المقدّمة

طرحت أزمة فيروس كورونا المستجدّ امتحاناً صعباً على الدول العربية التي تواجه أصلاً تحديات حوكمية ومؤسّساتية قبل بروز الجائحة. وقد وصلت أنظمة الرعاية الصحّية والاقتصادات لدى معظم الدول العربية إلى أقصى حدود قدراتها. وفيما باتت الدول الهشّة والمتأثّرة بالصراعات منكشفة بشكل كبير، حتّى الدول المستقّرة ذات الدخل الأعلى في المنطقة تأثّرت إلى حدّ بعيد.

في 16 يونيو 2020، أقام مركز بروكنجز الدوحة وكلّية السياسات العامة في جامعة حمد بن خليفة ورشة عمل مشتركة عبر الإنترنت لمناقشة الحوكمة في المنطقة العربية وما الدروس التي يمكن استقاؤها من الاستجابات لأزمة فيروس كورونا المستجدّ. وضمّ المشاركون في ورشة العمل عدداً من الخبراء المرموقين الذين يعملون في الجامعات ومراكز البحوث والمنظّمات الدولية. وبحث هؤلاء الخبراء في الطريقة التي كشفت فيها الجائحة عن مشاكل الحوكمة في المنطقة العربية وزادت من حدّتها، وبحثوا أيضاً في الطريقة التي قد تؤمّن فيها الأزمة فرصة لصانعي السياسات العرب والمجتمع الدولي لإعادة التفكير في الاستجابات المؤسساتية والتغلّب على شوائب الحوكمة.

في مجموعة المقالات هذه، يُبدي المشاركون في ورشة العمل آراءهم حول مجموعة من المسائل المؤسّساتية والحوكمية التي تواجهها المنطقة العربية ويطرحون التوصيات حول طريقة معالجتها مع استمرار الجائحة. وتتطرّق هذه المقالات إلى مسائل الثقة والفساد والإصلاح والشمولية وتقدّم آراء ملفتة حول الوضع الراهن في المنطقة وحول الخطوات التي يمكن اتّخاذها لتحسين المؤسّسات والحوكمة في الأشهر المقبلة.

فيروس كورونا المستجدّ أكّد الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد واضحة

المؤلّفان: عادل عبد اللطيف، نائب مدير المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ وإيلين هسو، باحثة في المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي

أحرزت الدول العربية تقدّماً لافتاً في مؤشرات الصحّة في العقود الأخيرة، وظهر ذلك في متوسّطات أطول للعمر المتوقّع وتغطية أوسع لتلقيح الأطفال ومعدلات أدنى لوفيات الأمهات والرضّع. لكنّ جائحة فيروس كورونا المستجدّ وضعت القدرات الصحّية للحكومات العربية قيد الاختبار الفعلي، فكشفت عن تصدّعات في جهوزيّتها وبيّنت غياب خطط الصحّة العامّة الوطنية للاستجابة للطوارئ من أجل التعامل مع الأوبئة أو الجائحات، حسب ما أظهره مؤشّر الأمن الصحّي العالمي. فما إن حطّ فيروس كورونا المستجدّ رحاله، لم تتمكن الحكومات العربية (مع بعض الاستثناءات، على غرار الدول الخليجية والأردن) من اللجوء إلى التنسيق المتين بين الوزارات ولا إلى مجتمع مدني ناشط للوصول إلى استجابة تطال الحكومة بأسرها والمجتمع بأسره.

وواجهت الدول العربية صعوبة أيضاً في تقييم الأثر الاجتماعي الاقتصادي لأزمة فيروس كورونا المستجدّ ولمعالجته، مما طرح الشكوك حول قدرتها على استيعاب الصدمات، أبيئية كانت أم عالمية أم مجتمعية. وأفضت هذه الركاكة المؤسّساتية، التي يمكن عزوها إلى الاستثمار غير الملائم في الخدمات الاجتماعية الأساسية، إلى قدرات ضعيفة على تقديم الوظائف الجوهرية وقابلية للانهيار عندما تحلّ الصدمات والأزمات وتعافٍ بطيء وتدهور العلاقات بين الدولة والمجتمع. وتشكّل الهيكليات الحكومية عقبة أخرى لأنها شديدة المركزية ورديئة الرقمنة. ويمكن تحسين عملية تقديم الخدمات عبر نقل صلاحيات صناعة القرارات واعتماد التكنولوجيات الرقمية، بما في ذلك في نظام الرعاية الصحّية حيث تؤدّي السجلات الطبّية الرقمية دوراً حاسماً في المراقبة الوبائية.

وتشكّل شبكات الأمان الاجتماعي في المنطقة مثالاً على الأهمّية التي تحظى بها نوعية الاستثمارات الحكومية في الخدمات الاجتماعية. فعلاوة على أنّ الحماية الاجتماعية مجزّأة، هي غالباً ما تعجز عن تغطية الشرائح الأكثر هشاشة، على غرار العاملين غير الرسميين والشباب والنساء العاطلين عن العمل واللاجئين، فتتركهم في وضع حسّاس في خلال أزمة مثل جائحة فيروس كورونا المستجدّ. ومع أنّه من المبكر جداً تحديد الكلفة الاجتماعية لعمليات الإغلاق الكامل المطبّقة في أرجاء المنطقة ابتداء من أواسط مارس، أصبح لدينا بعض المؤشّرات على أنّ الأسر من الطبقتَين الفقيرة والمتوسطة تخسر سبل عيشها وتتراجع إلى ما دون خطوط الفقر في الكثير من الدول العربية. في غضون ذلك، نسبة 10 في المئة العليا من البالغين، الذين يُقدّر أنّهم يملكون 76 في المئة من الثروة، تستمرّ في العيش بدون أي تأثّر يُذكر، ممّا يشير إلى أنّ أوجه عدم المساواة في ازدياد بشكل ستصبح الرجعة فيه غير ممكنة في المستقبل المنظور.

ومع انقطاع خطوط الحياة المعتادة كافة، من التحويلات من الخارج إلى الاستثمار الأجنبي المباشر والمساعدات الإنمائيّة الرسمية، تواجه الدول العربية خيارات تمويل ضئيلة وعليها اللجوء إلى المصادر المحلّية، التي كانت تاريخياً شحيحة بسبب القدرات الضعيفة على فرض الضرائب. لكن من السهل على المرء أن يتصوّر كيف أنّ تحسين الجباية الضريبية والعمل على إصلاح ضريبي أشمل في هذه المرحلة لن يؤدّيا إلّا إلى المزيد من هروب الرساميل وتأجيج مقاومة شعبية شرسة. ويتوقّع تقرير آفاق الاقتصاد الإقليمي من صندوق النقد الدولي انكماشاً بنسبة 5,7 في المئة في العام 2020، وهو الأكبر منذ خمسين عاماً، ممّا يشير إلى أنّ المنطقة، المحطّمة أصلاً بفعل الصراعات والأزمات، قد دخلت في نفق أطول وأكثر سواداً لا يمكنها الخروج منه إلّا بتغيير جذريّ في الحوكمة، ممّا يؤدّي إلى عقد اجتماعي جديد. بهذه الطريقة، تشكّل جائحة فيروس كورونا المستجدّ دعوة أخرى للتغيير في العالم العربي وفرصةً لاعتماد سياسات اجتماعية أكثر شموليّة ولإصلاح المؤسّسات على أساس المساءلة ولبناء اقتصادات أكثر استدامة.

هل فيروس كورونا المستجدّ في المنطقة العربية نعمة أم نقمة للإصلاح؟

المؤلّف: روبرت بيشيل، زميل أول غير مقيم في مركز بروكنجز الدوحة

تشير البيانات الطبّية الخاصّة بالمنطقة العربية إلى نوع من التضارب. فمع أنّ سياسات الاستجابة لفيروس كورونا المستجدّ لم تختلف كثيراً بين دولة وأخرى، كان الاختلاف في النتائج في هذه المرحلة كبيراً. وفيما اختلفت السرعةُ التي استجابت فيها الدول العربية للوضع ونوعيةُ التنفيذ بشكل طفيف، بادرت كلّها إلى إغلاق الحدود والتباعد الاجتماعي والحجر الصحّي والبقاء في المنازل وإغلاق الخدمات غير الضرورية وتأمين الإمدادات اللازمة. بيد أنّ عدد الوفيات للفرد الواحد بسبب فيروس كورونا المستجدّ، وهو مؤشّر جيّد لتفشّي الفيروس ولنوعية نظام الرعاية الصحّية على حدّ سواء، اختلف بشكل لافت.

فقد واجهت دول مجلس التعاون الخليجي صعوبة لاحتواء الفيروس، علماً أنّه من المتوقّع أن تبلي هذه الدول أداء حسناً نسبياً تبعاً لأيّ قياس من مقاييس فعالية الحكومة الإجمالية أو الإنفاق على الرعاية الصحّة أو الجهوزية للتعامل مع الجائحة. فحتّى لحظة كتابة هذا التقرير، سجّلت الكويت معدّل وفاة يبلغ 113,8 شخص في المليون، تليها عمان بمعدّل 104,4 والسعودية بمعدّل 92,9 ثمّ قطر بمعدّل 65,3 فالإمارات العربية المتحدة بمعدّل 36,1. في المقابل، كانت الدول ذات الدخل المتوسّط هي التي سجّلت أفضل المعدّلات، وبالتحديد الأردن وتونس، مع معدل أعلى بقليل من وفاة واحد في المليون للأولى ونحو 4,4 للثانية، وهذان رقمان يقارعان الأرقام المسجّلة في أستراليا وكوريا ونيوزيلندا.

من غير الواضح سبب الاختلاف الكبير في هذه المسارات. فقد عمد الأردن بسرعة إلى تطبيق إغلاق تام، وكانت قدرته على فرص التباعد الاجتماعي وزيادة أعداد الفحوص لأعداد كبيرة من المواطنين الضعفاء ملفتة للغاية. بيد أنّ دولاً أخرى، على غرار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لجأت بدورها إلى استجابات قوية لكنّها تشهد معدّلات وفاة أعلى بعدّة أضعاف. من الممكن أن يكون السبب أنّ مجلس التعاون الخليجي مندمج أكثر بكثير في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك بؤر أولية لفيروس كورونا المستجدّ مثل الصين وأوروبا وإيران، وأنّ ذلك قد سمح للفيروس بالتفشّي بدون كشفه. ففي العام 2019 مثلاً، كان مطار دبي المطار الرابع الأكثر ازدحاماً في العالم، فقد سجّل حركة مسافرين تفوق مطار الملكة علياء الدولي في عمان بعشرة أضعاف. وقد يكون السبب أيضاً أنّ في الكثير من دول مجلس التعاون الخليجي قوى عاملة أجنبية ضخمة تعيش في ظروف مكتظّة يصعب فيها تطبيق التباعد الاجتماعي، أو قد تكون مسألة نقص في الإفادة عن حالات الإصابة في عدّة دول. أما الفرضية الأكثر إقلاقاً فهي أنّ هذه الدول ما زالت في بدايات الجائحة، ولم تشهد دول مثل مصر والمغرب ولبنان بعد زيادات كبير في الإصابات والوفيات.

لقد أدّت الجائحة إلى تحسينات في نوعية التنسيق ضمن الحكومات، وهذه مشكلة مزمنة في المنطقة العربية حيث يشكّل انعزال الوزارات عن بعضها ودفق المعلومات العمودي المعيارَ الساري. وطوّرت عدّة دول أيضاً حلولاً تقنية إبداعية في مجالات مثل اقتفاء أثر مخالطي المرضى. ويمكن أن تسرّع الجائحة الجهود لنقل المزيد من الخدمات الحكومية إلى الإنترنت. وقد تشكّل الجائحة فرصة تعلّم ثمينة ودافعاً مفيداً للإنفاق والخدمات الصحّية المحسّنة في المنطقة العربية، ولا سيما في المناطق الداخلية الريفية. وقد تمنح حتّى الدول العربية الحافز والإرادة السياسية اللازمَين لاعتماد إصلاحات طال انتظارها في الإدارة والسياسات تستهدف المجتمعات الضعيفة وتحميها بشكل أفضل مع الحدّ من حضور القطاع العام في أسواق العمل. وبالاستيحاء من مكيافيلي، سيكون من المؤسف لصانعي السياسات العرب عدم الاستفادة من أزمة جيدة.

على الحكومات العربية تعزيز الحوكمة الشاملة في خلال جائحة فيروس كورونا المستجدّ

المؤلّفة: بسمة المومني، أستاذة في قسم العلوم السياسية في جامعة واترلو

في خضم الجائحة، أُرغِمت الدول العربية على مواجهة الانهيار العالمي في أسعار النفط وتراجع الريوع وتحويلات العمّال وتراجع في الاستثمارات والمساعدات الأجنبية. وفي الوقت عينه، تواجه هذه الدول مطالب سياسية واجتماعية متزايدة من شعوب شابّة نسبياً تنشد الوظائف اللائقة والازدهار الاقتصادي والحكومات الخاضعة للمساءلة. وفي منطقة يُبدي فيها المواطنون ثقة عامة منخفضة بمسؤوليهم وسلطاتهم، سينبغي على الحكومات وصانعي السياسات إبداء المزيد من الانتباه إلى مطالب شعوبهم.

وسينبغي على الحكومات العربية تقديم المزيد من الخدمات الاجتماعية لمواجهة الضائقة الاقتصادية، حتى مع تراجع عائدات الحكومة باستمرار. وعليها أيضاً أن تكسب دعماً واسع النطاق لتطبيق سياساتها. فإن عجزت الحكومات عن تلبية حاجات المواطنين وكسب دعم مجتمعي واسع لسياساتها، يمكنها أن تواجه المزيد من التحديات السياسية لحكمها، بما في ذلك التظاهرات الشعبية والاحتجاجات والإضرابات العمالية وتحدّ صريح لقوانين السلطات. وفي فترات الأزمة، قد لا يكون اعتماد مقاربة شاملة وتعاونية في صناعة السياسات أمراً سهلاً، لكنّه حاسم للحرص على أنّ الاشتباكات حول موارد الدولة المتضائلة لا تتحول إلى مواجهة صريحة.

علاوة على التواصل السياسي المستمر والفعّال مع المواطنين، تتطلّب الحكومة الشاملة والتشاركية الانخراط مع المجتمع المدني والمجموعات الشبابية والأحزاب السياسية والمجموعات العمالية والنقابات المهنية لرسم مسار للسير قدماً للاقتصادات والمجتمعات العربية. وعندما يُمأسَس التعاون على المستوى الوطني، سواء أعبر الخطابات الوطنية أم المساومة أم المناظرات العامة، يمكن تحقيق دعم سياسي أفضل ويمكن تطبيق السياسات بفعالية أكبر.

ولبناء الثقة الشعبية وترسيخها، الشفافية وقدرة المساءلة عنصران حاسمان. تشكّك الجماهير العربية عن وجه حقّ في محاولات الشفافية السابقة التي اعتمدتها حكوماتها، ولا سيما في ما يخص الأموال العامة والماليات الحكومية. ولكي تطلب الحكومات العربية من المواطنين تحمّل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية المتوقّعة الناتجة عن هذه الجائحة العالمية، سينبغي عليها أن تُبرز لمواطنيها القيود المفروضة على درّ الإيرادات وتخصيص الماليات الوطنية. فأيّ سياسة يقع الاختيار عليها تتطلّب مقايضات، وسيكون من المهم للحكومات أن تشرح المنطق الذي دفعها لاعتماد خياراتها. فالطبيعة الحرجة للجائحة والركود الاقتصادي العميق الذي ستسبّبه على الأرجح يفرضان أنماطاً جديدة من الحوكمة.

وللمحافظة على زخم الاقتصادات في فترة فيروس كورونا المستجدّ، سينبغي على الحكومات بناء ثقة مواطنيها وكسبها. ومن شأن زيادة ظهور السلطات الصحّية التي يمكنها التواصل بفعالية مع الناس لبناء الثقة والامتثال والدعم أداةً أساسية في متناول الحكومات العربية. وغالباً ما يكون من المغري اللجوء إلى القوى الأمنية لتطبيق إرشادات الصحّة العامة هذه لكنّ ذلك سيزيد من مخاوف الشعب من فقدان حقوقه المدنية. ففي منطقة سبق أن شهدت أحداث الربيع العربي البارزة وحيث تبقى الثقة الشعبية بالحكومات منخفضة، من غير المحبّذ منح المزيد من القدرة للأجهزة الأمنية على غرار الجيش والشرطة وسلطات الاستخبارات لكي تُناط بتطبيق إرشادات الصحّة العامة. عوضاً عن ذلك، بإمكان الحكومات العربية الاستفادة من الجائحة لوضع مسار سياسي اقتصادي جديد مع مواطنيها، لكن لا يمكنها ذلك إلا إذا أخذت على عاتقها القيام بمهمة صعبة، ألا وهي بناء إجماع وثقة وقدرة مساءلة واسعة النطاق.

فيروس كورونا المستجدّ يمكن أن يشكّل فرصة للحكومات العربية لإعادة بناء الثقة

المؤلّف: مايكل روبنز، مدير مشروع، الباروميتر العربي

فيما تراجعت الثقة بالحكومة بشكل كبير في أرجاء المنطقة العربية على مدى العقد المنصرم، تقدّم أزمة فيروس كورونا المستجدّ إمكانية للحكومات لإعادة ترتيب الأوضاع. ففي الفترة التي بدأ فيها الباروميتر العربي بإجراء استطلاعات رأي عامة وطنية التمثيل في المنطقة منذ العام 2006، كانت الثقة بالحكومة في أوجّها في خلال ثورات الربيع العربي في العام 2011، مع نسبة 53 في المئة. وفيما تُرجمت التغيّرات السياسية في دول مثل تونس بدعم واسع للحكومة، كان مستوى الثقة مرتفعاً حتّى في دول مثل الأردن، الذي لم يشهد أيّ تغييرات في خلال الثورات.

Arabic graph

بحلول العام 2018، كانت الثقة قد تراجعت في أرجاء المنطقة إلى 34 في المئة فقط. وكان التراجع الأبرز في تونس حيث انخفض مستوى الثقة من 42 إلى 20 نقطة فقط، إذ يبدو التونسيون محبطين أكثر فأكثر من فشل حكومتهم المستمرّ في معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى الثورة في العام 2011. بيد أنّ الثقة تراجعت أيضاً في الدول التي لم تشهد تغييراً يُذكر نتيجة الثورات العربية. فعلى سبيل المثال، بلغ التراجع في الأردن 34 نقطة على مدى الفترة عينها ليصل إلى 38 في المئة. باختصار، أدّى عجز الحكومات على مختلف أشكالها في المنطقة عن معالجة المشاكل الأساسية، على غرار الفساد والأوضاع الاقتصادية، إلى أزمة ثقة سياسية.

وعندما أصبح فيروس كورونا المستجدّ مصدر قلق كبيراً في المنطقة العربية، باتت الحكومات مرغمة على اتّخاذ قرارات صعبة. وتشير الأدلّة المُحصّلة من أرجاء العالم إلى أنّ الحكومات التي اتّخذت خطوات قوية للحؤول دون تفشّي الفيروس، حتّى على حساب الصحّة الاقتصادية، لاقت استحسان مواطنيها. في غضون ذلك، سجّلت الحكومات التي عجزت عن حماية مواطنيها عبر الحدّ من عدد حالات الإصابة بالفيروس والوفاة بسببه مستوى ثقة أدنى.

وبغضّ النظر عن نوع النظام، تعتمد شرعية الحكومة في جزء كبير منها على القدرة على تحسين ظروف المواطنين العاديين. وقد منحت جائحة فيروس كورونا المستجدّ فرصة واضحة للحكومات لتبرهن على قدرتها على حماية أرواح الناس. مثلاً، حدّت الإجراءات الحاسمة التي اتّخذها الأردن عبر إغلاق حدوده وإغلاق البلاد وتأمين الحاجات الأساسية لمواطنيه من تفشّي فيروس كورونا المستجدّ وبيّن جدارة الحكومة. وأخذت دول أخرى، مثل المغرب ولبنان وعدّة دول في مجلس التعاون الخليجي، خطوات حاسمة، من ضمنها فرض الإغلاق الكامل ووقف المواصلات الدولية. ومن المرجّح أن تلقى هذه الجهود الأولية استحسان مواطني هذه الدول. لكنّ دولاً أخرى مثل العراق لم تتّسم أبداً بالفعالية ذاتها في العثور على سبلٍ للحدّ من تفشّي الجائحة أو تحسين تداعياتها، مما يعني أنّ الثقة بالحكومة ستنخفض على الأرجح.

بالإجمال، من غير المرجّح أن تدوم الآثار الإيجابية المحتملة للجائحة على الثقة في دول مثل الأردن والمغرب ولبنان إن لم تتمكّن حكوماتها من معالجة التحديات القائمة التي تواجهها مجتمعاتها منذ زمن. ففي لبنان مثلاً، قوّض بشكل واضح فشلُ الحكومة في منع الانفجار الضخم في المرفأ أيَّ زيادة في الثقة قد نتجت عن الاستجابة الأولية لفيروس كورونا المستجدّ التي كانت أفضل من المتوقّع. وفيما يؤدّي الأداء الإيجابي إزاء فيروس كورونا المستجدّ إلى فرص جديدة على الأرجح، ينبغي على الحكومات العربية أن تستمرّ بتلبية توقّعات المواطنين لكي تعكس بشكل دائم الانخفاض في مستوى الثقة الحاصل منذ عقود.

من الممكن أن يعزّز فيروس كورونا المستجدّ الفساد والمحسوبيات في الأنظمة السياسة الإدارية العربية

المؤلّفة: راحيل شومايكر، أستاذة في الاقتصاد في جامعة كارينثيا للعلوم التطبيقية في فيلاتش وزميلة بحوث معيدة في معهد البحوث الألماني للإدارة العامة في شبيير

تتّصف أكثرية الدول في المنطقة العربية بمستويات عالية من المحسوبية والمحاباة والفساد مقارنة بالمعدّلات العالمية. وهي تواجه أيضاً تعرقلاً في الإصلاحات الإدارية وانعدام الثقة، ويبرز هذان العنصران ضمن النظام الإداري السياسي وبين الدولة والمواطنين على حدّ سواء. وفيما حاولت دول مختلفة معالجة هذه المسائل في المرحلة التي تلت ما عُرف بـ”الربيع العربي”، تهدّد الجائحة الحالية بتقويض هذه الجهود أو الإطاحة بها. فلم يكن للجائحة أثرٌ اقتصادي سلبي في المنطقة فحسب، مؤدّية إلى خسارة نحو 50 مليون وظيفة وإفلاس بعض الشركات وازدياد الدين العام، بل شكّلت أيضاً تحديات كبيرة للإدارة العامة، التي تواجه صعوبة بالغة في إدارة الأعباء الإضافية التي ترتّبها الرقمنة العفوية وتعقّب العدوى وتنفيذ قرارات الإغلاق الكامل.

وفيما تشير بعض الأدلّة إلى أنّ حكومات عربية تستغلّ الجائحة لترسيخ الحكم السلطوي، تبرز بعض الإشارات إلى أنّ الإدارة العامة في تلك الدول لم تعد قادرة على اتّباع قواعد الحوكمة الرشيدة. ففي فترات الأزمات، غالباً ما يتمّ تجاهل إجراءات الإشراف لصالح السرعة والتنسيق في العمل لمواجهة الأزمة، وربّما تكون القدرات الإدارية منهمكة في نشاطات أخرى.

وقد فتح غياب الإشراف هذا في خلال الجائحة المجالَ للفساد والمحسوبية في مجالات مثل المشتريات العامة وتنفيذ إجراءات الصحّة العامة. ففي مصر مثلاً، طبّقت السلطات العامة منع التجوّل بعناية أكبر في الأحياء الثرية، فيما أفيد عن عدّة حالات من الفساد المرتبط بفيروس كورونا المستجدّ في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك رشوة مدراء فنادق للتغاضي عن إجراءات الحجر الصارمة.

في غضون ذلك، في دول كانت ضعيفة اقتصادياً واجتماعياً قبل وصول الجائحة مثل لبنان، خفّضت الأزمة أكثر فأكثر من الثقة بالنخب السياسية وأدّت إلى اضطرابات اجتماعية واحتجاجات. وفيما يثق الناس عادة بالمعلومات التي تقدّمها الدولة في الكثير من الدول حول العالم، نسبةٌ كبيرة من الناس في العالم العربي مقتنعةٌ أنّ جزءاً كبيراً من المعلومات التي تتلقّاها حول الفيروس غير دقيق، ممّا أدّى إلى انخفاض الثقة بالإعلام والمصادر الرسمية.

بعيداً عن التحدّي الضخم الذي يفرضه تطبيق إجراءات وبائية في خلال الجائحة، تواجه الأنظمة السياسية الإدارية في المنطقة العربية تحدّي المحافظة على ثقة الشعب بالإدارة العامة والحكومة أو (إعادة) بنائها. وفيما ترتبط مستويات الثقة العالية بشكل أكبر مع الصراحة والشفافية في صناعة القرارات ومع مستويات منخفضة من التكتّم الإداري، من شأن إتاحة معلومات أكثر تفصيلاً عن الخطوات العامة المتّخذة في خلال الجائحة أن تشكّل خطوة أولى نحو إعادة بناء ثقة الشعب والحدّ من الفساد.

فيروس كورونا المستجدّ يوسّع حزام الفقر في المنطقة العربية

المؤلّف: إسحق ديوان، أستاذ كرسي امتياز العالم العربي في جامعة باريس البحثية للعلوم والآداب

بعد سنوات من التقدّم، بدأ حزام الفقر في المنطقة العربية بالنمو من جديد، وهو منحى فاقمته أزمة فيروس كورونا المستجدّ بشدّة. فباتت المنطقة الآن تضمّ واحداً من أكبر تجمّعات البؤس واليأس في العالم. وتهدف هذه المقالة إلى قرع ناقوس الخطر عبر عرض معلومات حديثة مُستقاة من مراجع مرموقة.

تقدّر لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) أنّ نسبة عدد الفقراء الإقليمية للدول الـ14 غير الخليجية بلغت 29,2 في المئة (101,4 مليون نسمة) في العام 2019، أي بارتفاع عن نسبة 22,8 في المئة (66,4 مليون نسمة) المُسجّلة في العام 2010. وتتوقّع الإسكوا أيضاً أن توقع الصدمات المرتبطة بفيروس كورونا المستجدّ 16 مليون شخص إضافي في الفقر في العام 2021.

وبسبب الحروب الجارية وفشل السياسات، يصنّف البنك الدولي الآن عدداً متزايداً من الدول في العالم دولاً “هشّة ومتأثرة بالصراعات”. وتضمّ هذه القائمة الآن ثماني دول ومناطق في المنطقة العربية: العراق ولبنان وفلسطين وسوريا في المشرق العربي والصومال والسودان واليمن في القرن الأفريقي وليبيا في شمال أفريقيا. وبالاعتماد على خطوط الفقر الوطنية كمرجع، تعيش نسبة 56 في المئة من فقراء المنطقة في هذه الدول.

وتندرج ثلاث دول عربية، سوريا واليمن والصومال، ضمن أكبر خمس عمليات إنسانية عالمية لدى الأمم المتّحدة. واستأثرت المساعدات الإنسانية للدول العربية بنسبة 59 في المئة من التمويل الإجمالي المُخصّص للنداءات التي نسّقتها الأمم المتحدة في العام 2019. ويحتاج أكثر من 30 مليون شخص في المنطقة إلى دعم للأغذية الأساسية للعيش. ويشكّل النازحون داخل بلادهم في المنطقة 47 في المئة من النازحين داخل بلادهم في العالم.

ويشهد معدّل الفقر في الدول الفقيرة ارتفاعاً، وقد بلغ نسبةَ 73 في المئة في اليمن و50 في المئة على الأقلّ في السودان. بيد أنّ الفقراء يشكّلون نسبة 76 في المئة من سكّان سوريا ذات الدخل المتوسّط و27 في المئة في مصر و38 في المئة في فلسطين و17 في المئة العراق الغني بالنفط. وفي لبنان، كان من المتوقّع أن تُوقع الأزمة الاقتصادية والمالية ما يصل إلى 45 في المئة من السكّان في الفقر، وذلك حتّى قبل الانفجار المروّع في مرفأ بيروت الذي يمكنه أن يزيد هذه الأرقام المقلقة.

وفي العام 2020، واجهت الاقتصادات العربية الهشّة عدّة صدمات مدمّرة. ففيما تمّ تمويل أكثر من 60 في المئة من نداءات الأمم المتحدة الإنسانية في العام 2019، انخفض هذا الرقم إلى 17 في المئة في العام 2020 (حتّى يونيو) لأنّ الدول المانحة باتت منهمكة بمشاكلها الداخلية المتعلّقة بجائحة فيروس كورونا المستجدّ. في غضون ذلك، تسرّع دول مجلس التعاون الخليجي البرامج لاستبدال العمّال الأجانب بمواطنين، مع توقّع تراجع التحويلات بنسبة 20 في المئة بالإجمال في العام 2020 وبنسبٍ أعلى في الدول الأكثر هشاشة. ويؤدّي الانخفاض في توافر الاحتياطات بالعملات الأجنبية إلى تراجع قيمة العملة وتضخّم وأسعار أغذية أعلى.

وحالة اليمن هي الأسوأ في الوقت الراهن، إذ من المتوقّع أن يؤدّي فيروس كورونا المستجدّ إلى 42 ألف حالة وفاة مباشرة. وأفيد بأنّ التحويلات تراجعت بنسبة 80 في المئة هذه السنة، فيما انخفضت التعهّدات بتقديم مساعدات إنمائية رسمية من 4 مليارات دولار إلى 1,4 مليار (حتّى 2 يونيو)، لأنّ دول مجلس التعاون الخليجي فكّت ارتباطها للتركيز على إدارة تداعيات الجائحة ضمن أراضيها. وتشارف الاحتياطات بالعملات الأجنبية على النفاد وباتت المجاعة إمكانية حقيقية الآن.

وقد باتت الدعوات لإقامة عقود اجتماعية جديدة لعكس التراجع الاقتصادي في المنطقة شائعة. وتشير الوقائع على الأرض أنّه من دون تقدّم سياسي طارئ، سيكون المستقبل عسيراً.

فيروس كورونا المستجدّ يفرض على الحكومات العربية تحسين إدارة المساعدات الأجنبية

المؤلّفان: ثيودوسيا روسي، باحثة مساعدة في مركز بروكنجز الدوحة؛ ونادر قباني، مدير البحوث في مركز بروكنجز الدوحة

ألقت جائحة فيروس كورونا المستجدّ بالمزيد من العبء على علاقات متوتّرة أصلاً بين الدول العربية والمؤسّسات المالية الدولية، في زمن يحتاج فيه عدد كبير من الدول حاجة ماسّة إلى الأموال.

وتبعاً لمعلومات جمعها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بين 27 يناير و17 أغسطس وافقت المؤسّسات المالية الدولية على تقديم ما يقارب 175 مليار دولار كتمويلات لأزمة فيروس كورونا المستجدّ حول العالم. لكن 15,7 مليار دولار فقط من هذا المبلغ (9 في المئة) كان مخصّصاً للدول العربية. ومع أنّ حصّة التمويل هذه أعلى من حصّة الدول العربية من سكّان العالم النامي، تبقى منخفضة بشكل لافت عند الأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الإنسانية لمنطقة تواجه بعضاً من أسوأ أزمات النزوح في العالم.

وتواجه دول مجلس التعاون الخليجي، التي دعمت تاريخياً اقتصادات الدول العربية المجاورة لها، تراجعاً في أسعار النفط والغاز الطبيعي. وتوقّع صندوق النقد الدولي في يوليو أنّ الدول الشرق أوسطية المُنتجة للطاقة ستجني عائدات نفطية أقل بـ270 مليار دولار في العام 2020 عن السنوات السابقة. وفي الوقت الذي تقلّل فيه الدول الخليجية المساعدات الأجنبية وتحدّ من أعداد القوى العاملة الأجنبية، مؤدّية إلى تراجع في التحويلات، يمكن أن تحظى المؤسّسات المالية الدولية بدور حاسم أكثر في مؤازرة الاقتصادات العربية الأكثر هشاشة.

علاوة على ذلك، ومع أنّ المؤسّسات المالية الدولية تقدّم مساعدات طارئة للدول العربية للتعامل مع فيروس كورونا المستجدّ، كانت هذه العملية مصدر جدل ومتاعب. ومن أسباب ذلك أنّ الجهات المانحة تقدّم أصلاً للمنطقة العربية كمّية كبيرة من المساعدات التي لا علاقة لها بالجائحة وتفضّل لو بإمكانها إعادة تخصيص هذه الأموال. وسبب آخر هو أنّ المؤسّسات المالية الدولية تريد أن تعرف أنّ أيّ مساعدة تقدمها سيتمّ استعمالها كما يلزم. ففي الماضي، لم يُترجم دعم المؤسّسات المالية الدولية إلى الدول العربية دائماً بعملية تسليم فعّالة للخدمات، بسبب الحوكمة الضعيفة ومستويات الفساد المرتفعة وغياب الشفافية والإشراف.

وبرزت هذه التوتّرات في التعاملات التي أجراها صندوق النقد الدولي مؤخراً مع لبنان ومصر. ففي لبنان، لم تُحرز المحادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض بقيمة عشرة مليارات دولار أيّ تقدّم. ومن شأن انفجار مرفأ بيروت المدمّر أن يضع المزيد من الضغط على لبنان للسير قُدماً بهذه المحادثات. ومع أنّ الصندوق قال عقب الانفجار إنّه مستعدّ للمساعدة، شدّد على أنّه ينبغي على المؤسّسات اللبنانية أن تُبدي نيّة للإصلاح، بما في ذلك استعادة ملاءة المالية العامة وتفادي هروب الرساميل إلى الخارج.

وفي حالة مصر، أتت الدعوات للإصلاح من خارج صندوق النقد الدولي، ففي يونيو، رفعت منظّمات المجتمع المدني المصرية والدولية كتاباً للمجلس التنفيذي في صندوق النقد الدولي يحثّه على تأجيل التصويت على قرض بقيمة 5,2 مليار دولار بحجّة مخاوف من أنّ الأموال لن تُخصّص لـ”دعم النمو الشامل وتحسين الشفافية المالية وزيادة الإنفاق على الصحّة والمجتمع”، وحثّت المنظّمات على فرض متطلّبات صارمة لمكافحة الفساد. ومع أنّ صندوق النقد الدولي وافق على القرض في الوقت المخطّط له، يشدّد الكتاب على أنّ الفساد والشفافية موضوعان متزايدا الأهمّية ينبغي على المؤسّسات المالية الدولية أخذهما بعين الاعتبار عند تقديم الدعم للمنطقة العربية.

ومع استمرار أزمة فيروس كورونا المستجدّ، سيكون من الضروري جدّاً للمؤسّسات المالية الدولية والحكومات العربية والمجتمع المدني العمل معاً للحرص على أن تتلقّى الدول المساعدات التي تحتاج إليها وأن توزَّع بفعاليّة. وسيتطلّب ذلك تحسين مراقبة الحسابات والماليات العامة وشفافيتها والحرص على أن تُوجَّه المساعدات الأجنبية إلى الأولويات العامة المُتّفق عليها وأن تستهدف المساعدات الشعوبَ الأكثر هشاشة وتهميشاً في المنطقة.

بإمكان صندوق تضامن معالجة تداعيات فيروس كورونا المستجدّ على الفقر في المنطقة العربية

المؤلّفان: خالد أبو إسماعيل، اقتصادي أوّل، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)؛ وفلاديمير هلاسني، أستاذ معيد في الاقتصاد في جامعة أيوها للإناث في سيول

يرتفع الفقر في المنطقة العربية بشكل لافت، ويزداد توزّع الثرواث استقطاباً، لكنّ السلطات المالية في البلدان غير قادرة على التعامل مع هذه التحديات. ويؤكّد فيروس كورونا المستجدّ على أنّ نموذج النمو الحالي في المنطقة غير مستدام: فقد جفّت مصادر الإيرادات العامة تماماً عندما كانت الحاجة إليها في أوجّها، فيما يزيد المستثمرون الخاصّون ثرواتهم بفضل أرباح المضاربات. وكشفت هذه الجائحة عن التباين الكبير في معدلات الفقر غير المسبوقة والتجمّع الكبير للثروات في المنطقة.

بهذه الطريقة، سلّط فيروس كورونا المستجدّ الضوء على الحاجة إلى تضامن مدني أقوى وإلى ضرورة أن يساعد المجتمع المدني والقطاع الخاص والدولة الأشخاص الأكثر حرماناً. وبغية معالجة هذه الحاجة، ينبغي على الحكومات العربية أن تؤسّس صندوق تضامن مستقلّ عن النظام القائم لإعادة توزيع الأموال من أجل مساعدة أولئك الذين سقطوا خارج شبكات الأمان القائمة.

وتسجّل الدول العربية حالياً بعضاً من أعلى المستويات في العالم في التوزّع غير المتساوي للثروات. فمتوسّط معامل جيني للثروات في الدول العربية يبلغ 73,6، مقارنة بـ73,1 في باقي العالم. وفي العام 2019، استأثر أصحاب المليارات العرب البالغ عددهم 37 رجلاً بثروة (108 مليارات دولار) توازي ثروة النصف الأدنى من السكّان البالغين.

وفي ظلّ غياب أرضيّات فعّالة للحماية الاجتماعية، مستوى الهشاشة إزاء الفقر مرتفع ويشهد ارتفاعاً في الكثير من الدول العربية. ففي العام 2020، من المتوقّع أن تبلغ نسبة عدد الفقراء بالاستناد إلى تعريفات الفقر الوطنية 32,4 في المئة، أي 115 مليون شخص، في دول الدخل المتوسط السبعة والدول السبعة الأقل نمواً في المنطقة العربية. ويعني ذلك زيادة قدرها 16 مليون شخص في عدد الفقراء عن سيناريو النمو الإقليمي المتوقّع في مرحلة ما قبل فيروس كورونا المستجدّ.

وفي الدول العربية ذات الدخل المتوسط، تُقدّر كلفة ردم فجوة الفقر بمبلغ 15,6 مليار دولار، فيما تُقدّر الثروة الإجمالية للعشير الوطني الأعلى بمبلغ 1,3 تريليون دولار. ومن خلال استهداف جيّد للفقراء في هذه الدول، تكفي ضريبة سنوية على الثروات قدرها 1,2 في المئة فقط لردم فجوة الفقر. لكن في الدول الأقل نمواً وفي سوريا، تبلغ ثروة العشير الأعلى 66,8 مليار دولار فقط، فيما تبلغ كلفة فجوة الفقر السنوية 29,5 مليار دولار، مما يجعل فكرة الضريبة المقترحة غير مجدية.

ونظراً إلى التحديات الاقتصادية الملحّة التي ترتّبها تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجدّ، ينبغي على الحكومات العربية تأسيس صندوق ثروات تضامني إقليمي لمعالجة الحاجات الإنسانية والنقص في الطعام للدول الأكثر هشاشة إزاء حالات الطوارئ الصحّية والاقتصادية. وعلاوة على الحدّ من الفقر، سيكون لتأسيس صندوق تضامن تداعيات إيجابية، فقد يخفّف من النشاطات الساعية لتحقيق الريع ونشاطات المضاربة، مع تحويل الأموال إلى استثمارات أكثر إنتاجية وزيادة التوظيف اللائق والنمو.

ختاماً، أظهر فيروس كورونا المستجدّ الحاجة الملحّة إلى معالجة الفقر المتنامي والتركيز الشديد للثروات في المنطقة العربية. وبإمكان ضريبة تضامن اجتماعي متجذّرة في عادة الزكاة الراسخة أن تخفّف من الفقر وأن يقبل بها الأثرياء والأقوياء. وفي وسع صندوق تضامن اجتماعي كهذا أن يشكّل أداة تحوّلية لتعزيز المساواة الاجتماعية والتكافل والسلام في منطقة مستقطَبة يستشري فيها عدم الاستقرار السياسي.