Commentary

بعد خمس سنوات، الدروس المستفادة من الثورات في شمال أفريقيا

بعد مرور خمس سنوات على اندلاع الثورات العربية، خمد التفاؤل وتحوّل إلى تشاؤم ، حيث أرخت الصراعات المستمرّة في سوريا وليبيا واليمن بظلالها على المشهد السياسي، وقوّضت الآمال باحتمال حصول انتقال ديمقراطي دائم للسلطة في المنطقة. ورغم المشهد الكئيب، ثمة بوادر أمل باستمرار العملية الانتقالية في كلٍ من تونس وجارتها المغرب، حيث تستمر المطالبات بانفتاح سياسي منضبط في ظل السلطة الحاكمة.

لا تنتهي الثورات بين ليلة وضحاها، وقد تمرّ سنوات قبل أن نسطّر الفصل الأخير من حكاية ما يُسمّى بالربيع العربي. لكن وبعد خمس سنوات، ربما تستخلص الأطراف الرئيسة المشاركة في هذه الثورات – وهم الإسلاميون، الشباب العرب، والأنظمة بحدّ ذاتها – عِبَراً مفيدة من هذه التجربة. قد نشأ في بعض الأحيان نوع من التعاون بين الأنظمة الحاكمة وبين الإسلاميين، وأحياناً أخرى نشأ صراع، وكلاهما يحاولان باستمرار استمالة واحتواء الشباب الذين يُعتبرون المحرّك الأول للثورات. إن التفاعل المتبادل بين القوى الثلاث ودراسة طرق استيعابها لدروس السنوات الخمسة الماضية، من شأنه إعطاء لمحة عن التحوّلات المستمرة التي تتجلّى في العالم العربي.  

الإسلاميون

لوحِظ تباين كبير، اختلف من بلدٍ لآخر، بين معدّلات الربح والخسارة التي حقّقها الإسلاميون في المنطقة منذ بدء الاضطرابات السياسية في العام 2011. ففي المغرب حقّق حزب العدالة والتنمية مكاسب قوية، إذ أخذ عبرةً من الجارة الجزائر التي شهدت في التسعينيات حرباً أهلية مريرة خاضتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ ضد النظام الجزائري. لذا التزم الحزب جانب الحذر وآثر النهج التدريجي، وبدأ منذ عام 1997 بترشيح أعضاء من الحزب لشغل مقاعد في مجلس النواب لكنه لم يسعَ إلى الهيمنة، بل كان يتعمّد تقديم عدد محدود من المرشحين لتبديد أي إيحاءٍ بالتهديد.

على مدى سنوات، أثمر النهج التدريجي الذي انتهجه حزب العدالة والتنمية الذي يوصف بأنه “الحزب الذي لم يرغب بالفوز”، بحيث لم يتم استبعاده من الأجواء الشعبية والملكية. وقد أتاحت الإصلاحات الدستورية والانتخابات التي حصلت في العام 2011 للحزب أن يشكّل الحكومة الجديدة. وفي الانتخابات التاريخية للمجالس الإقليمية التي تمّت في سبتمبر 2015 – عندما صوّت المغاربة للمرة الأولى لاختيار ممثليهم المحليين والإقليميين بشكل مباشر- فاز الحزب بـ 25 بالمئة من المقاعد وتمكّن من الحصول على أغلبية الأصوات في المدن الرئيسة مثل الدار البيضاء، الرباط، سلا، مراكش، فاس، مكناس، طنجة، القنيطرة وأغادير.

ورغم المخاوف الأوّلية من أن يقوم حزب العدالة والتنمية بفرض أجندة اجتماعية متحفظة، إلا أن تركيزه انصبَّ على تحسين وضع الاقتصاد المغربي. وعندما سُئل رئيس الوزراء عبد الله بنكيران الذي ينتمي إلى حزب العدالة والتنمية ما إذا كان قد تخلّى عن ايديولوجيته الإسلامية أجاب: “لم آتِ إلى هذا المنصب كي أغيّر المعتقدات الدينية، بل أتيت لأجد حلولاً للمشاكل”. الفساد هو من أهم المشاكل التي يواجهها المغرب، وقد تعهّد بنكيران بمعالجة هذه المسألة، لكنه يركّز حتى الآن على الفساد في المستويات الدنيا، بدلاً من التركيز على فساد الملك وحاشيته (التي يطلق عليها المغاربة اسم “المخزن”). والسؤال الأهم يبقى ما إذا كان حزب العدالة والتنمية سيتمكن من الحدّ من الفساد المستشري في المستويات العليا.

في تونس أوجد الربيع العربي فسحةً لظهور حزب النهضة الإسلامي الذي حقّق مكاسب في الانتخابات النيابية والرئاسية معاً. في العام 2013، عندما مُنعت جماعة أنصار الشريعة السلفية من عقد مؤتمراتها الحزبية -الأمر الذي أدّى إلى بعض الاشتباكات- عمل حزب النهضة مع القوى السياسية الأخرى على إعادة العملية الانتقالية إلى مسارها الصحيح. كما تعاون أيضاً مع المعارضين على تمرير قانون استُقبل بدعم شعبي، واعتُبر نموذجاً للإصلاح الدستوري على المستوى الإقليمي. ورغم خسارته في الانتخابات الرئاسية التي تمّت في العام 2014، حظي حزب النهضة ببعض الثقة من التونسيين، انطلاقاً من قدرته على تقديم التنازلات والتخلي عن السلطة.

في مصر، ورغم فوز الإخوان المسلمين في الانتخابات النيابية والرئاسية معاً، إلا أنهم خسروا كثيرا. في الانتخابات النيابية التي جرت في العام 2011 حصل الإخوان على حصة الأسد من المقاعد بنسبة تصويت بلغت 37,5 بالمئة، ووعدوا بعدم تقديم مرشّح رئاسي.

لكن جماعة الإخوان المسلمين نسيت حكمتها “مشاركة لا مغالبة” وغيّرت مبدأها فقرّرت تقديم مرشّح للرئاسة هو مموّلها وعقلها التنظيمي المدبّر خيرت الشاطر. بعد استبعاد هذا الأخير، أصبح محمد مرسي، الحسن النية لكن السيء الحظ، هو المرشّح. بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية بفارق ضئيل، زاول مرسي مهامه بطريقة سيئة إلى أبعد الحدود، ولم توفِ حكومته بالتزاماتها من الناحية الاقتصادية، كما فشلت في تنفيذ أي من الإصلاحات التي وعدت بإجرائها في القطاع الأمني، واكتفت بإصدار المراسيم الرئاسية بدلاً من بناء التوافق. وبسبب هذه العثرات وغيرها سلخ مرسي وجماعة الإخوان أنفسهم عن الكثير من شرائح الشعب المصري، ما مهّد الطريق لانقلاب عسكري حصل بدعم شعبي واسع.

هنا تكمن العبرة الأساسية التي يتوّجب على الإسلاميين فهمها: إن التعنّت ونقص البراغماتية في السياسة يأتي بنتائج عكسية. لقد أظهر الإسلاميون في المغرب وتونس التزامهم بالواقعية وعملوا مع الأنظمة السياسية الراهنة (التي بدأت تشهد تغيّرات). وقد سمح لهم هذا النهج تدريجياً استخدام المساحة المتاحة ضمن الأنظمة السياسية المقيّدة. إذا استطاع الإخوان المسلمون في مصر العودة مجدّداً إلى الساحة السياسية، فعليهم أن يتذكروا هذا الدرس ويطبّقوه.

الشباب

يمكن القول إجمالاً إن الشباب- الذين كانوا المحرّك الرئيس للثورات- خسروا على عدّة جبهات. فالبطالة بين صفوفهم ما تزال في تصاعد. حتى القصة الناجحة تونس وصلت نسبة البطالة إلى ما يقارب 40 بالمئة في العام 2015، في حين وصلت في المغرب إلى 20 بالمئة في العام 2014، وإلى 26 بالمئة في مصر في العام 2015. وفي الجزائر التي تُعتبر من البلاد الغنية بالنفط التي لم تتأثّر كثيراً بالثورات، وصلت نسبة البطالة إلى 25 بالمئة في العام 2014.

ورغم قيادتهم للكثير من هذه الثورات، لا يزال الشباب يصارعون للوصول إلى مواقع السلطة، والسبب هو قلة الخبرة وعدم وجود هياكل تنظيمية لهم، وافتقارهم للموارد. ومن المفارقات المحزنة أن الثورة التونسية التي أطلقها محمد بوعزيزي ابن الستة وعشرين عاماً وضعت البلاد تحت قيادة الباجي قائد السبسي ابن الثمانين. وفي الجزائر، تقل أعمار70 بالمئة من الشعب عن الثلاثين، ومع هذا يترأس البلاد عبد العزيز بوتفليقة، الرجل المريض ابن الثامنة والسبعين.

علاوةً على ذلك، فإن اللاعبين السياسيين الحاليين المتمثلين بالإسلاميين أو بالأنظمة الحاكمة، يحاولون باستمرار إما استمالة الشباب العربي أو تهميشه، فهناك مثلاً 4 بالمئة من أعضاءالمجلس الوطني التأسيسي في تونس، الذي أُنيطت به مهمة وضع أول دستور للبلاد بعد الثورة، تحت الثلاثين بينما الأغلبية الساحقة (76 بالمئة) هم فوق الخمسين. وفي المغرب التعاون بين الملك من جهة وحزب العدالة والتنمية من جهة أخرى همّش حركة شباب 20 فبراير التي قادت احتجاجات عام 2011. وفي مصر يتم تشجيع السياسيين الشباب المقرّبين من النظام والمموَّلين من قِبَل حلفائه، على المشاركة في العملية السياسية، بينما يقبع آلاف المصريين الشباب – بمن فيهم الكثير من طلائع الثورة– خلف جدران السجون. وفي تقرير صدر العام الماضي عن منظمة العفو الدولية جاء إن “جيل الاحتجاج” في مصر في العام 2011 أصبح هو نفسه “جيل السجون” في العام 2015.

حتى الآن، وفي كل الانتخابات التي تشهدها منطقة شمال أفريقيا منذ اندلاع الثورات العربية، يبدو أن المنافس الرئيس هو إما الإسلاميون أو بقايا النظام القديم. فمثلاً المنافسة في المغرب هي بين حزب العدالة والتنمية وبين حزب الأصالة والمعاصرة المدعوم من الملك. أما المتنافسون في تونس فيشملون حزب النهضة وحزب نداء تونس، الذي يضمّ العديد من السياسيين الذين عملوا في عهديّ بن علي وبورقيبة. وفي مصر المنافسة مستمرة بين العسكر وجماعة الإخوان المسلمين، لكن بدرجة أقّل لاسيّما بعد تشتّت قيادات الجماعة بين السجون والمنفى أو الموت. علماً بأن الضعف قد أصاب الكثير من الأحزاب التي تشكلت بعد الثورات.

العبرة التي يجب أن يستخلصها الشباب هي: إن الاحتجاجات يجب أن تترافق مع بناء و/أو مشاركة في هياكل تنظيمية سياسية تستثمر الحركات التي تحدث في الشارع. إن هتاف “عيش، حريّة، عدالة اجتماعية” هي نداء قوي قادر على استقطاب الملايين دون شك، لكنه بحاجة إلى منبر سياسي قادر على استنباط الدعم الشعبي وتشريع التغيّرات السياسية المفيدة. إذا لم تتم بلورة الخيار السياسي الجديد فإن الثورات العربية ستبقى عالقة للأبد بين أيدي الجنرالات والشيوخ.

الأنظمة

إن الخطاب المفرط في الوطنية لن يفيد الأنظمة كثيراً، فالبطالة المترافقة بتضخّم شديد في مصر، وتراجع أسعار العملة، وتضاؤل احتياطيات العملة الأجنبية، من شأنه تأجيج الاحتجاجات أكثر وأكثر. وأكبر دليل هو الاحتجاجات ضد البطالة التي تشهدها تونس حالياً، والتي تنذر بالمزيد من الاحتجاجات التي قد تشهدها منطقة شمال أفريقيا ما لم تستدرك الأنظمة الأمر وتأخذ قضية بطالة الشباب على محمل الجد. تؤكد الاحتجاجات التونسية أن العملية الانتقالية السياسية الناجحة نسبياً ليست كافية ما لم تترافق مع عملية انتقالية اقتصادية ناجحة بالدرجة ذاتها. حتى الجزائر الغنية بمصادرها، هي الأخرى معرّضة للخطر: فالضغوط الديموغرافية المترافقة بارتفاع معدّلات البطالة وانخفاض أسعار النفط، قد تؤثّر سلباً على استقرار البلد.

يمكن للاحتجاجات في الشوارع أن تتمخّض عن عواقب أمنية أيضاً، مع احتمال توّجُه الشباب نحو الراديكالية والتطرّف. ليس من المستغرب أن نرى أن تونس، التي تعاني من مشكلة البطالة، تورّد أكبر نسبة من عدد السكان (Per Capita) من مقاتلي داعش في العالم. وهناك الكثير من الدراسات الحديثة التي تؤكد على وجود علاقة قوية بين التهميش الاقتصادي والإرهاب. في مصر تُعتبر هذه المشكلة أكثر تعقيداً، فالشباب المحرومون من ممارسة حقوقهم السياسية، والمفتقرون إلى الفرص الاقتصادية المناسبة، هم الوقود المثالي للإرهاب في شبه جزيرة سيناء.

العِبرة التي يجب أن تستخلصها الأنظمة: إن النمو والاستقرار في منطقة شمال أفريقيا يتوقفان على شباب تلك المنطقة. فجيل الألفية العربي-الذي تزيد أعداده بشكل تصاعدي- يجد نفسه في بيئة مختلفة كلياً عن الأجيال السابقة: فهو جيل يتواصل مع العالم بشكل غير مسبوق، وهو أكثر ثقافةً وطموحاً. لقد عايش هؤلاء الشباب الثورات وشاركوا فيها، ويدركون أن النتائج السياسية لم تعد محتومة. يجب أن تحرص أنظمة هذه المنطقة على إشراك الشباب في الهيكلية الاقتصادية والسياسية للدول، كي لا يتحولوا إلى جهةٍ دائمة تزعزع استقرارها.