Commentary

الأردن ومصر والردّ على داعش: ما وراء الضربات الجوية

الثأر، أو “الانتقام بالدم” في اللغة العربية: هو الوصفُ الذي أطلقه المتحدث باسم سلاحِ الجو الملكي الأردني على الضرباتِ الجوية المتجددة في الأسبوع الماضي ضدَّ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والتي نُفِّذتْ انتقاماً لمقتلِ الطيار معاذ الكساسبة الذي أُسقطتْ طائرته. وقد تصدَّرت هذه الكلمةُ الصحفِ المصرية، عقب قيامِ الطائراتِ الحربية المصرية بقصفِ مدينة درنة الليبية، التي تسيطر عليها داعش، انتقاماً لقيامِ التنظيم بقتلِ 21 من المسيحيين المصريين.

وأشار الكثيرون في مصر والأردن إلى التشابه بين الحالتين، بما في ذلك ترتيبِ وقفاتٍ احتجاجية على ضوء الشموع وإجراء اتصالاتٍ رفيعة المستوى للتعبيرِ عن التضامن. وفي هذا الصدد، قال أحد المحللين السياسيين المصريين لموقع أخبار مدى مصر: “إنَّ مقتلَ مواطنٍ مصري لا يختلف عن مقتلِ الطيار الأردني”.

نشرت داعش فيلم حرق الكساسبة حياً حتى الموت في يوم 3 فبراير، في محاولةٍ تهدف ظاهرياً إلى دقِّ إسفينٍ بين النخبةِ الحاكمةِ في الأردن (وخاصة الملك عبد الله) والشعب الأردني الذي، لا بد من القول أنه لم يكنْ له أي رأي في القرار الأولي للانضمامِ إلى الحربِ الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضدَّ التنظيم. فقد نجح التحالف الإقليمي ضدَّ داعش في سوريا، استناداً إلى بيان جدة في سبتمبر 2014، في توفيرِ قشرةٍ رقيقةٍ من المشاركةِ العربية لتغليفِ الضرباتِ الجوية التي تقودها الولايات المتحدة، بيْد أنَّ الحكوماتِ العربية لم تفعلْ شيئاً يُذكر لكسب تأييد شعوبها.

ومع ذلك، في الأسابيع التي تلت بثّ الفيديو، فشلت أعمال التنظيم في تقسيم الشعب الأردني، بل أثارت بدلاً من ذلك غضباً موحداً لدى أغلبيةِ الشعب. وفي هذا السياق، طالب صافي الكساسبة، والد الطيار، الحكومةَ الأردنية بأن تثأر لدم معاذ والأمة”.

وطالب متظاهرون وصحفيون الحكومةَ بإعدام جميع المعتقلين لديها من المتعاطفين مع داعش، واستجابت الحكومة لذلك على الفور وأعدمت اثنين من الارهابيين العراقيين المحكوم عليهما والموجوديْن في سجن أردني، وهما ساجدة الريشاوي وزياد الكربولي. كما احتشد الآلاف من المواطنين لاستقبال الملك عبد الله لدى عودته إلى البلاد، وقد تعهَّد بشنِّ “حربٍ لا هوادة فيها” ضدَّ التنظيم.

وحتى الأصوات الراديكالية المناهضة للائتلاف اضطُرَّتْ إلى تعديل خطابها، خوفاً على الأرجح من الغضبِ الشعبي أو من قضاء فترةٍ من الوقت في السجونِ الأردنية. كما قام منظِّر تنظيمِ القاعدة السابق أبو محمد المقدسي، الذي تمّ الإفراج عنه من السجن، بإدانة حرْق الكساسبة باعتباره عملاً غير إسلامي، في حين قال أبو سياف، وهو زعيمٌ بارزٌ من السلفيين الجهاديين، إن إعدام الكساسبة “لا صلة له بالإسلام”، وأنحى باللائمة لحرقه على ضباطٍ بعثيين سابقين بين صفوفِ تنظيمِ الدولةِ الإسلامية.

تجدر الإشارة إلى أنَّ ذبحَ العمالِ المصريين الأقباط في ليبيا قد أعطى مصداقيةً أكبر للفكرةِ القائلة بأنَّ تنظيمَ الدولةِ الإسلامية لم يكنْ يهدف إلى زرعِ الفتنةِ في الخارج، بل إلى جرّ دولٍ مثل مصر والأردن إلى مزيد من الصراعاتِ المشتعلة على حدودهما، بغضِّ النظرِ عمَّا إذا كان هذا انطلاقاً من حماس مروع أو منطق استراتيجي لحرب غير متكافئة.

وعلى الرغمِ من أنَّ شرائح كبيرة من الأردنيين، والآن من المصريين، قد التفت حولَ علمِ بلادهما في مواجهةِ تلك المأساتين، إلا أنه هناك احتمالٌ واضح لحدوثِ ردِّ فعلٍ سلبي قد يُثقل كاهلَ كلٍ من البلدين. فبالإضافةِ إلى المشاكلِ الاقتصادية والاجتماعية المزمنة لديهما، ثمة هامشٌ راديكالي من الجهاديين العنيفين ــــ الموجودين داخل الأردن وفي شبه جزيرة سيناء في مصر ــــ سوف يجدون المزيدَ من التشجيعِ لإثارة الفوضى داخل حدود البلدين، رغم الجهودِ الكبيرة التي تبذلها دائرة المخابرات العامة الأردنية القوية الأداء أو الجيش المصري لمنع ذلك.

وفي حين أنَّ نسبة أكبر من سكانِ البلدين أصبحت الآن تعتبر أنّ هذه المواجهة هي “حربهم”، كان معظمُ الشعب في مصر والأردن في نوفمبر يعتبرون أنَّ الضرباتِ الجوية ضدَّ داعش تعملُ، إلى حدٍّ كبير، على تعزيزِ مصالحِ الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل ـــ وهي الدول الثلاث نفسها التي اعتُبرِتْ أنَّها تمثّل أكبر التهديداتِ لأمنِ المنطقةِ واستقرارها.

إنَّ لغة الحملة العسكرية لا تشجّع فعلاً على الإصلاحٍ السياسي في أيٍّ من البلدين، مما يساهم في توسّع الفجوةِ بين الدولةِ والمجتمع. وقد قام الأردن بسجن اثنين من الصحفيين لتعارض كتاباتهما مع الخط الرسمي حول المفاوضات لتأمين الإفراج عن الكساسبة، في حين أن الحكومة المصرية تسعى لرفعِ مستوى قوانين مكافحةِ الإرهاب لمنعِ وحجبِ جميع محتوى شبكة الإنترنت المتعلق بـ “الإرهاب”، غير المحدد تعريفه حتى الآن.

لقد تضرَّر الاقتصادُ الأردني من سنوات الحربِ التي تدور رحاها في سوريا المجاورة، ووقع تحت وطأةِ تدفُّقِ اللاجئين السوريين والآن العراقيين. كما يلوح في الأفق الآن احتمالُ تعرُّضِه إلى خسارة مصدرٍ آخر للعملةِ الأجنبية الثمينة عندما يتجه السياحُ الغربيون والعرب من دولِ الخليج إلى أماكن أخرى، خشيةً زيارةِ بلدٍ يبدو أنه دخل في منطقةِ حرب. أما الاقتصاد المصري، فما زال متعثراً، رغم الملياراتِ التي قُدِّمتها العديد من الدول الخليجية على شكل مساعدات على مدى السنواتِ القليلة الماضية.

على الرغم من ذلك، لا تزال حتى الآن الجهودُ المبذولة للحدِّ من التهديداتِ تتركَّز بشكلٍ عام على المسائل العسكرية والأمنية. وفي السياق ذاته، قام المسؤولون الأمريكيون بتعجيلِ تسليم شحناتٍ من الأسلحةِ والذخائر إلى الأردن، في حين غامر وفدٌ من لجنةِ الخدمات المسلحة في مجلسِ النواب الأمريكي بالقدومِ إلى عمَّان لمناقشةِ استراتيجيات مكافحةِ الإرهاب. أما دولة الإمارات العربية المتحدة، وكذلك البحرين، فقد انضمّتا مرةً أخرى إلى الحرب ضد داعش، وأرسلتا طائرات حربية لدعمِ العمليات الجوية الموسعة. وفي هذه الأثناء أرسل الأردن الآلافَ من قواته إلى الحدودِ مع العراق، على الرغمِ من أنَّ الحكومة قد استبعدت حتى الآن الدخولَ في حربٍ برية.

ومن جهتها، دعت مصر لإصدارِ تفويضٍ من الأممِ المتحدة لدعمِ تحالفٍ دولي ضدَّ داعش في ليبيا، في حين استغلَّ وزير الخارجية سامح شكري الأزمة للدعوةِ إلى تقديمِ قدرٍ أكبر من الدعمِ لمصر من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي للقتالِ ضدَّ التنظيم ــــ وكذلك لمواصلة حرب مصر الداخلية على الإرهاب، التي كثيراً ما تتسم بالعشوائية. وقد أبرز الرئيس السيسي هذه الارتباطات في لقاءٍ دبلوماسي مع وزير الدفاع الفرنسي جان- إيف لودريان ، عندما أبرمت حكومة السيسي، التي تعاني من ضائقةٍ مالية، صفقةَ شراءِ 24 طائرة حربية من طراز رافال (Rafale) الفرنسية الصنع.

ورغم أنّ التدخّل العسكري سيبقى سياسةً لا مفر من اللجوء إليها ضدَّ داعش، إلَّا أنه لا بد من إيلاء دور أكبر للدبلوماسيةِ والتنمية لاستئصالِ حالاتِ فراغ السلطة التي تسمحُ لتنظيمٍ من هذا النوع بالنمو والازدهار. فبالنسبة للأردن، هذا يعني بذل جهودٍ مضاعفةٍ من قبلِ المجتمع الدولي ــــ وخاصة الولايات المتحدة وروسيا وإيران ــــ لإيجادِ حلٍّ سياسيٍ للصراعِ في سوريا، والذي أدى إلى تفاقمِ المشاكلِ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الملحّة في المملكة. وكما أشرنا في موجز السياسة الذي أصدره مركز بروكنجز الدوحة مؤخراً عن الأردن، على الدبلوماسيين الأجانب والمسؤولين الأردنيين العمل معاً لضمانِ أن المساعدات المالية تتدفَّق نحو تعزيزِ تطوير اقتصادٍ إنتاجي ـــ يكون من شأنه استيعاب مئاتِ الآلاف من اللاجئين ومن جحافلِ العاطلين عن العملِ على حدٍّ سواء.

وعلى نحوٍ مماثلٍ في مصر، فمن شأنِ التوصل إلى حلٍّ سياسي للصراع الفصائلي الحالي في ليبيا أنْ يُبددَ بشكلٍ أفضل مخاوف مصر بشأن أمن الحدود والتطرُّفِ الإقليمي، أكثر مما يفعله شنِّ أيِّ غاراتٍ جويةٍ أخرى ضدَّ مواقعِ التنظيم ، مهما كانت رغبةُ الشعب المصري في الانتقام. فإيطاليا ذاتها، وهي القوة الأوروبية الأقرب للأزمة، قد أكَّدت على نحوٍ متزايدٍ على الحاجةِ للتوصلِ إلى حلٍّ من هذا القبيل.

ومن جهتهم، لا بدّ لحلفاء مصر في الخليج، الذين يساورهم قلقٌ شديد بشأن استقرارِ البلاد، أن ينتهزوا فرصة انعقاد المؤتمرِ الاقتصادي في شرم الشيخ في مارس لتوجيه الاستثمارِ الفعال إلى مصر، بدلاً من دعمِ الجنيه المصري في البنكِ المركزي أو صبِّ استثماراتٍ في بناءِ شققٍ راقية في الصحراء.

إنْ كانت الحكومتان المصرية والأردنية تخشيان تهديد داعش الذي يلوح في الأفقِ، فيجبُ عليهما وعلى حلفائِهما العمل على تقويضِ أسسِ وجودِ هذا التنظيم. أما الثأر وحده، فلنْ يحقِّقَ لهما أهدافَهما.