Commentary

مستقبل روسيا: ملاحظات من مؤتمر فالداي السنوي العاشر

نقل اجتماع الذكرى العاشرة لـ”نادي النقاش الدولي فالداي” – وهو منتدى يجمع بين خبراء أجانب وكبار المسؤولين الروس والسياسيين والصحفيين والأكاديميين – رسالتين قويتين من الكرملين وهما: عودة روسيا بشكل كامل إلى الساحة العالمية ساعية للحصول على دور قيادي؛ وطرحها أمام العالم لنظام بديل عن نظام الغرب، والذي فقد بوصلته الأخلاقية. ما من أحد يتكلّم عن هذه النقاط بشكل أفضل من فلاديمير بوتين نفسه، الذي التقى مع أعضاء المجموعة طوال العقد الماضي. كان في قمة أدائه، واثقاً من نفسه وحاسماً. ومع ذلك، وعلى الرغم من رعاية الكرملين للمنتدى، فقد تخلّلته أصوات متنافرة، بما في ذلك العديد من الإنتقادات الصاخبة لطريقة إدارة بوتين لروسيا.

عقد اجتماع هذا العام في منتجع خلاب على بحيرة فالداي، على بعد 400 كيلومتر من العاصمة الروسية موسكو. وكان الاجتماع الأكبر حتى الآن، إذ شارك فيه أكثر من 200 مشارك. تمحور الموضوع الرئيسي حول “تنوع روسيا للعالم الحديث” وركز على طرق تحديد روسيا لهويتها الوطنية. وبطريقة أو بأخرى، تمحور موضوع كلّ اجتماع من اجتماعات الفالدي- وقد حضرت الإجتماعات العشرة- حول “مسألة روسيا إلى أين؟”، وحتى في الجلسة التي عقدت في سيبيريا، عندما كنا نناقش ما إذا كانت روسيا قوة عظمى في عالم الطاقة. إلّا أنّ هذا العام جرى التركيز على مسألة تفرد روسيا ومكانتها في العالم.

كان سيرغي كاراغانوف، واحداً من المشاركين في تنظيم الاجتماع، بالكاد متفائلاً. بدأ المنتدى بملاحظة تحذيرية قائلاً أن روسيا قد أضاعت السنوات العشرين الماضية وأن الفكرة الوحيدة التي لا تزال توحّد الروس هي انتصارهم في الحرب العالمية الثانية.

وخلافاً لما حدث في السنوات السابقة، تمّ تمثيل المعارضة السياسية القومية الليبرالية والمعتدلة على حدّ سواء. وبرز اثنان من المداخلات: تدخل يفغيني رويزمن، عمدة ايكاترينبرج المنتخب حديثاً والمثير للجدل، وكسينيا سوبتشاك، ابنة اناتولي سوبتشاك، عمدة سانت بطرسبرغ الليبرالي الذي أعطى بوتين بدايته السياسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينات. دافع رويزمن بحماس عن أهمية إنهاء السياسة كالعادة في المحافظات الفاسدة. ووجهت سوبتشاك نداءً مؤثرا لـ30 من جيلها المتحضر والمتعلم. وجاء في رسالتها: نرفض نموذج الرعاية السياسية التقليدي الروسي، ولا نريد رئيساً يتوجّه إلينا كأب يحادث أولاده، نريد أن نعامل بصفتنا بالغين مستقلين مسؤولين عن القرارات التي نتخذها، ونحن لا نريد الاعتماد على الدولة. وأضافت، نحن لم نترعرع في الاتحاد السوفياتي، ولا نشعر بالحنين إلى الاتحاد السوفييتي، ولا يهمنا أن تكون روسيا قوة عظمى ونرفض معاداة الولايات المتحدة الأمريكيّة. في الواقع، نحن نحبّ الغرب.

وقد تناولت الجلسة طويلة والتي استمرت ليوم كامل، في دير أيفرسكي الذي تأسس في العام 1653وجرى ترميمه في السنوات الأخيرة ترميماً أنيقاً، مسألة من المسائل الأبديّة حول هويّة روسيا، هل روسيا أوروبية أم آسيوية أم أوروبيّة آسيوية. وفي الجلسة الحوارية التي سلطت الضوء على دور روسيا كدولة متعددة الأعراق والطوائف، يتنوّع سكانها منذ قرون بين المسيحيين الأرثوذكس واليهود والمسلمين والبوذيين، وجّه المطران هيلاريون رسالةً قويّة. وأشار إلى أنّ المسيحيين الأرثوذكس الروس هم نذراء القيم المسيحية التقليدية الحقيقيون، في حين تبنّى البروتستانتيون الغربيون القيم الليبراليّة في قضايا مثل الإجهاض، وحقوق مثليي الجنس، وزواج مثليي الجنس، التي تقوض الأخلاقية المسيحية. وقد انعكست هذه الآراء في خطاب الرئيس بوتين المحضّر مسبقاً، عندما أكدّ أن روسيا تدعم الأخلاقية المسيحية التقليدية، وتعارض زواج المثليين. وعلاوة على ذلك، أكد كلّ من بوتين ورجال الدين الروس أن المسيحيين الأرثوذكس والمسلمين يشتركون في التزامهم بالأخلاقية التقليدية، مسلّطاً الضوء على رباطاتهم المشتركة – ومفرّقاً فيما بينها على أرضية مشتركة من الغرب.

واحد من مشاريع بوتين الرئيسية للسياسة الخارجية لولايته الثالثة هو اقتراح الاتحاد الأوراسي، موضوع أثار بعض المناقشات الحية. جادل المتحدثون الروس أن الكرملين قد “ترك النموذج الإمبراطوري وراءه”، وأن هذا الاتحاد سيكون تنظيماً يشابه الاتحاد الأوروبي. فيما ناقش المتحدثون من مولدوفا وأوكرانيا، الضغط الاقتصادي والسياسي المتنامي الذي تفرضه روسيا عليهما لرفض الاتحاد الأوروبي في التحضير لقمة فيلنيوس في نوفمبر. تستعد بروكسل لتقديم جمعية الاتفاقات لأوكرانيا ومولدوفا والتي تدعي روسيا بأنّها ستؤثر سلباً على استمرار علاقات كلا البلدين الاقتصادية مع موسكو. من دون أوكرانيا، لن يفي الاتحاد الأوراسي طموح الكرملين لإنشاء تجمع لدول ما بعد الاتحاد السوفياتي كقوة موازنة للاتحاد الأوروبي.

وتمحورت المناقشات مع كبار المسؤولين الذين جاءوا إلى فالداي -وزير الخارجية سيرجي لافروف، وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الإدارة الرئاسية سيرغي ايفانوف- حول دور روسيا العالمي المتزايد في أعقاب مبادرة سوريا. وقد دعموا من حقيقة أن روسيا قد قامت بالمبادرة في تنظيم اتفاق لتخليص سوريا من الأسلحة الكيميائية، وشددوا على تأييدهم لسوريا القويّة والعلمانية. وزعموا أنّ تنظيم القاعدة يسيطر على 75٪ من المعارضة. وسرى الاتفاق على أنّه لن يتمّ ايجاد الأسلحة الكيميائيّة كافّة وتدميرها، ولكن يمكن تدمير ما يكفي لتحقيق الأهداف الروسية والأمريكية. وكرروا الروس اعتقادهم بأن المعارضة هم من قاموا باستخدام الأسلحة الكيماوية نافين استخدام الأسد لها.

تناول شويجو مسألة الإصلاح العسكري بالاقتباس عن رئيس الوزراء قبل الثورة الروسية بيوتر ستوليبين الذي قال “أعطونا المال والوقت، ولن تتعرّفوا على قواتنا المسلحة.” وأعرب عن قلقه إزاء الوضع في أفغانستان بعد انسحاب قوات الناتو في العام المقبل، وتساءل عن من سيشكل الجيل القادم من القادة في كابل. وأكد مجدداً أن برامج الدفاع الصاروخية الامريكية كانت موجّهة في نهاية المطاف إلى روسيا، ليس لإيران ولا لكوريا الشمالية، ولكنه اقترح أيضاً تطوير نظم الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية الامريكية والروسية المشتركة. يشكلّ حلف شمال الاطلسي، كما قال، تهديدا لروسيا. إن لم يكن موجها ضد روسيا، ما النفع إذاً من توسيع حلف شمال الأطلسي؟ جاءت رسالته إلى المجموعة: ما من مشاركين جدد في حلف شمال الاطلسي.

في السنوات السابقة، التقى الرئيس بوتين بالمشاركين الأجانب في اجتماع خاص، ولكن اجتماع هذا العام عقد بشكل مختلف، تغيرت شكلية إجتماع بوتين، فقد جلس بوتين على المسرح مع أربعة متحدثين- وزير الدفاع الألماني السابق فولكر روهي، رئيس الوزراء الإيطالي السابق رومانو برودي، رئيس الوزراء الفرنسي السابق فرانسوا فيون ورئيس مركز المصلحة الوطنية الأمريكي ديمتري سيمويز. وكان الحديث موجهاً للمشاركين الأجانب والروس وكان الاجتماع الذي دام أربع ساعات متلفزاً.

ودافع بوتين بشراسة عن روسيا بصفتها حاملة لواء الأخلاقية المسيحية التقليدية، بحجة أن الولايات المتحدة وأوروبا قد رفضتا الجذور المسيحية التي تشكل أساس الحضارة الغربية. وفي انتقاده “للصواب السياسي المفرط” أعلن أن المشروع الأوروبي متعدد الثقافات قد فشل. كما حذر من أن محاولات القوى المسماة الأمم المتحدة لإحياء نموذج لعالم القطب الواحد قد فشلت أيضاً. ومؤكداً على حق روسيا في الحصول على مقعد على طاولة مناقشة القرارات ذات الأهمية الدولية الكبرى كافة، ذكّر بالأوقات التي قدمت فيها روسيا مساهمة هامة للسلام العالمي -مؤتمر فيينا في عام 1815، ومؤتمر يالطا عام 1945. وحذر من أنّه عندما تم استبعاد روسيا -على سبيل المثال من معاهدة فرساي عام 1919، أدى ذلك إلى الحرب. وكانت رسالته حول سوريا واضحة – اتخذت روسيا المبادرة وساعدت الولايات المتحدة من خلال اقتراح اتفاق لتخليص سوريا من مخزونات الأسلحة الكيمياوية. ولا بدّ من أن يستمر احترامها كلاعب عالمي لا غنى عنه.

لكلّ من لحق بعلاقة الكرملين المشحونة مع المعارضة منذ مظاهرات بولوتنايا في ديسمبر 2011 احتجاجاً على نتائج انتخابات مجلس الدوما، بدت تفاعلات بوتين مع ممثلي المعارضة تمثل تحولاً في السياسة. أجاب على أسئلتهم حول الحاجة للإصلاح السياسي والمزيد من الحريات الفردية عن طريق اقتراح دراسة هذه القضايا في المستقبل- من دون إلزام نفسه بأي مسار عمل معين. وتركت حقيقة أن هذه التبادلات تبث مباشرة الانطباع بأن الكرملين على يقين من أن المعارضة لا تمثل تهديداً حقيقياً ويمكنها الانخراط في الحوار مع ممثلي تياراتها. ففي نهاية المطاف، لم يكن هناك قوميون متطرفون أوإشتراكيون متشددون. وكان زعيم المعارضة اليكسي نافالني، الذي فاز بنسبة 27٪ من الأصوات في الانتخابات البلدية الأخيرة في موسكو، غائبًا أيضاً، رافضاً على ما يبدو الدعوة للمشاركة.

وكان بوتين مراوغاً حول خططه المستقبلية. فعندما سئل عما إذا كان سيرشح نفسه للمنصب مرة أخرى في عام 2018، قال أنه لا يستبعد ذلك. وأشار باستحسان إلى أن أنجيلا ميركل كانت على وشك الفوز بولاية ثالثة، كما فعل هو العام الماضي. ترك بالتأكيد انطباعاً بأنها تسخّر نفسها بالكامل، مرفقة بالطموح، لوضع خطط لروسيا- ولو لم تكن معروفة. قد يكون الاقتصاد الروسي يشهد معدلات نمو منخفضة، إلّا أنّ رسالة فالداي الرئيسية تمحورت حول أن روسيا بوتين حريصة على الانخراط في العالم، مقدّمة بديلاً عن الغرب المضطرب الذي رفض مبادئ تراثه الحضاري الخاص الرئيسية.