في منطقةٍ نادراً ما تكون أنباء الحوكمة فيها مُبشِّرة، حصل أمر غير اعتيادي في قطر يوم 6 مايو. فقد اقتيد وزير المالية علي شريف العمادي للاستجواب حيال مجموعة من الإدّعاءات، من بينها سوء الإضرار بالمال العام وإساءة استعمال السلطة. وكان العمادي قد شغل منصبه منذ العام 2013 واعتبره الكثيرون من أكثر وزراء المالية فعالية في الخليج. لكن في غضون يوم واحد، أُعفيَ من كلّ مهامه الحكومية ومن أدواره في الشركات والمؤسّسات المالية التي تملكها الدولة أيضاً. علاوة على ذلك، تفيد التقارير أنّ التحقيقات لمكافحة الفساد تتوسّع، مع خضوع العشرات من رجال الأعمال ومسؤولين حكوميين لتحقيقات تجريها السلطات القضائية وهيئات الرقابة المالية.
مقاربة متغيّرة للتعامل مع الفساد في الخليج
لكن الإعلان عن إقالة العمادي غير اعتيادي. ففي أرجاء دول مجلس التعاون الخليجي، تُعالج معظم حالات الفساد والمخالفات القانونية الرسمية العالية المستوى بسرّية وبدون رسميّات. وعادة ما يستقيل المسؤولون المعنيّون أو يتركون مناصبهم فجأة، مع تغطية إعلامية محدودة. فتنتشر الإشاعات لكن نادراً ما يتمّ تأكيدها، ومن النادر للغاية أن تفضي التحقيقات إلى محاكمات أو غرامات أو سجن. فقد شهدت الكويت مثلاً تهم الفساد الموجّهة لشخصيات مرموقة، مما أدّى إلى استقالة رئيس الوزراء في العام 2011 وإلى الاستقالة الجماعية للحكومة في العام 2019، لكن لم يلِ ذلك أيّ محاكمات. وفي الإمارات العربية المتّحدة، أدّى تحقيق فساد إلى إقالة وزير الدولة لشؤون المالية والصناعة الراحل محمد خلفان بن خرباش من منصبه في العام 2008 واتّهامه باختلاس الأموال في العام 2009. حيث أنّه قام بنفي التهم الموجهة اليه ولم تصل القضية إلى المحكمة.
لكنّ لهذه القاعدة استثناءٌ واحداً بارزاً ومثيراً للجدل: اعتقال 400 سعودي بارز وسجنهم في فندق الريتز كارلتون في الرياض في نوفمبر 2017. يعتبر داعمو هذا القرار، من بينهم الكثير من المواطنين السعوديين، أنّ سَجن هؤلاء الأشخاص أمرٌ يستحقّونه وكان ينبغي أن يحصل منذ زمن. أما المنتقدون فيدّعون أنّ المسألة متعلّقة بتوطيد السلطة في يد ولي العهد محمد بن سلمان أكثر منها ذنب أولئك المتّهمين أو براءتهم الفعلية. ويدّعون أيضاً أنّ الأموال المسترّدة أتت نتيجة جهد هو أشبه بـ”الابتزاز” أكثر منه محاولة حقيقية لاستعادة أصول مسروقة أو تطبيق حكم القانون.
وفي الفترة التي لحقت اعتقالات الريتز كارلتون مباشرة، رأى بعض المراقبين أنّ الخطوة ستقلب الأوضاع رأساً على عقب وتولّد حالة من عدم اليقين، فتخيف المستثمرين وتنفّرهم. في المقابل، قال آخرون إنّها ستشير إلى بروز جدّية في النيّة والغاية تعود بالمنفعة على البلاد على المدى الطويل. وقد كانت التداعيات القصيرة المدى للاعتقالات معرقِلة فعلاً، فقد تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة العربية السعودية بحدّة في العام 2017 لكنّه استعاد حيويّته في العامَين 2018 و2019 مع أنّ المعدّلات كانت أدنى من السابق. أما التداعيات الطويلة المدى لهذا القرار فلم تظهر بعد، على الرغم من توافر كمّية كبيرة من الأدلّة التي تشير إلى أنّ الدول ذات مستويات فساد أدنى تحقّق أداءً أفضل في جذب الاستثمارات وتتّسم بمعدّلات نمو اقتصادي أعلى مع مرور الوقت. فلن يكون من المفاجئ إذاً إن اعتمدت الدول الأخرى التي تتّخذ إجراءات علنية صارمة بحقّ الفساد مساراً مشابهاً لمسار المملكة العربية السعودية، فتواجه انخفاضاً في الاستثمارات الأجنبية بسبب المخاوف، يليها ازدياد في الاستثمارات في المستقبل إن اعتُبر الجهد المبذول جدياً ومقنعاً.
تقييم جهود مكافحة الفساد عالمياً وعلى مرّ الزمن
تبعاً لمؤشّرات الفساد للعام 2020 الذي نشرته منظّمة الشفافية الدولية، “لا يزال يُنظر إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على أنّها شديدة الفساد، مع إحراز تقدم ضئيل في السيطرة على الفساد”. لكن الواقع يتضمّن بعض الفوارق، مع اختلافات كبيرة في الأداء في أرجاء المنطقة. مثلاً، تُصنَّف الإمارات العربية المتّحدة وقطر في المرتبة 21 و30 على التوالي، بحسب ذلك المؤشر، وهذه مكانة تضعهما أمام دول مثل إسبانيا وكوريا الجنوبية والبرتغال. وتحتلّ أكثرية دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وسط الترتيب، لكن تبرز أيضاً مجموعة كبيرة من الدول التي تقع في المراتب الدنيا، من بينها العراق وليبيا وسوريا واليمن، وتعتبر هذه الدول من الأكثر فساداً في العالم.
ويبعث عنصران من عناصر الجهود التي تبذلها المنطقة لمكافحة الفساد إلى قلق كبير، حتّى في ما يخصّ الدول الإقليمية الرائدة على غرار الإمارات العربية المتحدة وقطر. فكما لفت صندوق النقد الدولي وغيره، العنصر الأول هو التقدّم المتأخّر في إصلاحات “الجيل القادم” في مجال الحوكمة، وهي تتخطّى القضاء على الفساد البسيط وتحسين النوعية في تقديم الخدمات. فتتطلّب هذه الأجندة التفكير بعناية أكبر في الحدود بين القطاعَين العام والخاص وتحسين الشفافية والمحاسبة العامة وتبسيط الإجراءات التنظيمية وجعلها أكثر قابلية للتوقّع وتعزيز استقلالية الوكالات المناطة بالتحقيق في مسائل الفساد ومقاضاتها. ويتطلّب الموضوع أيضاً السير قدماً بتشريعات حول الكشف عن الدخل والأصول، فضلاً عن اتّخاذ إجراءات صارمة بشأن تبييض الأموال.
أما العنصر المقلق الثاني في الجهود التي تبذلها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمكافحة الفساد، فهي الجمود النسبي في أداء المنطقة على مرّ الزمن. فتبعاً لمؤشرات الحوكمة العالمية التي يصدرها البنك الدولي، شهدت النتيجة الاجمالية للمنطقة في السيطرة على الفساد تراجعاً مستمراً بعد تسجيل أعلى حصيلة في العام 2002. واعتبر الكثيرون أنّ استمرار هذه العجوزات المزمنة في الحوكمة” هو السبب الجوهري للأزمات السياسية المتكرّرة في المنطقة على مدى العقد المنصرم، بدءاً من ثورات الربيع العربي في العام 2011 وصولاً إلى الحركات الاحتجاجية في العامين 2018 و2019 في الجزائر والعراق ولبنان والسودان. ففي كلّ هذه الدول، كانت المطالب بشأن محاربة الفساد من بين أبرز الشكاوى الشعبية.
نحو شكل جديد من الحوكمة؟
هل من الممكن أن تفتح الخطوة التي قامت بها قطر الباب أمام انتقال نحو جهود جديدة وأكثر جدّية لمكافحة الفساد في الخليج ودول المنطقة؟ وهل من الممكن أن تلهم جهود قطر العلنية الحكومات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لكي تحسّن أداءها؟ ردّاً على استفسارات بشأن مذكّرة التوقيف بحقّ العمادي، شدّد وزير الخارجية القطري على أهمّية المؤسّسات وركّز بوضوح على أن “لا أحد فوق القانون”. وقبل يوم من اعتقال وزير المالية، قام أمير قطر بإلغاء حصانة المسؤولين العامّين من المقاضاة، وجعل الجميع سواسية أمام القانون. ومن شأن خطوات كهذه، في حال تُرجمت مباشرة إلى أجندة متينة لإصلاح الحوكمة وتمّ السير بها قدماً بمهارة وعزم، أن تفتح المجال أمام فصل جديد في مجال تعزيز حكم القانون وبناء مؤسّسات دولة فعالة وعادلة في قطر ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على حدّ سواء.
Commentary
Op-edثورة حوكمة هادئة في قطر؟
June 17, 2021