Commentary

Op-ed

الاحتفاظ بالمفاتيح: صعود نجم الانتفاضة الدبلوماسية الفلسطينية

عقب مقتل الوزير في السلطة الفلسطينية زياد أبو عين الأسبوع الماضي، هدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس قائلاً: “جميع الخيارات مفتوحة”. بالإضافةِ إلى ذلك، أفادت التقارير أن عباس طلب من وزير الخارجية الألماني فرانك- فالتر شتاينماير إبلاغ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه ينوي تسليمَ “مفاتيح” الأراضي الفلسطينية إلى إسرائيل. وبعبارةٍ أخرى، فإنّ عباس سيُرغم إسرائيل، بصفتها المحتل للأراضي الفلسطينية، أن تتحمّل عبء التزاماتها تجاه الفلسطينيين، على النحو المنصوص عليه في القانون الدولي، بما في ذلك توفير الغذاء والتعليم والرعاية الصحية والأمن.

ليست هذه هي المرةُ الأولى التي يتحدّث فيها عباس عن حلِّ السلطةِ الفلسطينية، بالطبع، وليس من الواضح متى سيضعُ هذا التهديدَ موضعَ التنفيذ، أو إذا كان سيفعل ذلك أصلاً. وعلى أية حال، فإن نتنياهو لا يبدو منزعجاً كثيراً من هذه الفكرة. سيكون عباس أفضل حالاً بكثير باتباعه استراتيجية شاملة تهدف إلى إنهاء الاحتلال، بدلاً من الخضوع له. فهو لديه خياراتٌ أخرى، بما في ذلك ما يمكن أن يُطلق عليه “الانتفاضة الدبلوماسية”. إنَّ إحلال السلام في الأرضِ المقدسة يتطلب أن يكون نتنياهو هو من يقوم بتسليم المفاتيح للفلسطينيين، وليس العكس.

نحنُ نُعرّف الانتفاضةَ الدبلوماسية بأنّها ظاهرةٌ تنْبعثُ من وجودِ شعبٍ محتلٍ يسعى بثباتٍ وثقةٍ إلى بلوغِ حقّه في تقرير المصير، وذلك باستخدامهم كافة الوسائل القانونية والسياسية المشروعة والمتاحة لهم بموجب القانون الدولي لإنهاءِ احتلالِ بلادهم. ولكيْ تتكلّل انتفاضةٌ من هذا القبيل بالنجاح، ستكون القيادةَ الفلسطينية بحاجةٍ إلى التعاملِ مع ثلاث جهاتٍ رئيسية هي: شعبها، والولايات المتحدة، وأوروبا.

محلياً، يتعيّن على عباس أن يتخذ إجراءاتٍ من شأنها طمأنة الفلسطينيين أنه لا يدّخر وسعاً لفعل ما يكفي لمعالجةِ محنتهم. فالمقدسيون يعانون من تمييز منهجي ومنظم – وهو ما أسماه يوهان غالتونغ “العنف الهيكلي” – في حقوقِ الإقامة والسكن والضرائب والرعاية الصحية والتعليم والمياه، كما وثّقتْ ذلك منظماتٌ غير حكومية دولية وفلسطينية وإسرائيلية. ونتيجة لذلك، فإن المقدسيين آخذين في الحشدِ لانتفاضتهم منذُ عدةِ أشهرٍ، ولن يستجيبوا لمناشدة زعيمهم بالتزام الهدوء.

لا ينبغي أن يُتوقع من عباس تخفيفَ معاناةِ الفلسطينيين بطريقةٍ سحرية. لكنْه من أجل الحفاظِ على مصداقيتِه ومكانتِه بين أبناءِ الشعب الفلسطيني، لا بد له أن يبادرَ إلى اتخاذِ إجراءاتٍ، لا مجرد الإدلاء ببيانات. فقد هدد عباسُ مراراً وتكراراً بحلِّ السلطةِ الفلسطينية والانضمامِ إلى المحكمةِ الجنائية الدولية، ولكنْ في نهايةِ المطاف لم يتخذْ أياً من هاتين الخطوتين. فالفلسطينيون، منذُ سنواتٍ وحتى الآن، ينظمون احتجاجاتٍ سلمية أسبوعية ضدَّ الجدارِ العازلِ الذي يخترقُ أراضيهم ويُعطّل حياتهم اليومية، وهم قد تعبوا من إخفاقِ عباس في دعم جهودهم ضد الاحتلال.

لا يمكن للفلسطينيين أن يثقوا في قيادتِهم عندما يرون الأوروبيين يقاطعون منتجات المستوطنات الإسرائيلية، في حين أنَّ السلطةَ الفلسطينية غير قادرةٍ على اتخاذِ إجراءاتٍ من هذا القبيل. ولكي تنجح “الانتفاضة الدبلوماسية”، ينبغي على عباس أن يعزّزَ جبهتَه الداخلية عبر المشاركة في ما يعانيه شعبُه يومياً. فبدلاً من تسليمِ المفاتيح، يتعيّنُ على السلطةِ التخلّصَ من كافةِ الامتيازات المرتبطة بالاحتلال، بدءاً من البطاقات التي تُمنحُ للشخصياتِ الهامةِ جداً. للسلطة الفلسطينية إمكاناتٌ هائلة تحت تصرّفها، وتتمثّل هذه الإمكانات في المقاومة السلمية المعترف بها دولياً، غير أنها لم تعمل على استخدام العصيان المدني أو أيّ تكتيكاتٍ أخرى جماعية في هذا السبيل.

وعندما يتعلقُ الأمرُ بعمليةِ السلام، يتعيّنُ على عباس أن يكونَ صادقاً مع شعبه ومع الولايات المتحدة على حد سواء. ويجبُ عليه الاعتراف أنّ المفاوضات المباشرة لم تنجحْ – ولنْ تُفلحَ أبداً – لأنّها مصابة بخللٍ قاتلٍ في الصميم من الناحية الهيكلية. فاستمرار عباس في التلهّي وتمضيةِ الوقتِ بالمفاوضاتِ المباشرة التي ترعاها واشنطن يؤدي إلى تضليل شعبه ليس إلّا، وإلى إتاحة الفرصة للولايات المتحدة كي تتفادى اتخاذ قراراتٍ صعبة تتعلق بالضغط على حكومةِ نتنياهو أو بتوفير الحمايةِ لإسرائيل في مجلس الأمن. ومنْ شأنِ انتفاضةٍ دبلوماسيةٍ فعّالةٍ أنّ تُلزمَ عباس بأن يقول لواشنطن، بشكلٍ صريحٍ لا لبسَ فيه، إن نموذجَ التفاوضِ القديم قد انتهى إلى غيرِ رجعةٍ مرةً واحدةً وإلى الأبد، وإنّ هناك برنامجاً جديداً يبرزُ للعيان ويركّز بكلّيته على إنهاء احتلال فلسطين المستمر.

وعلى أيةِ حالٍ، لا بد لأي انتفاضة دبلوماسية أن تهدف إلى عزلِ الولايات المتحدة وتحييدها، بدلاً من الاشتباكِ معها. فأحد الأماكن القليلة جداً التي رُبما تحدث فيها مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية هو مجلس الأمن، مع أنَّ بوسعِ عباس في الوقت الراهن أن يتجنّب ذلك باللجوء إلى أماكن أخرى على الساحةِ الدولية. ليس بوسع واشنطن منع السلطةِ الفلسطينية من الانضمام إلى المنظمات الدولية، أو مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، أو ممارسة العصيان المدني. فأشكالُ المقاومةِ السلمية المعترف بها دولياً قد تساعد واشنطن، في الواقع، على إدارة العلاقةِ على نحوٍ أفضل مع من أطلقَ عليه وزيرُ الدفاعِ السابق روبرت غيتس “حليف ناكر للجميل”. وفي نهاية المطاف، ستجد واشنطن أنّه من الصعبِ ملاحقة عباس عندما تكون استراتيجيته المعلنة هي السعي للتحرير باستعمال أساليبٍ تتوافقُ مع المعايير الدولية. ستواجه واشنطن صعوباتٍ في شرحِ مبررات النظر إلى نهجٍ كهذا على أنه يُشكّل أيَ تهديد.

وحيثُ أنّ تفادي مجابهة الولايات المتحدة سيكون أمراً مهماً لنجاح أي انتفاضةٍ دبلوماسيةٍ، فإنّ إشراكَ أوروبا في حملةٍ كهذه يُمكن أن يسفرَ عن نجاحات. لعبتْ أوروبا على مر التاريخ دورَ “مخترق المحرمات” في ما يتعلّق بالقضايا الفلسطينية، مما كان يمهّد الطريقَ لحدوثَ تغييراتٍ جوهريةٍ في المواقفِ الأمريكية لاحقاً. وتاريخياً أيضاً، أثبتتْ أوروبا أنّها كانتْ دوماً متقدمةً خمس إلى عشر سنواتٍ عن الولايات المتحدة في مثل هذه القضايا. فعلى سبيل المثال، التقت مارغريت تاتشر مع ياسر عرفات قبل خمسِ سنواتٍ من بدء إدارة بوش الأولى حوارها مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1989. والآن، تأخذ أوروبا زمامَ المبادرةِ في الاعتراف بفلسطين كدولة، وذلك بتوالي سلسلة من الأصوات البرلمانية والإعلانات الحكومية خلال الأشهر القليلة الماضية. ولقد بدأت هذه السلسلة مع السويد، التي اعترفتْ رسمياً بدولةِ فلسطين، ومن ثمّ لحقتها فرنسا التي ألمحت أنّ اعترافاً مماثلاً منها ليس سوى مسألة وقت. وفي غضونِ ذلك، أوصتْ برلماناتُ كلٍ من المملكة المتحدة وإيرلندا والبرتغال وفرنسا وإسبانيا بأغلبيةٍ ساحقةٍ أنّ بلدانها تعترفُ أيضاً بفلسطين. وهذه الموجاتُ من الاعترافاتِ الدبلوماسية لا تُعير اهتماماً لرأي المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، وهي تبعث برسالةٍ ثابتةٍ إلى المجتمعِ الدولي مفادها أنّ الوضعَ الراهنَ غيرُ مقبولٍ.

إنّ الفرقَ بين المواقف الأوروبية والأمريكية حول قضية فلسطين يُمكن تفهّمه. فالأوروبيون أكثرُ حساسيةً وأشدّ عرضةً لمخاطرِ اندلاع انتفاضةٍ ثالثةٍ محتملة، ولتغيرات الربيع العربي، أو لحدوث أي تغييراتٍ جوهريةٍ أخرى، أو اضطراباتٍ في الشرق الأوسط. ويُعزى ضعفُ أوروبا هذا، من بين أسبابٍ أخرى، إلى استمرار اعتمادها على المنطقةِ لتلبية احتياجاتها من الطاقة. وبنفس القدر من الأهمية، تنظر أوروبا إلى أنَّ الفلسطينيين قد بدأوا فعلاً في الهجرةِ من شواطئ غزة إلى شواطئ إيطاليا، ولنْ يؤدي المزيدُ من عدمِ الاستقرارِ في فلسطين إلّا إلى زيادةٍ في عددِ المهاجرين. وهذه الحساسية تجعلُ أوروبا أكثرَ استعداداً لتقبّل حدوث انتفاضةٍ دبلوماسية، بدلاً من التعرّض لمخاطر انتفاضةٍ شعبيةٍ ثالثة – ربما تكون عنيفة.

إنَّ الأصوات الأوروبية بمثابة تصريح واضحٍ أنّه لا يُوجد للفلسطينيين شريكٌ معقولٌ أو موثوقٌ به على الجانبِ الإسرائيلي، وبالتالي ترفض أوروبا الموقفَ الأمريكي من الاستثمار في الوضعِ الراهن. تتخذ أوروبا، بدلاً من ذلك، خطواتٍ جادة نحو إقامة شراكةٍ مع الفلسطينيين. فمقاطعة منتجاتِ المستوطنات الإسرائيلية، والاعترافُ بدولة فلسطين، والنظرُ في فرضِ عقوباتٍ على إسرائيل (كما ذكرت صحيفة هآرتس الأسبوع الماضي) كلها مؤشرات على موقفٍ أوروبي جديد من شأنه أن يُعطي الأملَ في تحقيق السلام في الأرض المقدسة، ويدفع الولايات المتحدة في نهايةِ المطاف إلى اتخاذِ نهجٍ أكثر توازناً في هذا الصراع.

وبينما يفتقرُ عباس إلى وجودِ شريكٍ للسلام في إسرائيل، يبدو أنّه قد وجدَ هذا الشريكَ في أوروبا. فالبدء بانتفاضةٍ دبلوماسيةٍ قوية وثابتة، يساندها الشعبُ الفلسطيني وتتفقُ مع مبادئ القانون الدولي، يمكن لها أن تكون بديلاً جيداً لمفاوضاتٍ عبثية قادتها الولايات المتحدة طيلة 20 عاماً. ويتيحُ القانونُ الدولي لعباس هامشاً كبيراً للحركة في مقاومةِ الاحتلالِ الإسرائيلي وقيادةِ الفلسطينيين نحو التحرر، وهو مجالٌ لم يسبقْ له أن استثمرَه أبداً. وليتسنى للانتفاضةِ الدبلوماسية تحقيق النجاح، يتعيّن على القيادةِ الفلسطينية أن تتخذ فوراً عدداً من الإجراءات، بما في ذلك اعتماد استراتيجيةٍ شاملةٍ للعصيانِ المدني، ومقاطعة المنتجاتِ الإسرائيلية، والانضمام فوراً للمحكمةِ الجنائية الدولية ولجميعِ المنظماتِ التابعةِ للأممِ المتحدة، ونبذ الامتيازات التي يقدّمها الاحتلال، كبطاقات الشخصيات الهامة جداً، والعمل على الاصطفاف والتواؤم مع تطلعات الشعب الفلسطيني والمشاركة في معاناتهم، واعتماد رسميّ لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (المعروفة بالاختصارBDS)، ووقف كل أنواع التعاون مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي. ويشمل ذلك إجراء مراجعةٍ، طال انتظارها، لنهج التعاون والتنسيق الأمني مع إسرائيل، إذ يجبُ على الأجهزةِ الأمنيّة التابعة لعباس أن تعملَ بطريقةٍ تُؤمّن الحمايةَ للشعبِ الفلسطيني، بدلاً من العملِ “كمتعهدين للقمع”، كما تقول هذه المقالة في صحيفة ذا نيويورك تايمز.

إنّ التعاونَ بشكلٍ وثيقٍ مع أوروبا على أساسِ التوصلِ إلى حلٍّ عادلٍ للصراع هي قضيةٌ ذات اهتمام مشترك وينبغي أن تُشكّل ركيزةً أساسيةً لهذه الاستراتيجية. فانتفاضةٌ دبلوماسيةٌ ذاتُ مصداقيةٍ من هذا النوع، خصوصاً مع المزيدِ من الدعمِ الأوروبي، من شأنها أن تُرّغِمَ نتنياهو على رفعِ قبضةَ إسرائيل عن فلسطين المحتلة، بدلاً منْ أنْ يتخلّى عباسُ عن المفاتيح.