Commentary

Op-ed

البناء على رمال متحرّكة: جهود العدالة الانتقالية في أزمان من الاضطراب

The International Criminal Court building is seen in The Hague, Netherlands, January 16, 2019. REUTERS/Piroschka van de Wouw

يواجه أيّ شخص يهمّه أمر العدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مهمّةً صعبة للغاية. فكيف يمكن التعامل مع الماضي فيما الحاضر في حالة اضطراب شديد؟ وكيف يمكن التعامل مع حروب الماضي وانتهاكاته فيما تحدث حروب وانتهاكات جديدة، وأكثر خطورة، اليوم؟ لطالما عرف الممارسون أن العدالة الانتقالية مسارٌ بطيء ومتعرّج يتطلّب الصبر والتخطيط الطويل الأمد. والانتكاسات متوقّعة في خضمّ هذه العملية، لكن يبقى في النهاية الوعد أو الافتراض بأنّه “إذا ثابرت ستصل إلى نتائج في نهاية المطاف”.

لكن هل ما زال هذا الافتراض سارياً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ هل تُحرِز جهود العدالة الانتقالية القائمة نجاحاً في وضع الأسس للوصول إلى مستقبل أفضل، أم هل تمحو أثرها جولاتٌ جديدة من العنف والقمع؟ المسألة تصوّرية وواقعية على حدّ سواء. فمن ناحية، يبرز السؤال حول ما إذا كان باستطاعة مجتمع ما البدء معالجة صدمات الماضي مع التعامل في الوقت عينه مع صدمات جديدة، غالباً ما تُسبّبها جهات فاعلة جديدة. ومن ناحية أخرى، يبرز السؤال حول نوع مسارات العدالة الانتقالية ومؤسّساتها التي يمكنها التعامل مع الماضي، مع قدرتها أيضاً على التكيّف مع حاضر دائم التغيّر.

التحديات هائلة وما من إجابات سهلة. في ما يلي، أسلّط الضوء على الحاجة إلى المزيد من البحوث حول مسارات العدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع تركيز على سنوات الاضطراب الأخيرة. ويبرز سؤالان أساسيّان: الأول هو كيف نوفّق بين مطالبات الماضي والحاضر، والثاني هو كيف نستوعب مصادر الشرعية الدائمة التغيّر، نظراً إلى الفراغ المتزايد في هيكليات الدولة في المنطقة.

عندما يتنافس الماضي والحاضر لكسب الانتباه

تهدف العدالة الانتقالية إلى ربط الحاضر بماضٍ مضطرب، والسماح للمجتمعات بالشفاء عبر معالجة صدمات الماضي، كما هو الأمر في العلاجات النفسية الجيّدة. لكن عملياً، تجري أكثرية جهود العدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في بلدان لم يحدث فيها انتقال بعد أو حيث الصراع ما زال جارياً. ويعني ذلك أنّه ينبغي على جهود العدالة الانتقالية معالجة الماضي والصدمات الجارية أيضاً.

وتُبيّن مقاربة العراق الفاشلة للعدالة الانتقالية بعد العام 2003 مخاطر التعامل مع الماضي من دون معالجة الحاضر. فالسياسات التي اعتُمدت لمعالجة الانتهاكات المُرتكبة في خلال حكم صدّام حسين الدكتاتوري لم تشفِ بل أجّجت جولات جديدة من العنف. فمن الطريقة التي تمّ فيها العمل لتحقيق العدالة إلى طريقة توزيع التعويضات، فاقمت المقاربة العراقية الانقسامات وساهمت عن غير قصد بنشأة الميليشيات والمجموعات المتطرّفة. وسيحتاج أيّ مسار عدالة انتقالية اليوم إلى الأخذ بعين الاعتبار الأذى الذي ارتكبه عدّة جناة، من بينهم صدّام حسين ونظامه والاحتلال الأمريكي والميليشيات “الشيعية” وتنظيم داعش. لكن على هذا المسار أن يقوم بذلك في سياق دولة ما بعد العام 2003 التي تعاني أزمة حوكمة خطيرة ومطالبات متنافسة بالعدالة.

ويظهر تحدّي معالجة المطالبات المتنافسة بالعدالة أيضاً في سوريا، حيث تتعقّد المسالة أكثر بسبب غياب العملية الانتقالية هناك. وقد اعتمد المجتمع الدولي عدّة سياسات لدعم المجموعات التي تعمل بالنيابة عن المحتجَزين وعن الذين جعلهم نظام بشار الأسد من المفقودين. وبعد ظهور داعش، انتقل الدعم والانتباه الدوليَّين إلى انتهاكات داعش، ولم يُخصَّص أي جهد أو اهتمام لوضع مقاربة متكاملة يمكنها معالجة حاجات الضحايا، بغضّ النظر عمّن ارتكب الجرائم بحقّهم. فكان الوضع وكأنّ جداراً صينياً يفصل إطارَ عمل العدالة الانتقالية المُستخدم لانتهاكات النظام عن إطار عمل لمكافحة الإرهاب مخصّص لانتهاكات داعش. بالتالي، لن يجري أيّ سرد للحقيقة ولن ينال ضحايا داعش أيّ أجوبة، علماً أنّ قوّات سوريا الديمقراطية المدعومة من الغرب تحتجز الآلاف من مشتبهي داعش الذين يمكنهم منح الإجابات للعائلات.

ويكمن تحدٍّ آخر لمسارات العدالة الانتقالية أو مؤسّساتها في فترات الاضطراب في بطئها وعدم قدرتها (هيكلياً أو بيروقراطياً) على الاستجابة بسرعة للأحداث الجارية، وغالباً ما يجعلها ذلك غير فعّالة. فقد حظيت المحكمة الجنائية الدولية بتفويض للتحقيق في الجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب في ليبيا منذ العام 2011، لكنّها عجزت عن منع الانتهاكات الجارية أو تحويل النقاش نحو المساءلة في البلاد. وحدث أمر مماثل مع المحكمة الخاصة بلبان بقيادة الأمم المتحدة التي كانت غايتها تحقيق العدالة وإنهاء الإفلات من العقاب للاغتيالات السياسية في لبنان. فكانت المحكمة بطيئة جداً وتغيّر الوضع في لبنان جدّاً لدرجة أنّ اهتمام الشعب اللبناني بالمحكمة أصبح شبه معدوم. وحتّى بعدما أصدرت المحكمة الخاصّة بلبنان حكماً بشأن اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 18 أغسطس 2020، لم يكن لها أثرٌ يُذكر على المساءلة. وبعد أيام قليلة من صدور الحكم غيابياً، كتبت ابنة سمير قصير، وهو صحافي لبناني معروف تمّ اغتياله ضمن موجة من الهجمات المستهدفة في العام 2005، مقالاً عبّرت فيه عن خيبة أملها بالمحكمة الخاصة بلبنان وتساءلت “إن كانت هذه هي العدالة”.

شرعيّة متغيّرة

وتُعتبر الشرعية تحدّياً آخر لآليات العدالة الانتقالية في فترات الاضطراب. ففي معظم مقاربات العدالة الانتقالية، تترتّب على الدولة المسؤولية الأساسية في ضمان التعويضات لضحايا الانتهاكات. لكن ماذا لو كانت الدولة تندثر أو لم يكن لديها شرعية؟ أو ماذا لو كانت قيادتها الراهنة سلطوية وقمعية أكثر من التي قبلها؟ وتوضّح  الأمثلة الحديثة التالية من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هذه التحديات.

مَن له السلطة في نبش المقابر الجماعية في مناطق تشهد صراعات مثل سوريا أو ليبيا؟ من الأفضل عادة ترك جهود كهذه لعملية بقيادة الدولة. لكن ماذا لو كان من غير المرجّح أن تبذل السلطات الوطنية جهداً من هذا القبيل؟ هل ينبغي على ممارسي العدالة الانتقالية الانخراط مع جهات فاعلة من غير الدولة؟ وإن كان الأمر كذلك، فبحسب أيّ شروط؟ مثلاً هل ينبغي أن يجري انخراط دوليّ مع السلطات المحلّية بقيادة كردية في شمال شرق سوريا التي استعادت الأراضي من داعش لكي تتمكّن من المباشرة بنبش المقابر الجماعية في المناطق الخاضعة لسيطرتها والخوض في مسار من البحث عن الحقيقة وتقديم التعويضات؟ وإن جرى هذا الانخراط الدولي، هل في وسعه المساهمة في جهد وطنيّ مستقبليّ، في حال أُطلق هذا الجهد يوماً؟

في حالات أخرى، تتمحور المسألة حول الشرعية. فكلّ مسارات المساءلة أو العدالة الانتقالية للانتهاكات المُرتكبة في عهد مبارك توقّفت في مصر بعد أن استلم عبد الفتّاح السيسي مقاليد الحكم. لكن ماذا كانت ستكون شرعية جهد كهذا، نظراً إلى أنّ سجلّ النظام الحالي أسوأ من سلفه بطرق متعدّدة؟ في هذه الحالة، ونظراً إلى المساحة السياسية والمدنية المتضائلة في مصر، هل ينبغي على ممارسي العدالة الانتقالية البدء بالانخراط بشكل استراتيجي أكثر مع جهود الشتات لسرد الحقائق وتخليد الذكرى؟

نحو أجندة بحوث جديدة

ما من إجابات سهلة على هذه الأسئلة. لكن من الواضح أنّ مسارات العدالة الانتقالية القائمة ببساطة لم تعد كافية. لذا من الضروري البحث في مسارات أسرع يمكنها الاستفادة من الفرص السانحة الوجيزة للوصول إلى المساءلة، حتّى لو لم تكون شاملة. ويمكن أن يعني ذلك فتحَ الأرشيف حتّى لو كان التاريخ ما زال قيد الكتابة أو اعتمادَ آليات لسرد الحقيقة يمكنها الدمج بين الفظائع السابقة والجارية. ويمكن أن يعني ذلك أيضاً أنّه ينبغي على ممارسي العدالة الانتقالية أن يصبحوا مرتاحين أكثر في الانخراط في مبادرات بقيادة مجموعات جديدة من الشتات وكيانات من غير الدولة. وبالإجمال، ينبغي إجراء معاينة نقدية لمقاربات العدالة الانتقالية الراهنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إن كانت هذه المسارات ستساعد على معالجة الإساءات والانتهاكات الكثيرة التي ارتُكبت في الماضي وما زالت تُرتكب اليوم.