يدخل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مرحلة جديدة، فعملية دبلوماسية قابلة للتطبيق لحلّ مسائل “الوضع النهائي” غائبة منذ عدّة سنوات. والحركة الوطنية الفلسطينية ضعيفة ومتشرذمة، ممّا يجعلها تفتقر إلى ما يلزم لمواجهة التحديات المستمرّة وغيرَ قادرة على فرض الضغط سعياً لتحقيق أهدافها. في المقابل، تُرسِّخ إسرائيل بسرعة عقوداً من نشاطات الاستيطان من خلال إجراءات تشريعية ومؤسّساتية، وتضع نفسها في موقع يخوّلها رسمياً ضمَّ مساحات كبيرة من الضفّة الغربية إليها من خلال الضمّ بحكم القانون. وحصلت هذه العملية بالتحديد بشكلٍ مباشر على حساب تأسيس دولة فلسطينية مستقلّة، تاركةً ملايين الفلسطينيين عالقين تحت السيادة الإسرائيلية من دون حقوق سياسية أو وسيلة لكسب هذه الحقوق في المستقبل. وبغياب أيّ نيّة إسرائيليّة لضمّ هؤلاء الفلسطينيين المعدومي الجنسية ضمن مجموع مواطنيها، تُرسي إسرائيل “نظاماً مزدوج الطبقات من الحقوق السياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتباينة يرتكز على الإثنية والجنسية”، وقد وصفت مجموعة من الخبراء الحقوقيين الرائدين في الأمم المتّحدة هذا النظام بأنّه “نظام أبارتهايد في القرن الواحد والعشرين” وما أطلق عليه الآخرون ببساطة مسمّى “واقع الدولة الواحدة”.
في هذا السياق، باتت الطريق للوصول إلى تسوية للصراع بالتفاوض أمراً يستحيل تصوّره من دون تغييرات كبيرة في الديناميات الاجتماعية السياسية الداخلية لدى كلّ جهة من الجهتَين وفي الاختلال الكبير في ميزان القوى بينهما وفي مقاربة المجتمع المدني. ولعلّ الحاجة إلى إعادة تقييم دقيقة لإطار العمل التصوّري المناسب لحلّ الصراع هي على القدر ذاته من الأهمّية. فلأكثر من ثلاثة عقود، بقي المجتمع الدولي ملتزماً بمبدأ التقسيم إلى دولتَين مستقلّتَين، أو “حلّ الدولتين”. وكان ذلك على الرغم من الاختلاف المتزايد بين هدف تأسيس دولة فلسطينية منفصلة وواقع الضمّ الإسرائيلي التدريجي على الأرض، فضلاً عن الدعم الشعبي المتضائل من الجهتَين وكفاح المناصرين المتزايد للدفاع عن قابلية تطبيق هذا الحلّ.
ومع أنّ الاهتمام بأُطر عمل بديلة ازداد في السنوات الأخيرة، ما زال التقصير هائلاً في البحث في الأشكال المختلفة وتطويرها، إلى جانب غياب الإقبال السياسي أو الحشد الواسع لأيّ خيار من الخيارات. بالتالي، من الواضح أنّ البدائل للتقسيم الكلاسيكي بحاجة إلى دراسة بشكل متكرّر أكثر وبعمقٍ أكبر من أجل توسيع نطاق الخيارات المتاحة لصانعي السياسات والجهات الفاعلة المدنية في السنوات المقبلة.
تعرض هذه الورقة تعمّقاً في واحدٍ من هذه البدائل: نموذج الكونفدرالية الهجين. كما أنّ الغاية منها التفكير في نطاق يتخطّى نموذج الدولتَين الكلاسيكي لحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ولتقديم أفكار للطريقة التي يستطيع فيها صانعو السياسات والجهات الفاعلة المدنية تطبيق إطار عمل كونفدرالي في المستقبل. ونظراً إلى واقع الدولة الواحدة المترسّخ، تحرير الفلسطينيين من خلال إعتاقهم في دولة ديمقراطية واحدة هو البديل الأبسط نظرياً لعقود من المحاولات الفاشلة لتطبيق التقسيم.
وقد يبدو السعي للوصول إلى نموذجٍ أكثر تعقيداً من الكونفدرالية مرهقاً بشكل غير لازم. بيد أنّ الكونفدرالية تتحلّى باستجابة أكبر للوقائع التي غالباً ما يغضّ مؤيّدو الدولة الواحدة الطرفَ عنها. علاوة على ذلك، لا يحول هذا النموذج من ظهور دولة ديمقراطية واحدة على المدى الطويل، في حال تمّ الإقرار بأنّ دولة من هذا النوع مجدية ونافعة. وللكونفدرالية الإمكانيةُ لتشكّل نموذج حوكمة قابلاً للتطبيق وجذّاباً بشكل متبادل يحرّر الفلسطينيين من واقع القمع المستمرّ ويوقف الاستمرار بالاستعمار الاستيطاني ويُبقي على حقّ تقرير المصير والتعبير الوطني للجهتَين كلتيهما ويعالج التطلّعات والشكاوى الإسرائيلية والفلسطينية بطريقة عملية وتناغمية. ومن خلال ذلك، تتصوّر المقاربة الكونفدرالية حلّاً للصراع يحول دون المزيد من الصراع في المستقبل أو يحدّ منه على الأقل.
لذا عبر طرح مسارات نحو الحدود المفتوحة أو المرنة ووضع الإقامة بصفة دائمة ونواحٍ من السيادة المتشاطرة، يوسّع نظام حكومة كونفدرالي الفرص بشكل يتخطّى الفرص المتصوّرة في معادلة الدولتَين الكلاسيكية وبطرق يمكنها أن تقلّل من المنافسة الصفرية النتيجة حول مجالات الصراع الأعند وأن تحلّ معضلة الاختيار بين الأمن أو السيادة. ولا بدّ من أن يكون النظام الكونفدرالي معقّداً وقادراً على تحمّل قدراً كبيراً من الضغط والتوتّرات المتكرّرة.
وسيتطلّب أيضاً قفزات تصوّرية وعملية هائلة بغية إعادة ترتيب أنظمة الامتيازات التي يصعب التخلّص منها. وسيتطلّب كسر الجمود الذي حال دون الوصول إلى حلّ حتّى هذه الحظة فرضَ مستويات غير معهودة من الضغط الخارجي والداخلي، مقروناً ببديل مفصّل بوضوح يكون مقبولاً لأكثرية الإسرائيليين والفلسطينيين. وفيما الكثيرون سيشكّكون في جدوى الكونفدرالية بالطبع، كان من الممكن قول الأمر ذاته لحلّ الدولتَين، الذي طغى على جهود صناعة السلام.
في الوقت الراهن، حقيقة الدولة الواحدة غير العادلة التي تفرضها إسرائيل مقلقة ومضرّة للغاية. وهي لا تقدّم أيّ حلّ للصراع الأساسي. ومع أنّ ذلك سيسبّب على الأرجح المزيد من عدم الاستقرار في المستقبل القريب، هو يقدّم فرصة لإعادة تقييم الطريقة التي قد يعيش فيها الإسرائيليون والفلسطينيون يوماً ما بشكل عادل أكثر في أرض يتشاطرونها. في هذه المرحلة، بات تطوير إطار العمل هذا حاجة ملحّة.