على مدار الأسابيع القليلة الماضية، رأينا العديد من الحكام العرب يشرعون في إجراء إصلاحات سياسية محدودة من أجل “المحافظة على حكمهم” و”عدم الإطاحة بهم”. فبعد أيام من الاحتجاجات، أعلن الرئيس المصري حسني مبارك تنحيه عن منصبه في نهاية فترة ولايته، وهذا ما فعله أيضًا الرئيس علي صالح حاكم اليمن. وفي الأردن، أقال الملك عبد الله حكومته وعين رئيسًا جديدًا للوزراء. حتى الرئيس السوري بشار الأسد وافق على السماح بإجراء انتخابات محلية أملاُ في تجنب التعرض لأحداث مماثلة.
على الرغم من ذلك، لا يمكن أن يستمر الطغاة في السلطة عن طريق القمع وحده. في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اعتمدت الحكومات على “صفقة الحكم الاستبدادي” – وهي عبارة عن تعاقد ضمني بين النخبة الحاكمة والمواطنين يتخلي المواطنون بموجبها عن النفوذ السياسي مقابل الحصول على مزايا اقتصادية. بيد أن هذا التعاقد كان تحت الضغط لأكثر من عقدين، وها هو ينهار الآن.
من الناحية التاريخية، سمحت الأوضاع الاقتصادية بالشرق الأوسط للحكام بضمان ولاء رعاياهم لسببين: الوظائف الحكومية وحالة الرفاهية. وفي مقابل هذه الأشياء، كان المواطنون العرب على استعداد لتحمل القيود السياسية على المؤسسات المدنية وإمكانية الوصول والتمثيل في الحكومة والقدرة على المشاركة في الحياة الديمقراطية.
وفي أوقات الشدة وعدم القدرة على الوفاء بالجانب الاقتصادي من هذه الصفقة، انتقل حكام دول منطقة الشرق الأوسط إلى التحرر السياسي الجزئي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وفي مواجهة انخفاض أسعار النفط في فترة التسعينات، سمحت العديد من الدول لمواطنيها بقدر أكبر من الحرية في عملية الانتخاب، كما أنها قامت بخطوات نحو السماح للشخصيات المعارضة بالقيام بالدعاية الانتخابية بحرية طالما أنهم لا يمثلون تهديدًا للنظام الحاكم نفسه. في الوقت نفسه، حاولت هذه الدول أن تزيد من المرتبات أو الإعانات المالية للدوائر الانتخابية الرئيسية؛ مثل الجيش.
لقد ظل المواطنون راضين عن هذه الصفقة لعقود. إنه أمر يصعب تخيله الآن، ولكن في فترة الستينات والسبعينات، كانت الأوضاع الاقتصادية في الشرق الأوسط من بين الأوضاع الأكثر نموًا في العالم أجمع – هذا بالإضافة إلى الأوضاع التي كانت موجودة في شرق آسيا. كما أن معدل البطالة كان منخفضًا والدخول المنزلية كانت في توسع سريع. واستطاع المواطنون في الشرق الأوسط العثور على وظائف بأجور عالية بمنتهى السهولة في دولهم أو على وجه الخصوص في دول النفط الخليجية المزدهرة. كذلك، كان المواطنون من خريجي الجامعات يضمنون الحصول على وظائف في القطاع العام.
من ناحية أخرى، لعبت عائدات النفط دورًا محوريًا في الحفاظ على الاتفاق الاجتماعي في الدول العربية. فبالنسبة للبلدان المنتجة للنفط، سمحت عائدات النفط بوجود حالات رفاهية واسعة. أما بالنسبة للدول غير المنتجة للنفط، فقد زادت التحويلات من استهلاك الأسر المعيشية، خاصة في المناطق الريفية. كما زادت القروض وغيرها من أشكال الدعم الأخرى من الدول المنتجة للنفط للدول غير المنتجة للنفط من إيرادات الحكومة وحافظت على الالتزامات المعاد توزيعها. وفي أوج ازدهار النفط في أوائل الثمانينات، تم توظيف نحو3.5 مليون من العمالة العربية المهاجرة في المملكة العربية السعودية ودول الخليج. كذلك، زادت فرص العمل على نحو سريع لدرجة جعلت كلاً من مصر وتونس والجزائر تعاني من نقص في العمالة. على الرغم من ذلك، اختفت الوظائف اليوم في هذه البلاد نفسها خاصة بالنسبة للشباب. فالآن، تعاني الأوضاع الاقتصادية في هذه البلاد من أعلى معدلات بطالة في العالم ومن تراجع في مستويات المعيشة بل وركودها في البعض منها.
كيف سقطت هذه الأوضاع الاقتصادية العربية حتى الآن؟ أولاً، فشلت حكومات دول الشرق الأوسط في إصلاح أوضاعها الاقتصادية بعد انخفاض أسعار النفط في فترة الثمانينات. وقد فرض انخفاض أسعار النفط حدوث تخفيضات جذرية في الرعاية الاجتماعية، كما تراكمت الديون على العديد من حكومات هذه الدول في محاولة منها لتلبية الأجور العامة. في الوقت نفسه، وفي شمال أفريقيا على وجه الخصوص، أحبطت بيئات العمل التي تأثرت بالسياسات الاشتراكية العربية الاستثمار الخاص، وقللت من فرص التجارة وأعاقت من تطور الصناعات التنافسية. وعلى الرغم من قيام معظم هذه الحكومات بتدشين بعض أشكال برامج الإصلاح الاقتصادي استجابة لتلك الظروف، فإن بعض هذه البرامج كان مؤقتًا أو غير كامل أو غير مناسب.
ثانيًا، نتج عن الفشل في الإصلاح بعد انخفاض أسعار النفط أن أصبحت المنطقة غير مهيأة للتعامل مع الدخول الكبير للشباب في سوق العمل في القرن الحادي والعشرين. كما نتج عن الخصوبة السريعة التي تزايدت بين فترة الستينات وفترة التسعينات علاوة على تراجع معدلات وفيات الأطفال أن أصبحت هذه البلاد بها أعلى النسب المئوية للسكان الشباب على مستوى العالم. وبينما استفادت الأجيال السابقة من الشباب من التعليم المجاني وفرص العمل والاستحقاقات الأخرى، فإن أولئك الذين ولدوا بعد عام 1980 لم يُضمن لهم وجود الأمور نفسها ولا حتى مستويات المعيشة المرتفعة. نتيجة لذلك، زاد الشعور بالإحباط لدى الجيل الجديد من الشباب في الشرق الأوسط لأكثر من عقد كامل. وزادت كذلك الآن صور الشباب المتعلم تعليمًا جيدًا ولكن العاطل عن العمل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لسنوات عدة. إن النمو البالغة نسبته 5 في المائة والذي حدث في بعض الأوضاع الاقتصادية ببعض الدول، مثل مصر وتونس، لم يتمكن من استيعاب جميع الشباب الذين سيدخلون سوق العمل. في واقع الأمر، ذكرت مؤسسة جالوب أن مشاعر “الأوضاع الجيدة” في الشرق الأوسط قد تراجعت بالرغم من استمرار الناتج المحلي الإجمالي في الزيادة.
في المجمل العام، يواجه القادة العرب الآن خيارات أكثر صعوبة؛ فعليهم أن يعملوا على إحياء القطاعات الخاصة غير المعتمدة على النفط في دولهم، والتي كانت قد تعرضت للشلل نتيجة للحواجز التجارية والروتين والرشاوى والمحسوبية. كما أن الدول العربية بحاجة إلى أن تقوم بإصلاح أنظمتها التعليمية للتركيز بشكل أكبر على اللامركزية وتوسيع إمكانية الوصول وارتفاع معدل الإنجاز وتنمية المهارات اللازمة؛ وذلك لتصبح قادرة على المنافسة عالميًا. وأخيرًا وليس آخرًا، يجب على الدول العربية أن تعمل على إعادة هيكلة المؤسسات التنازلية الصارمة المركزية لحكوماتها. إن هذه الدول لا تزال تحت وطأة المؤسسات المصممة لدعم السياسات التدخلية، كما أنها تواجه صعوبات هائلة في التكيف مع المهام الجديدة والمطالب السياسية والبيئات التشريعية. إن مثل هذه الأمور تعد ضرورية لتعزيز العدالة الاجتماعية وزيادة معدل الوظائف.
في الماضي، عندما زادت الضغوط الاقتصادية، أعطت أنظمة الحكم في الشرق الأوسط فرصة سياسية محدودة “لالتقاط الأنفاس”، وذلك كي تكسب بعض الوقت. بيد أن المشاهد من تونس إلى القاهرة إلى صنعاء تشير إلى أن الاستراتيجيات المتبعة من قبل القادة العرب للحفاظ على سلطتهم لا تزال موجودة. ومن الممكن أيضًا أن يكون التحرر السياسي الجزئي غير كافٍ في هذه المرحلة للتعويض عن عدم القدرة الحالية لتوفير الأمان والازدهار الاقتصادي – وهذا ما يؤدي إلى الزوال النهائي لصفقة الحكم العربي الاستبدادي.
Commentary
Op-edهل المساومة الاستبدادية العربية طي الإنهيار؟
February 9, 2011