يجتاح داء كوفيد 19 الذي يسبّبه فيروس كورونا المستجدّ منطقة الشرق الأوسط ويعيد تأجيج التوتّرات الدينية، مع تشدّد الحكومات أكثر فأكثر بممارسات مُطبّقة منذ زمن بحجّة محاربة الجائحة.
ولا شكّ في أنّ هذه القيود، بما فيها إغلاق المقامات الشيعية في العراق وإيران وإلغاء الحجّ إلى مكّة في المملكة العربية السعودية، ضروريةٌ للحفاظ على الصحّة العامة، إذ تستقطب عادة هذه المواقع ملايين الحجّاج المسلمين. ويُقبّل الشيعيون جدران المقامات حيث دُفنت الشخصيات الدينية. وتشكّل هذه التجمّعات العريقة بؤراً للأمراض في الأزمان العادية، فلا شكّ بالتالي في أنّها ستتسبّب بتفشّي فيروس كورونا المستجدّ أكثر، وربّما بشكل لم نعهده من قبل.
بيد أنّه قد يكون لهذه القيود الدينية تداعياتٌ مضرّة. فإن وضعنا حيطة الحكومات جانباً، يعتبر الكثيرون في دولٍ مثل المغرب والمملكة العربية السعودية والبحرين والعراق هذه القيودَ انتهاكات للممارسة الدينية، لا بل قمعاً صارخاً للأقلّيات الدينية في بعض الحالات.
والسؤال الذي يجول في خاطر الكثير من المسلمين في المنطقة هو: هل سيعود التعبير الديني، كما عرفوه، إلى سابق عهده بعد انقضاء عصر فيروس كورونا المستجدّ؟ أم هل سيتمّ استخدام هذه الوضع الراهن الجديد كتبرير آخر لتهميش التعبير الديني الذي يُعتبر مُتطرِّفاً أكثر من اللازم أو الممارسات الدينية التي تُعتبر غير ملائمة من الناحية السياسية؟
فقد عزلت المملكة العربية السعودية مثلاً محافظة القطيف الشرقية، التي تعيش فيها أقلّية شيعية عددها يناهز 500 ألف شخص، وحجرت الناس هناك. وكانت هذه المحافظة الوحيدة في المملكة التي يتمّ عزلها بالكامل. والشيعة في القطيف في مواجهة دائمة مع الحكومة السعودية ذات الأكثرية السنّية. ويقول المسؤولون السعوديون إنّ العزل ضروري لوقف حركة الدخول إلى المحافظة والخروج منها من أجل منع كلّ الأسفار إلى الدول المجاورة ومنها. فالحجّاج الشيعة يسافرون إلى إيران مثلاً للحجّ إلى المقامات المقدّسة في مدينتَي قم ومشهد، مع أنّ هذا مخالف للقانون.
ووجّه المسؤولون السعوديون أصابع الاتهام إلى إيران، بؤرة الجائحة في الشرق الأوسط، لنشرها الفيروس في أرجاء المنطقة. وإيران هي الغريم الإقليمي الأول للمملكة العربية السعودية، وتثير هذه القيود أسئلة حول ما إذا كان للمملكة دوافعُ أخرى في المسألة وما إذا كان سيُعاد فتح القطيف عندما تنخفض معدّلات الإصابة بفيروس كورونا المستجدّ. ويحرُم منعُ الدخول إلى القطيف والخروج منها الشيعةَ من زيارة المقامات المقدسة في النجف وكربلاء في العراق الذي تتاخم حدوده المملكة العربية السعودية. ويزور الملايين من الحجّاج الشيعة هذه المقامات التي تعتبر الأكثر قدساً، في هاتَين المدينتين كلّ سنة.
وبإمكان السعوديين الإبقاء على حالة الإغلاق الكامل إلى أجل غير محدّد فيصعّبون بذلك على الشيعة أن يوطّدوا علاقاتهم مع المجتمعات الشيعية المجاورة. ففي السنوات الماضية الأخيرة، تطوّرت الشبكات والروابط عبر الوطنية بين المجتمعات الشيعية عبر الحدود، وباتت الآن في خطر.
في البحرين كذلك، تؤخّر الحكومة ذات الأكثرية السنّية عودة أكثر من ألف حاجّ شيعي من إيران بسبب فيروس كورونا المستجدّ، وكان هؤلاء قد زاروا مدينة مشهد المقدّسة التي تضمّ مقام ثامن الأئمّة الشيعة علي بن موسى الرضى. وعلى الرغم من أنّ هذه الخطوة احتياطٌ صحّي منطقيّ، كان باستطاعة السلطات، عوضاً عن تركهم خارج البحرين من دون أيّ خطّة بشأنهم، السماح لهم بالعودة وفرض عليهم البقاء في الحجر كما هي المقاربة المعتمدة في الكثير من الدول في العالم.
وتعتمد الحكومة البحرينية نهجاً تمييزياً إزاء سكّان البلاد الشيعة، وهم الأكثرية، منذ عقود، وقد تفاقم هذا السلوك بعد الثورة بقيادة شيعية ضدّ الحكومة في العام 2011. والحكومة البحرينية عدوّ لدود لإيران، وغالباً ما تدّعي أنّ الحجّاج الشيعة الذين يزورون إيران منخرطون فعلياً في محاولة لتقويض الحكومة البحرينية بدعم من طهران.
واتّخذت الحكومة المغربيّة إجراءات قاسية في وقت مبكر لمحاربة تفشّي فيروس كورونا المستجدّ، فعلّقت في 16 مارس حركة الطيران وأغلقت مواقع عامة مختلفة، من بينها المطاعم والمقاهي والنوادي الرياضية والحمامات ودور السينما. وفي اليوم عينه، أصدر المجلس العلمي الأعلى في المغرب فتوى بإغلاق المساجد بشكل مؤقّت. وصدرت الفتوى تلبية لطلب الملك محمد السادس، بصفته “أمير المؤمنين”. وفي 20 مارس، أعلنت البلاد “حالة طوارئ صحّية” ونشرت القوى الأمنية لتنفيذ الحظر على التجمّعات العامة.
وشهد إغلاق المساجد مقاومة. فقد نشر الشيخ السلفي أبو نعيم فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يستنكر فيه الإجراء المتّخذة. فتمّ اعتقاله بسرعة “للتحريض على الكره” و”تقويض النظام العام”. واستشهد سلفيون آخرون، من بينهم حسن الكتاني، بفتوى أصدرها رجل الدين الكويتي حاكم المطيري الذي ندّد بإغلاق المساجد وتعليق الصلوات اليومية في المنطقة. وتبعاً لتقارير إخبارية عربية، تجمّع العشرات في مدن طنجة وفاس وسل وتطوان في الخارج للصلاة والاحتجاج على إغلاق المساجد في 21 و22 مارس.وتمّ اعتقال عدّة أشخاص لانتهاكهم قرار حالة الطوارئ الصحّية. وفيما التزم معظم المغربيين بالحظر على التجمّعات، بما فيها التجمّعات الدينية، أعرب الكثيرون عن مخاوفهم من أثَر هذه الإجراءات في الطقوس الدينية، على غرار مراسم الدفن. فقد أصدرت وزارة الصحّة “بروتوكولاً خاصاً” لدفن أولئك الذين قضَوا بسبب فيروس كورونا المستجدّ، فضلاً عن توجيهات جديدة لمراسم الدفن عموماً بعدما أُغلقت المساجد. ويعني ذلك أنّ الصلوات لا تُقام في المساجد بل في مواقع الدفن، مع السماح لعدد محدود من الأشخاص بالحضور.
للوقت الراهن، تتطابق هذه القيود المفروضة حول منع التجمّعات العامة، بما فيها الفعاليات الدينية، مع السياسات المطبّقة في أرجاء عالم، كما أوصت منظّمة الصحّة العالمية، من أجل الحدّ من تفشّي الفيروس. بيد أنّ هذه القيود لا تجري في فراغ ويمكن اللجوء إليها في المستقبل لقمع المعارضة والحرّية الدينية. فقد استهدفت السلطات المغربية في السابق السلفيين والإسلاميين عموماً، ولا سيّما بعد هجوم إرهابي كبير في العام 2003 في الدار البيضاء. واستهدف النظام بشكل خاص المجموعة الإسلامية المعارضة جماعة العدل والإحسان. بيد أنّ هذه المجموعة أعربت عن تضامنها مع الإجراءات الحكومية وشجّعت الناس على البقاء في منازلهم، في خطوة تضامن نادرة.
أما في العراق، فقد أثير الجدل حول دفن ضحايا فيروس كورونا المستجدّ. فقد رفض بعض العراقيين دفن الأموات لخوفهم من إمكانية تفشّي المرض من الجثث إلى السكّان. ومَنع بعض المحتجّين السلطات من دفن الضحايا. فتدخّل آية الله الكبرى علي السيستاني، الذي يُعتبر المرجع الديني الأعلى في العراق، بفتوى وأعلن أنّه ينبغي تكفين الموتى بثلاثة أثواب ثمّ دفنها، كما هو مفروض في الإسلام. فحرْق الجثث محرّم في الإسلام.
للشرق الأوسط تاريخ طويل من القيود والمحسوبيات الدينية التي تفرضها الحكومات. فتبعاً لدراسات أجراها مركز بيو للأبحاث، الذي يتابع القيود الدينية لسنوات، احتلّ الشرق الأوسط المرتبة الأعلى في العالم للقيود الدينية في كلّ سنة بين العامَين 2007 و2017. وتبيّن للمركز أنّ 19 من أصل 20 دولة في المنطقة (عدا لبنان) تفضّل ديانة ما، و17 منها لها ديانة رسمية واثنتَين منها لهما ديانة مفضّلة.
قد يتراجع فيروس كورونا المستجدّ في نهاية المطاف في أرجاء العالم، لكنّ أثره في السياسة والممارسة الدينية في الشرق الأوسط قد يبقى حاضراً لسنوات وسنوات من دون أن يلوح أيّ علاج لذلك في الأفق.
Commentary
هل تؤجّج قيود فيروس كورونا المستجدّ التوتّرات الدينية؟
الإثنين 13 أبريل 2020