Commentary

لا تستهينوا بقدرة كردستان على الصمود

A Kurdish man rides a horse during a march supporting the coming referendum in Erbil, Iraq September 21, 2017. REUTERS/Alaa Al-Marjani - RC1BBF7ECAB0

سيجري إقليم كردستان العراق استفتاءً حول الاستقلال الكردي الأسبوع القادم، علماً بأن هذا الاستفتاء قد جوبه بدرجات متفاوتة من المقاومة من قبل المنطقة والمجتمع الدولي على حدٍ سواء. إنّ المقاومة الدولية لحق تقرير المصير الكردي ليست جديدة، بل هي في الواقع سمة مميزة للنضال الوطني الكردي منذ أن حُرم الأكراد من دولتهم على يد القوى الإمبريالية، التي أنشأت نظام الدولة القومية في الشرق الأوسط على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.

جعلت المصالح الدولية الطاغية، والمقاومة الدولية لقلب توازن القوى في المنطقة، والقوى المسلحة القوية والغنية الموضوعة بتصرف القوى المستبدّة في المنطقة (المنحازة للغرب)، من غير المعقول بالنسبة للأكراد إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. الأمر الذي مهّد الطريق لقرون من التمرّد، وفظائع لا حصر لها، وإبادات جماعية ضد الأكراد.

ومع ذلك، نجا مشروع التحرر القومي الكردي في العراق، ويعود الفضل في ذلك لحد كبير إلى الاضطهاد الذي عاناه الأكراد، الأمر الذي عزز تماسك القومية الكردية ووحدتها، وقضية تقرير المصير الكردي من الناحيتين الأخلاقية والفكرية. وتُعزى نجاة المشروع أيضاً إلى الجغرافيا السياسية والنظام الإقليمي الذي أصبح محاطاً بحالة من عدم الاستقرار والصراع المستمرين، الأمر الذي يفتح المجال لتدخّل الرعاية الخارجية وتنمية العلاقات الشخصية والمؤسساتية مع القوى الإقليمية.

الأكراد: تاريخ حديث

وقد دافع الأكراد عن قضيّتهم باعتبارها إحدى قضايا تقرير المصير، علماً بأنهم كانوا ضحايا الدكتاتورية وانتهاكات حقوق الإنسان والتشريد الممنهج، لا سيّما تحت حكم حزب البعث في العراق، الذي أسفر عن مقتل عشرات الأكراد في الإبادة الجماعية في حلبجة وعملية الأنفال الأوسع.. وقد ساعدهم هذا على ضمان الاعتراف والشرعية الدوليين، وفتح أمامهم مساراً قرّبهم أكثر فأكثر من السيادة. فبعد الإطاحة بصدام حسين والغزوات الخاطئة لإيران والكويت في الثمانينيات، حصل الأكراد في العام 1990 على مكافأتهم نوعاً ما: فبعد أن أجبر المجتمع الدولي الجيش العراقي على الخروج من الكويت، فرض منطقة حظر جوي في شمال العراق لحماية الأكراد. إلا أنهم أصبحوا أعداء نفسهم عندما اجتاحت الحرب الأهلية كردستان العراق عام 1994، بعد عامين فقط من إجراء الانتخابات في منطقة الحكم الذاتي تحت حماية منطقة الحظر الجوي.

كانت للحرب الأهلية عواقب سياسية وإنسانية مكلفة، أسفرت عن خضوع بعض المناطق لإدارة الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم والاتحاد الوطني الكردستاني. لكن كردستان ظلت سليمة. وقد بذلت السلطات الإقليمية قصارى جهدها لتقويض استقرار دولة الأمر الواقع وزعزعتها، سواء قبل الصراع المدني أو بعده، لكن هذا الأمر لم ينجح. فرغم كونها في وضع أفضل مما هي عليه اليوم، إلا أن تهديداتها بالقضاء عسكرياً على كردستان لم تتحقق أبداً.

وبالفعل، كان لا بد أن تشير الحرب الأهلية التي استمرت أربع سنوات إلى نهاية مشروع بناء الدولة الكردية، إلا أنّ هذا المشروع أثبت صموده ومرونته. لطالما أزرى المعلّقون السياسيون وصنّاع السياسات في الغرب بالأكراد بسبب انقساماتهم الداخلية، مدّعين أنهم غير قادرين على الاستقلال وحكم أنفسهم. لكن هذه لم تكن سوى حجّة استشراقية مهينة لطالما استغلتها القوى الاستعمارية والإقليمية لقمع شرعية تقرير المصير الكردي. وهذه الحجّة لم تثبت خطأها فحسب، بل فشلت أيضاً في تقدير مرونة مشروع بناء الدولة الكردية وقدرتها على الصمود (التي تنبع من تاريخها الطويل في السعي إلى إقامة دولة) وإلى الفروق الدقيقة في السياسات الكردية والديناميات الاجتماعية والثقافية.

التقسيم السياسي والوحدة

لا تزال هناك اختلافات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، لكن الاثنين وُلدا من رحم الحركة الوطنية الكردية. فالرئيس مسعود البارزاني (رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني ونجل الملا الأسطوري مصطفى البرزاني) وجلال طالباني (مؤسس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يطلق عليه الأكراد تحبّباً مام جلال) هما قوميان كرديان حتى النخاع. وهما ينظران إلى نفسيهما وإلى حزبيهما كبناة دولة، وسعيهما الأساسي هو تأسيس الدولة الكردية.

وبالفعل فقد عزّز التعايش القسري بين هذين الحزبين قدرة الدولة الكردية على الصمود لأنهما كانا بحاجة إلى تسوية. وقد ساعدت هذه النظرة السياسية وهذا النضج السياسي الأكراد على تحقيق مكانة تؤهلهم لتحقيق قصة نجاح ديمقراطي. ورغم ابتلاء السياسات والحوكمة الكردية بالفساد وسوء الحكم والمحسوبية، إلا أن القيادة الكردية تتحدث بلغة التعددية وحقوق الإنسان، وتسعى إلى إقامة دولتها وفقا للمعايير الدولية، في محاولة للحصول على الاعتراف والشرعية الدوليين. وحتى في العام 2002، ورغم الانقسامات التي نشأت في ذلك الوقت بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، أيّد البرلمان الأوروبي التجربة الديمقراطية في كردستان للمرة الأولى.

وبنفس الأسلوب، فقد أكدت النظرة السياسية والوعي السياسي لفترة التسعينيات بقاء مشروع بناء الدولة الكردية صامداً بعد العام 2003 وسط سلسلة من التحديات الإضافية التي أعقبت الإطاحة بنظام البعث. وقد تناقض هذا بشكل صارخ مع المجموعات التي نُفيت إلى بغداد منذ عشرات السنين وهيمنت على الدولة العراقية. ولم يكتفِ الأكراد بإطلاق عملية سياسية أكثر نضجاً وتوحّداً فحسب، بل اكتسبوا أيضاً خبرة في الحكم في نطاق منطقتين منفصلتين تُدار كل منهما على حدة. وخلافاً لبقية العراق وتجربة الأحزاب الرئيسية في بغداد بعد العام 2003، فإن المنطقتين المنفصلتين الخاضعتين لإدارتين مختلفتين تحت سيطرة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني خلال فترة التسعينيات، قد وفّرتا للحزبين فترة طويلة من الحكم لم تعرقلها الخصومات الشخصية أو الحزبية.

التوقعات لكردستان

أما على الصعيد الدولي، فقد ساعد مزيج من المثابرة والحظ في دعم صمود كردستان. كما ساعد الأكراد الالتزام الدولي، لاسيّما الأمريكي، بإسقاط نظام البعث بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الأمر الذي أكد وجود حتمية أخلاقية واستراتيجية للحفاظ على دولة الأمر الواقع الكردية.

أما في الشرق الأوسط اليوم، فهناك انهيار لمؤسسات الدولة وتزايد في الأماكن غير الخاضعة للرقابة. وقد هيمنت المليشيات المناوئة للغرب والإرهاب الجهادي على السلطة في تلك الأماكن. ويشير هذا الواقع إلى أنه في حال إعلان كردستان استقلالها، فمن غير المحتمل أن تتخلى الولايات المتحدة عنها، لأن ذلك سيسمح لأعداء أمريكا في المنطقة بالتدخل وملء الفراغ الناتج عن انسحابها، إما بزعزعة استقرار كردستان (والمنطقة)، أو بتوسيع علاقاتها ونفوذها على المشهد السياسي الكردي. وقد تعلمت واشنطن دروساً قاسية من انسحابها من العراق في العام 2011 الأمر الذي أدّى إلى هيمنة إيران على العراق والمنطقة. هذا لا يعني أنّ أكراد العراق سيكونون راضين. فعلى الصعيد المحلي، لا تزال هناك انقسامات وتسابق على الموارد والسلطة، ناهيك عن وجود حالة من عدم الرضا العام عن الخدمات والفساد والبيروقراطية والمحسوبيات. ويمكن أن يؤدّي الفشل في معالجة الانقسامات إلى تفاقم السخط والاستقطاب الاجتماعيين. ومنذ تأسيس حركة غوران المعارضة، أظهرت الحركة قدرتها على تعطيل السياسة الكردية وزعزعة الاستقرار في كردستان، وهذا يعني أن الحركة، على الرغم من مشاكلها الداخلية، يمكن أيضاً أن تكون عائقاً أمام تحقيق الاستقلال الكردي. لكن مع ذلك، فإن المناخ السياسي في كردستان سلس وديناميكي، كما يتضح من الشقاق الحزبي داخل حركة غوران، الأمر الذي منع الحركة من تحقيق تطلعاتها بأن تصبح حزباً معارضاً قابلاً للاستمرارية. وفي الحقيقة فقد أدى ظهور غوران إلى إعادة النظر في السياسة في كردستان، ودفع بالطرفين الرئيسيين إلى إعادة التفكير في تفاعلهما مع الناخبين، الأمر الذي عزز بدوره قوة النظام السياسي في كردستان.

إنّ مشكلة مشروع بناء الدولة الكردية لا تكمن في الانقسامات بين الأطراف المتعددة، بل في مراكز السلطة المتعددة التي ظهرت على مدى السنوات العشرين الماضية، ولا سيما نتيجة الشقاق بين غوران والاتحاد الوطني الكردستاني. وعلى هذا النحو، يمكن أن تقع المسؤولية على عاتق الحزب الديمقراطي الكردستاني (الذي قدّم له تنظيمه وقدرته على وأد المنازعات “الداخلية”، ميزة تنافسية) ليس فقط لضمان تنافسيته السياسية في السنوات المقبلة، بل أيضاً لإدارة السياسة الداخلية والتوسط بين المتنافسين لنقل كردستان نحو الاستقلال، بعد الاستفتاء.