لقد بعثت الاحتجاجات التي اندلعت في تونس هذا الشهر رسالة قوية مفادها أنّ فشل الحكومة المتكرِّر في التصدِّي الفاعل للمظالم الاجتماعية والاقتصادية لن يمرَّ مرور الكرام.
تعبِّر الاحتجاجات بشكلٍ واضحٍ عن الطريقة التي ينظر بها التونسيون إلى الظلم. وببساطة فإن هذه المظاهرات لم تخرج فقط احتجاجاً على قانون التمويل المثير للجدل، الذي صدر في 1 يناير، بل على ترِكةٍ ثقيلة من التفاوت الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والاقتصادي لمناطق معينة من تونس، وعلى الفساد وانعدام المساءلة عن هذا النوع من الجرائم، وعلى فشل حكومة السبسي في معالجة هذا الإرث من المظالم الاجتماعية والاقتصادية.
إرثٌ من التهميش الاقتصادي
شهِد تاريخ تونس عدداً من هذه الانتفاضات الصغيرة، حيث كانت كل واحدة منها تضخُّ دماً جديداً في مسيرة الكفاح المستمر لمعالجة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. تعود جذور الحركات الاحتجاجية المناهضة للحكومة في تونس إلى التحرُّكات العمّالية، التي بدأت بإضراب أُعلِن عام 1978 في عهد الحبيب بورقيبة، الذي كان أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال. وكان فاتحة عقودٍ من التحركّات العمالية، التي طالبت بشروط تعاقدية أفضل ورواتب أعلى وظروف عمل مناسبة، كما طالبت بحلٍ لمشكلة البطالة المتفشية، لاسيَّما في المناطق الداخلية من البلاد، التي كانت تعاني تهميشاً تاريخياً ومنهجياً.
في العام 1984، وبعد طلب صندوق النقد الدولي رفع الدعم مؤقَّتاً عن المواد الغذائية الأساسية للوفاء بمتطلبات معيَّنة خاصة بالقروض الدولية، ارتفعت تكلفة الخبز بنسبة 108 في المئة. وقد أدّى ذلك إلى اندلاع أعمال شغب واسعة بسبب الخبز، عُرِفَت انتفاضة الخبز، راح ضحيّتها حوالي 100 شخص وأُصيب ما يقرب من 1000 شخص.
الصلة بين أسباب التظلّم الاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية
لكن تعود جذور الكفاح ضد الظلم الاقتصادي في تونس في الأساس إلى مظالم متعلقة بالحقوق المدنية والسياسية. لهذا السبب كان ظهور الفساد في عهد الرئيس المتسلِّط الأسبق زين العابدين بن علي عاملاً رئيساً، صبَّ الزيت على النار وغذّى المطالب العامة بملاحقته هو وأعوانه.
لطالما شهد تاريخ تونس انتهاكات متكرّرة ودورية لحقوق الإنسان في حرية التعبير والتجمُّع، وعدم التعرُّض للتعذيب والاحتجاز التعسفي. ثم وصل نظام بن علي إلى السلطة، فدعم ركائزه من خلال الفساد الجماعي والجرائم الاقتصادية، وباستخدام القمع الشديد لقطاعات الشعب التي كانت تتجرأ وتُعرِب عن استيائها من حالة التفاوت الاقتصادي المُجحفة. إنّ نمط الحياة الباذخ لأسرتيّ بن علي والطرابلسي، الذي كان يُموَّل من أموال غير مشروعة، هو مجرد مثال واحد على الطرق التي دعم بها الفساد النظام السلطوي.
وفي العام 2008، أودَت ثورة جماهيرية انطلقت ضد البطالة وعدم المساواة الاقتصادية في بلدة قفصة، بحياة العديدين وتسبَّبت بإصابة وجرح العشرات. وتُعتبر ثورة قفصة، التي استمرَّت ستة أشهر، نقطة تحوُّل مهَّدت للانتفاضة التونسية، التي اندلعت بعد ذلك بعامين ونصف. ساعدت أحداث قفصة وما أعقبها على التخلص من حاجز الخوف الذي كان يمنع الكثير من التونسيين من تحدّي سياسات النظام القمعية.
أما هذه الاحتجاجات الأخيرة، فهي تأكيد آخر على أن حاجز الخوف لم يعُد موجوداً- حتى في مواجهة الاعتقالات التعسفية المستمرة والممارسات القمعية الأخرى، التي تسعى من خلالها الحكومة إلى تضييق نطاق الاحتجاجات.
فالفساد والجرائم الاقتصادية كانت ولا تزال تُرتكب. وكأنّ هذا الأمر ليس كافيا بحدِّ ذاته، فإنّ الحكومة تعمل بهمّة على عدم تحميل الجناة المسؤولية، في محاولة ظاهرية للمساعدة في إحياء الاقتصاد.
محاولات الحرس التونسي القديم لقمع المساءلة
وفي حين أنّ قانون التمويل لعام 2018 قد دفع التونسيين إلى النزول إلى الشوارع هذا الشهر، فإن قانوناً مثيراً للجدل آخر قد أجّج غضبهم. وقد صدر قانون المصالحة الذي يمنح بعض موظفي الخدمة المدنية الحصانة من الملاحقة القضائية بقضايا الفساد والجرائم الاقتصادية في العام 2017. وقام المجتمع المدني الغاضب بحشد وإنشاء حملة “مانيش مسامح” لمكافحة الفساد وغيراها من الحملات للدعوة إلى عكس هذا القانون الظالم.
هناك التباسٌ حول حملة، ما سُميّ بـ “الحرب على الفساد” التي يقودها رئيس الوزراء يوسف الشاهد. فقد أُلقي القبض على الأفراد المستهدفين بموجب قانون الطوارئ، وأحيلوا إلى المحاكم العسكرية. ورغم أن هناك تونسيون يؤيدون هذه الحرب المزعومة على الفساد، إلا أنّ هناك كثيرين آخرين أحبطتهم الطريقة الانتقائية والتعسفية التي نُفِّذت بها الحملة.
تصادف في هذا الشهر الذكرى السابعة للإطاحة بنظام بن علي. وقد انتُقدت الحكومة الحالية لكونها “أداة لإحياء النظام القديم”. وهذا لم يفُت أولئك الذين خرجوا للاحتجاج في شوارع العديد من المدن التونسية طوال الشهر الماضي.
تسلِّط هذه الاحتجاجات الضوء أيضاً على مدى تأثير هيئة الحقيقة والكرامة في تونس على الجهود الرامية إلى المساءلة عن الفساد والجرائم الاقتصادية. إذ سيشهد هذا العام انتهاء تفويض الهيئة، وقد عارضت حكومة الرئيس الباجي قائد السبسي مراراً وتكراراً، بل انتهكت في بعض الأحيان تفويض هيئة الحقيقة والكرامة والدستور التونسي. والأهم هو أنها منعت الهيئة من الوصول إلى الأرشيف الرئاسي، وأقرَّت قانون المصالحة، الذي يرى الكثيرون أنه جزء من هجوم مضاد على ثورة تونس للبحث عن الحقيقة.
ونظراً للتاريخ الطويل في الكفاح ضد عدم المساواة الاقتصادية والفساد في تونس، فإنه سيكون من المفيد للرئيس السبسي وحكومته أن يعملا بصدق على تلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للتونسيين العاديين. إنّ الرغبة في رفع المظالم عن طريق سنِّ قوانين غير عادلة لن يؤديَّ إلا إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار. وبانتهاكها حقوق الناس في حرية التجمُّع وحرية التعبير، إنما تسعى الحكومة الحالية إلى توسيع إرث إساءة استخدام الحقوق المدنية والسياسية، وإلى شنِّ حرب فاسدة ضد التونسيين المحرومين اقتصادياً.
يدعو المتظاهرون، بمن فيهم المشاركون في حملة “فاش نستناو”، الحكومة إلى رفع الحد الأدنى للأجور، وتقديم المعونة للأسر الفقيرة، ومعالجة البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة. وهم يدعون إلى مراجعة الميزانية والتدابير التقشفية التي يفرضها قانون المالية. وهم أيضاً يطالبون بالتحقيق في وفاة رجل يبلغ من العمر 55 عاماً، قُتل أثناء المظاهرات التي خرجت في مدينة طبربة. واستجابةً لهذه الاحتجاجات، تعهَّدت الحكومة التونسية بتقديم مساعدات للأسر الفقيرة تزيد على 70 مليون دولار. غير أن استمرار الاحتجاجات يشير إلى أن هذا وحده لا يكفي.
من الواضح أنّ الحكومة تحتاج إلى تجديد نهجها إزاء عدم المساواة الاقتصادية والفساد والحماية المرتبكة للحقوق المدنية والسياسية. وعليها أن تفعل ذلك من خلال إعطاء الأولوية للقرارات التي يتم التوصل إليها عن طريق الاستفتاء العام، مثل الدستور وتفويض هيئة الحقيقة والكرامة، وليس من خلال سنّ قوانين لا تحظى بالشعبية، وتستمرُّ بالإضرار بالسكان الفقراء والمهمَّشين في تونس.
وعلى الرغم من أنّ الاحتجاجات الحالية ليست بحجم احتجاجات عاميّ 2010 و2011، إلا أنّها تشكّل نقطة تحوُّلٍ أخرى في تاريخ الثورات المصغّرة في تونس- التي أدَّت كلها في نهاية المطاف إلى تعبئة جماهيرية اجتاحت تونس وأدخلتها في دوّامة الانتقال السياسي منذ سبع سنوات. وإذا تم تجاهل هذه المطالب مرَّة أخرى، فإن السخط الجماهيري سيستمر في تأجيج الاضطرابات المكثفة في هذا البلد، الذي طالما وُصِف – وبشكلٍ مُبالغٍ به – بأنه “منارة أمل” لدول الربيع العربي.
Commentary
الاضطرابات في تونس: نقطة تحوُّلٍ أخرى في إرثٍ من الظلم الاقتصادي
الإثنين، 29 يناير 2018