكبر من تأثيرها على ليبيا ما بعد القذافي؟ هذا مشكوك فيه. ولو أخذنا على عاتقنا مهمة تسليح المتمردين، فهل يمكننا أن نفصل بثقة بين “العلمانيين الأخيار” وبين “الجهاديين الأشرار”؟ لا أرى أي سبب للثقة في هذا الشأن، حيث أن أولئك الذين يتلقون الأسلحة لديهم حافز هائل لإخفاء ميولهم الحقيقية عن المناصرين المحتملين.

إن أفضل ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة هو السماح باستمرار الربيع العربي كما هو. بينما تؤثر التشنجات في الشرق الأوسط بالتأكيد على مصالح الولايات المتحدة، فإنها تضرّ مباشرةً اهتمامنا الاستراتيجي الرئيسي- أي التدفق الحر للنفط- أو علاقتنا مع إسرائيل. من المؤكد أن الدول الضعيفة والفاشلة مصدر قلق جدي لمكافحة الإرهاب، كما أن القاعدة وشركائها متأكدين من محاولة الاستفادة من الحرب الأهلية لإحياء علامتهم التجارية المحتضرة (انظر: بنغازي). أما هؤلاء الراديكاليون فليسوا على وشك السيطرة على أي من الدول، والحكومات الجديدة في العالم العربي سوف تعتبر الجهاديين بالتأكيد مصدر تهديد بمجرد وقوف الحكومات على أقدامها من جديد.

ربما لا يكون الربيع العربي قد حقق حتى الآن التوقعات المتجسدة في تلك المظاهرات العارمة في ميدان التحرير، ولكنه لم يتحول إلى تهديد حقيقي للولايات المتحدة. لدينا علاقات جيدة مع اللاعب العسكري الأقوى في المنطقة، أي إسرائيل؛ ومع أغنى دولة عربية، أي المملكة العربية السعودية؛ ومع تركيا، تلك الدولة التي تمكنت من أن تكون إسلامية وديمقراطية وتلعب دوراً أكبر من أي وقت مضى في المنطقة. وفي ظل موقف أمريكا الاستراتيجي الذي لا يزال قوياً وقدرتنا المحدودة للغاية على التأثير في اتجاه السياسة الداخلية في العالم العربي، فإن أفضل نصيحة نسديها لإدارة أوباما هي إبعاد يدها عن هذا الجزء المضطرب من العالم.