بعد ثماني سنوات على بدء السوريين الهروب بأعداد غفيرة من العنف المتزايد في موطنهم، باتت تركيا اليوم تستضيف 3,6 مليون لاجئ سوري. وهذا الرقم يجعل من تركيا الدولة المضيفة التي تضمّ العدد الأكبر من اللاجئين في العالم للسنة الرابعة على التوالي.
ولا تشكّل العودة ولا إعادة التوطين خياراً حقيقياً للاجئين. وسيبقون على الأرجح في تركيا في المستقبل المنظور، لذا آن الأوان للتفكير جدياً في إيجاد الفرص لكيفية توظيفهم بشكل رسمي ومستدام. بيد أنّ هذا الأمر لن يكون مسألة سهلة، وسيعتمد التقدّم على توثيق التعاون بين تركيا والمجتمع الدولي، ولا سيما الاتحاد الأوروبي. ويقدّم الاتفاق العالمي بشأن اللاجئين للعام 2018 دليلاً مفيداً لخيارات ملموسة بشأن السياسات.
الوضع الراهن
يحظى معظم السوريين المقيمين حالياً في تركيا بالحماية من العودة القسرية إلى سوريا ويحظون أيضاً بقدرة الحصول على الخدمات العامة الأساسية، بما في ذلك الرعاية الصحية، ومؤخراً التعليم الرسمي. وعقب البيان الأوروبي التركي الذي صدر في مارس 2018، بدأ اللاجئون بتلقّي دعم نقدي متواضع من برنامجَي شبكة الأمان الاجتماعي الطارئة وتحويل النقود المشروط للتعليم.
ونظراً إلى أنّ الدعم الذي يتلقّاه السوريون من الدولة بالكاد يلبي احتياجاتهم، هم منخرطون بشكل غير رسمي في سوق العمل التركية منذ فترة لا بأس بها، لأنّ الكثير من السوريين المقيمين في تركيا لا يحملون تصاريح عمل. في هذا السياق، شَابَ مشاركتَهم الكثيرُ من المشاكل والتحديات.
بالأرقام: السوريون في تركيا
يبلغ عدد السوريين في سنّ العمل (15-65 سنة) المسجّلين في تركيا 2,1 مليون شخص، لكنّ عدد السوريين المنخرطين بنشاط في سوق العمل غير معروف، لأنّ طبيعة توظيفهم غير الرسمية تصعّب عملية تحديد عددهم. وبغياب بيانات شاملة عن حالة سوق العمل للسوريين في تركيا، يُقدّر أنّ بين 500 ألف ومليون سوري يعملون فعلاً. وتشير معظم المصادر إلى أنّ أكثرية السوريين يعملون في قطاعَي الأنسجة والألبسة، فضلاً عن التعليم والبناء والخدمات والزراعة بشكل خاص. وبيّن مسح أجراه الهلال الأحمر التركي في العام 2018 أنّ 20,7 في المئة من العمّال السوريين في مجال التعليم يعملون في وظائف غير ثابتة، فيما تنخفض هذه النسبة إلى 92 في المئة للسوريين العاملين في قطاع الزراعة. وطبعاً يترافق التوظيف غير الثابت وغير الرسمي بأجور منخفضة، وهي أجور أدنى بكثير من الحدّ الأدنى المفروض قانوناً، ويترافق أيضاً بظروف عمل رديئة وباستغلال، خصوصاً لدى الأطفال والنساء.
وفي يناير 2016، بدأت الحكومة بالسماح للاجئين السوريين المسجّلين بالحصول على فرص توظيف رسمي من خلال تسهيل الحصول على تصاريح عمل. بيد أنّ هذه الخطوة لم تحسّن الوضع كثيراً، لأنه لم يتمّ إصدار سوى 65 ألف تصريح عمل بحلول نهاية العام 2018، بحسب وزارة الداخلية التركية.
العوائق
بعيداً عن مسألة تصاريح العمل، تقف عدّة عوائق أمام التوظيف الرسمي، بعضها ذو طابع عام وبعضها الآخر خاصّ بالسوريين.
بحسب القوانين التنظيمية التركية، تكلّف تصاريح العمل المال والوقت، وينبغي تجديدها سنوياً. زد على ذلك أنّه لا يمكن تقديم طلب تصريح إلّا بعد الإقامة في البلاد لستة أشهر على الأقلّ. وتنطبق حصّة 10 في المئة على العمّال السوريين في شركة ما، وتطبّق هذه الحصّة حتى لو كانت هيكلية الملكية في الشركة تضمّ شخصاً سوري الجنسية. علاوة على ذلك، تُنثي طبيعة برنامج شبكة الأمان الاجتماعي الطارئة للدعم النقدي عن التوظيف الرسمي لأنّ الأُسر تُستثنى فوراً من البرنامج حتّى لو كان فرد واحد فيها فقط موظفاً بشكل رسمي.
وتطرح المشاكل الهيكلية لسوق العمل في تركيا المزيد من التحديات. فتبعاً لشركة “تركستات”، ثُلث العمّال الأتراك موظف بشكل غير رسمي. بعبارة أخرى، تولّد تكاليف العمل العالية والحد الأدنى المرتفع نسبياً للأجور ومستويات المهارات المنخفضة، المقرونة بالتطبيق المتهاون، سوق عمل مزدوجة في تركيا يعمل فيها العمّال غير الرسميين في ظروف محفوفة بالمخاطر، بغضّ النظر عن جنسيتهم.
بالإضافة إلى ذلك، يؤدّي الافتقار إلى المهارات اللغوية وعدم قابليّة نقل بعض مهارات سوق العمل إلى تفاقم الوضع على معظم السوريين. وتؤدّي مستويات التعليم المنخفضة دوراً محورياً. فتبعاً لمسح الهلال الأحمر التركي المذكور آنفاً، افتقر أكثر من نصف السوريين الخاضعين للمسح للتعليم أو لم يحظَ سوى بتعليم ابتدائي، مما يحدّ من فرص التوظيف. أما أولئك الذين حصّلوا مستويات تعليم أعلى، فغالباً ما يقف الحصول على معادلات لشهاداتهم عائقاً أمام توظيفهم الرسمي. نتيجة لذلك يضطرّ الكثير من السوريين إلى القبول بعروض عمل لقاء أجور أدنى. مثلاً، بيّنت إحدى الدراسات أنّ السوريين في إسطنبول يجنون في المتوسّط أقلّ من نظرائهم الأتراك بنسبة 27 في المئة.
وللمفارقة، يولدّ أيضاً هذا الأمر فرصاً ضائعة للاقتصاد التركي. فنسبة 20 في المئة من السوريين بين 18 و29 سنة في إسطنبول يحملون شهادة جامعية، لكنّ هذه الشهادات لا تُترجم بأجور أعلى. وحدّد فريق أبحاث من الأمم المتحدة على الأقلّ 125 اختصاصياً زراعياً سورياً بتدريب جامعي في شانلي أورفا مثلاً، لكنّه أفاد أنّ معظمهم عاطل عن العمل أو يعمل في أعمال غير ماهرة.
وفي جهد لتعزيز الوصول إلى سوق العمل، عفت الحكومة السوريين المستخدَمين كعمّال موسميين في الزراعة من تصاريح العمل. بيد أنّ قطاع الزراعة يطرح تحدياته الخاصة. فمعظم التوظيف الراهن هو بحدّ ذاته غير رسمي. ومن المعروف أنّ ظروف العمل صعبة جداً حتى للعمّال المحلّيين، ولا سيما للنساء والأطفال، هذا عدا النازحين بالإجمال. وتبعاً لإحصاءات القوة العاملة الأسرية التي أجرتها “تركستات”، أفاد أكثر من 70 في المئة من الأُجراء الزراعيين المحلّيين أنّهم يعملون في وظائف موسمية، و21 في المئة فقط من كلّ الأجراء في الزراعة موظّفون رسميّون. باختصار، يعاني العمّال في قطاع الزراعة أجوراً منخفضة ويعلمون لساعات طويلة ويعملون عادة بشكل غير رسمي، بغضّ النظر عن وضعهم كنازحين. بالتالي، يحاول الكثيرون الانتقال إلى أعمال في المناطق الحضرية في قطاعات أخرى.
ويظهر تحدٍّ أخير من وضع الاقتصاد التركي المتفاقم. ففي العام 2018، لم ينمُ الاقتصاد سوى بنسبة 2,6 في المئة. ومع دخول أكثر من 700 ألف شخص سوق العمل سنوياً، ارتفع معدل البطالة إلى 13,7 في المئة في مارس 2019، بحسب بيانات معدّلة حسب الموسم، وذلك بعد أن ارتفعت بنسبة تناهز 4 في المئة في سنة واحدة. لسوء الحظّ، من غير المتوقع أن يتعافى الاقتصاد التركي قريباً. فتقديرات النمو الحالية لتركيا في العام 2019 سلبية، بحسب أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وصندوق النقد الدولي. ومن البديهي القول إنّ تطلعات مكفهرّة كهذه ستزيد النقمة الشعبية إزاء السوريين في تركيا وتقوّض السلام الاجتماعي. وفي القطاع غير الرسمي، يُقدّر أنّ توظيف 10 رجال سوريين يلغي وظائف أربعة رجال محليين (عند أخذ العمل بدوام جزئي في الحسبان) ويؤدّي إلى هبوط الأجور.
إمكانيات الوصول إلى مسار أفضل
مع ذلك ليس الوضع ميؤوساً منه بعد. فتماشياً مع الخطة الإقليمية للاجئين وتعزيز القدرة على مواجهة الأزمات، استثمرت وكالات دولية، على غرار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمة العمل الدولية ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة والمنظمة الدولية للهجرة، في مشاريع لتحسين مجموعة مهارات اللاجئين وتحسين قابلية توظيفهم، ولا سيما في القطاع الخاص. وتُبذل جهود وطنية تشمل المديرية العامة التركية للعمال الأجانب، فضلاً عن وكالة التوظيف التركية، لتسهيل قدرة الوصول إلى سبل العيش، مع تشديد متزايد على التدريب المهني والبرامج التي تعزز روح المبادرة والدعم الضريبي لخلق توظيف مستدام. وتعمل منظمات غير حكومية تركية، مثل “SGDD-ASAM”، فضلاً عن منظمات دولية مثل “يونايتد ووركس” United Works و”سبارك” Spark، على تأمين وظائف رسمية للاجئين.
علاوة على ذلك، قد تصبح الزراعة قطاعاً واعداً لفرص التوظيف. فتبعاً لإحصاءات القوة العاملة الأسرية التي أجرتها “تركستات”، تسيطر على الإنتاج الزراعي التركي شركات عائلية. وقرابة خمسة ملايين شخص يعملون في مزارع عائلية، مع الأُجراء الذي يتخطّى عددهم نصف المليون، باستثناء النازحين. لكن مع تقدّم المزارعين الأتراك في العمر وانتقال الأُجراء إلى أعمال خارج المزارع، تواجه الشركات في قطاع الزراعة فراغات متنامية في نقص اليد العاملة. ونظراً إلى صعوبة الوصول إلى سُبل العيش من جهة، والحاجة إلى العثور على عمال من جهة أخرى، يعمل الكثير من السوريين بشكل موسمي في الزراعة. في هذا الإطار، أخذت الشركات التركية التي تركّز على التصدير والتي تتحلّى بشعور مسؤولية الشركات تعبّر عن رغبتها في تدريب لاجئين سوريين وتوظيفهم، فتقدّم لهم بذلك مساراً للوصول إلى التوظيف المستدام.
ماذا في وسع الاتحاد الأوروبي فعله
تتلقّى نسبة كبيرة من المشاريع التي تركّز على سبل العيش لتحسين قدرة اللاجئين على الاتكال على ذاتهم تمويلاً دولياً، ولا سيما منشأة اللاجئين التابعة للاتحاد الأوروبي في تركيا. بيد أنّه من المقرّر أن ينتهي عمل هذه المنشأة بعد سنتين، وما من مؤشرات إلى أنه سيتم تجديدها. لذا من المهمّ لتركيا وأصحاب المصلحة الدوليين أن يضعوا استراتيجية طويلة الأمد لزيادة احتمالات دمج اللاجئين السوريين في الاقتصاد التركي الرسمي. وهذا أمر ملحّ للغاية لأنّ اللاجئين السوريين صغار في السنّ ويزداد عددهم 350 شخصاً في اليوم (منذ العام 2011، ازداد العدد أكثر من 350 ألفاً بالإجمال)، فيما تواجه سوق العمل المحلية تحدّي إيجاد الوظائف لقرابة 4,5 مليون تركي عاطل عن العمل.
ويقدّم الاتفاق العالمي بشأن اللاجئين أفكاراً بنّاءة. فهو يدعو كلّ الأطراف الموقّعة لـ”تعزيز الفرص الاقتصادية والعمل اللائق وإيجاد الوظائف وبرامج العمل الحُر لأعضاء المجتمعات المضيفة وللاجئين” بغية دعم فرص سبل العيش المستدامة وصمود المجتمعات المضيفة عبر الحرص على “نمو اقتصادي شامل للمجتمعات المضيفة وللاجئين”. وينبغي على الاتحاد الأوروبي وتركيا الشروع في طرح استراتيجية مع وضع ما سبق نصب عينيهم.
ويمكن أن تبدأ استراتيجية كهذه بالتفكير في إنشاء منطقة صناعية مؤهَّلة قرب الحدود السورية حيث يعيش قرابة المليون لاجئ. وتُعرف هذه المنطقة (محافظات غازيانتب وكيليس وشانلي أورفا) بإنتاجها الصناعي والزراعي المتنوّع. وبإمكان الاتحاد الأوروبي تصنيف المنتجات من تلك المنطقة على أنها مُعتمدة، وذلك لكي يعطي الشركات التي تستخدم سوريين قدرة وصول تفضيلية إلى أسواقها.
علاوة على ذلك، لحثّ الشركات التركية على توظيف سوريين بشكل رسمي، بإمكان الاتحاد الأوروبي زيادة الحصص على المنتجات الزراعية الطازجة المعفاة من رسوم الاستيراد، وبإمكانه أيضاً التفكير في خفض هذه الرسوم للمنتجات التي تتخطّى هذه الحصص. وفي وسع الاتحاد الأوروبي أيضاً أن يلغي أحادياً رسوم الجمارك على المكوّنات الزراعية للسلع الزراعية المُصنّعة التي تطالها الوحدة الجمركية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا.
أخيراً، بإمكان الاتحاد الأوروبي تشجيع الشركات الأوروبية الكبيرة على التفكير في ضمّ التعاونيات الاجتماعية الناشئة التي يموّلها سوريون وأشخاص محلّيون في سلسلة القيمة لديها. وتكمن منفعة هذه السياسات في أنها لا تحتاج إلى تمويل مباشر من الاتحاد الأوروبي، لأنّ هذه مسألة عادة ما تُبدي الدولُ الأعضاء مقاومة تجاهها، فتتماشى بالتالي مع الاتفاق العالمي بشأن اللاجئين نصّاً وروحاً. وتعزّز هذه السياسات النمو الاقتصادي بشكل يعود بالمنفعة على اللاجئين والسكان المحليين على حد ّسواء، وبإمكانها أن تؤدّي إلى نتيجة تكون فيها كل الأطراف كاسبة.
Commentary
اللاجئون السوريون في تركيا بحاجة إلى قدرة وصول أفضل إلى الوظائف الرسمية
الخميس، 18 يوليو 2019