Commentary

كيف يمكننا الحؤول دون ظهور نسخة جديدة من داعش؟ الانسحاب من سوريا ليس الحلّ

Members of Syrian forces of President Bashar al Assad stand guard near destroyed buildings in Jobar, eastern Ghouta, in Damascus, Syria April 2, 2018. REUTERS/Omar Sanadiki - RC1C4E863200

لقد وصلت الاستراتيجية الأمريكية والدولية حيال الصراع المروّع في سوريا إلى مفترق طرق. فقد هُزم تنظيم داعش بالإجمال عسكرياً على ساحة المعركة. وتمّ تحقيق الهدف الأهمّ للرئيسَين أوباما وترامب بشكل جزئي، وذلك عبر استراتيجية ساهم كلاهما في وضعها وتنفيذها. ولعلّ الرغبة التي تختلج الأمريكيين عموماً وإدارة ترامب خصوصاً هي إعلان النصر وعودة القوات الأمريكية إلى الديار، ولا سيّما أنّ ترامب أشار بالفعل إلى أن هذا ما يرغب فيه وبأسرع وقت ممكن.

بيد أنّ هذه الفكرة ليست بسديدة. ولا شكّ في أنّ ترامب يستحقّ الفضل لنجاحه في سوريا، لكنّ هذا يمثّل هدفاً مرحلياً وليس إنجازاً راسخاً. فسحب الدعم الأمني والمساعدات الاقتصادية والالتزام الدبلوماسي والقوّات الأمريكية يولّد مخاطر بأن تستمرّ هذه الحرب التي أسفرت عن مقتل نصف مليون شخص ونزوح 12 مليوناً آخرين، أو أسوأ، أن تتوسّع لتصبح حرباً إقليمية بحقّ. وهذا يعني أنّ خمسة ملايين لاجئ سيبقون خارج البلاد فيستمرّون بوضع ضغوط هائلة على تركيا والأردن ولبنان على وجه الخصوص. ويعني ذلك أيضاً أنّ فلول الإرهابيين ستبقى على حالها في عدّة أجزاء من البلاد، وأنّ واشنطن ستكون في وضع لا يخوّلها التعامل مع المخاوف الإسرائيلية المتزايدة حيال خطط إيران البعيدة المدى في سوريا. في غضون ذلك، ستقبع سوريا في حالة دمار، مع تشرذم الكثير من مجتمعاتها تشرذماً لا رجعة فيه. وسيولّد ذلك غضباً ونقمة لدى الأغلبية السنّية في البلاد. وهذه كلّها عوامل يمكنها أن تؤدّي إلى بروز نسخة جديدة من داعش. وسيفضي انسحاب أمريكي مبكر إلى تسليم جزء أكبر بعد من البلاد إلى مشيئة الرئيس بشار الأسد المجرم وحلفائه الإيرانيين. وقد يواجه حلفاؤنا الذين حاربوا لهزيمة داعش على الأرض ردود فعل حادّة لأن مواقعهم اجتيحت.

لحسن الحظّ، ما زال بصيص أمل يلوح في الأفق. فبقدر ما هي الأوضاع في حالة يرثى لها، يتحلّى المجتمع الدولي ببعض القدرات والأفضليات في سوريا. وعند جمع هذه المزايا هي تؤمّن موادَّ أولية يمكن استخدامها لبناء استراتيجية ممكنة. طبعاً لن تقدر هذه الاستراتيجية على تحويل الحرب السورية إلى نجاح مهلّل، فقد قاست البلاد الكثير من المعاناة لفترة طويلة جداً لدرجة يستحيل معها الوصول إلى أيّ شيء قد نرغب في تسميته انتصاراً. لكنّ الأمل مُتاح للأهداف الأكثر تواضعاً القاضية بحماية حلفائنا الصامدين وإحلال الاستقرار في البلاد مع مرور الوقت والاستمرار بإضعاف المجموعات المتطرّفة في الأراضي السورية.

في خطاب ألقاه وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون في جامعة ستانفورد في يناير عرض الوزير عناصر من استراتيجية واسعة كتلك المذكورة أعلاه. صحيح أنّ تيلرسون لم يعد عضواً في الإدارة الأمريكية، لكنّ الشهادة التي أدلى بها الجنرال جوزيف فوتيل من القيادة المركزية مؤخراً أمام الكونغرس شدّدت على الكثير من هذه النقاط، شأنها شأن الكثير من البيانات التي صرّحت بها سفيرة الولايات المتحدة لدى الأم المتحدة نيكي هايلي. وفي التفاصيل، وعد تيلرسون بمتابعة الحملات العسكرية ضدّ داعش والتنظيمات المنتمية إلى القاعدة وبمتابعة العملية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف والتي تهدف إلى تأليف حكومة جديدة للبلاد وبالحدّ من نفوذ إيران في سوريا وبمساعدة اللاجئين والنازحين الآخرين على العودة إلى بلادهم وبالحرص على أن تكون سوريا خالية من أسلحة الدمار الشامل.

وكما كتبنا في مقالة أخرى، “لتحقيق هذه الأهداف، وعد تيلرسون أيضاً بأن تستمرّ الولايات المتحدة بأداء دورٍ للمساعدة على إحلال الاستقرار في الأجزاء التي لا تخضع لسيطرة الأسد، مع التعهّد بعدم مساعدة الأسد على إعادة إعمار أي جزء من الأجزاء التي لا تزال خاضعة لسيطرة هذا الدكتاتور الظالم. وتعهّد أيضاً بأن تحترم الولايات المتحدة مخاوف تركيا حيال استقلالية الأتراك والمجموعات الإرهابية الكردية. ووعد كذلك بزيادة اللجوء إلى اتفاقيات محلية لوقف إطلاق النار في سوريا للحدّ من العذاب البشري”.

“في هذه الخطة الكثيرُ من العناصر التي يمكن العمل بها. لكنّ بعض الأهداف غير واقعي ويتطلّب إعادة نظر. أولاً، علينا أن نعيد تحديد عملية الأمم المتحدة في جنيف التي تنوي تأليف حكومة وحدة وطنية للحلول محل الأسد. (وليست عملية أستانة التي تقودها روسيا أفضل). لن تتمكّن الأمم المتحدة من التفاوض مع الأسد لخروجه من الحكم لصالح حكومة تمثيلية ديمقراطية. نحن نخدع نفسنا ونهدر الوقت في الادّعاء بغير ذلك. فللأسد، يعتبر هذا الأمر أشبه بسحب الهزيمة من بين فكّي أمر يوازي الفوز بالنسبة إليه. وما دام ينتمي إلى الأقلية العلوية في سوريا، فإنّ أيّ حكومة وطنية مرتكزة على حكم الأكثرية (سواء أتمّ اختيار هذه الأكثرية عبر المفاوضات أم الانتخابات، ستبعد بدون شكّ حلفاءه الأقرب إليه وتولّد مخاطر تعرّضهم لردود فعل”. ينبغي على الأسد أن يرحل. ليس باستطاعة المجتمع الدولي العيش إلى أجل غير مسمّى أو العمل بشكل عادي مع مرتكِب مجازر في منصب الرئاسة في دمشق. لكن علينا أن نقبل فكرة أنّه سيصرّ على أن يكون له دورٌ كبير في اختيار خلفه من خلال عملية انتقال خاضعة مُدارة. وقد تساعدنا روسيا على إجراء عملية انتقالية لكنها بالتأكيد لن تعمل على إبعاد الأسد عن الحكم. ففي النهاية، تدخّلت روسيا بالضبط لدعمه وتشعر بأنها لا تلام على مقاربتها الإجمالية هذه. وينبغي على محادثات جنيف أن تركّز بشكل أقلّ على الانتقال السياسي وأكثر على المسائل التقنية، شأن تأمين الإغاثة وإعادة إحياء الزراعة.

ثانياً، ستتطلّب معظم الأهداف الأخرى، مثل مساعدة اللاجئين على العودة وحماية المدنيين، وقتاً ولن يكون تحقيقها ممكناً إلا إذا عثرنا على طريقة للتخفيف من حدّة القتال. ومن المهم التركيز على أنّ الحدّ من نفوذ إيران سيستغرق وقتاً، لأنه يتطلّب إعادة بناء الجيش السوري في إطار حكومة صالحة تخلف حكومة الأسد. ولن تتمكن دمشق من التحلّي بما يلزم لإخراج ميليشيات إيران من أراضيها قبل تأسيس هذا الجيش. وإلى أن نصل إلى تلك الفترة، ينبغي أن يكون هدفنا الأساسي ردع الهجمات التي تشنّها هذه الميليشيات على قوّاتنا وقوّات حلفائنا. وعلى المدى القريب، يشكّل الحؤول دون توسّع نفوذ إيران هدفاً واقعياً أكثر ومهماً أكثر من إضعاف هذا النفوذ. وعبر مساعدة حلفائنا المحلّيين على إحلال الاستقرار في الأراضي التي يسيطرون عليها حالياً وترسيخ هذه السيطرة يمكننا أن نساهم في تحقيق هذا الهدف.

بالتالي، يكون المسار الواقعي إلى الأمام هو مساعدة حلفائنا في شمال البلاد وشرقها وجنوبها على إعادة بناء بنيتها التحتية وإعادة إطلاق اقتصاداتها، مع تأسيس في الوقت عينه قوى أمنية محلّية لا وحدات متحرّكة يمكنها تهديد الأسد. وعلينا أن نبقي على عديد قوّاتنا البالغ ألفَي جندي على الأرض للمساعدة على إنجاز هذه العملية، مع الإبقاء أيضاً على عناصر التحكّم الجوي الأماميّين والمدرّبين اللازمين للحؤول دون هزيمة هؤلاء الحلفاء المحلّيين. وينبغي الردّ على أيّ هجوم يُشنّ على القوات الأمريكية عبر ضربات على قوّات إيران في سوريا وحتّى في إيران بحدّ ذاتها ربما.

وقد يكون الاقتصاد، مقترناً باستراتيجية سياسية واقعية للتعامل مع الأسد، الحلّ الأقوى في هذا الوضع. ومع أنّ لحلفاء الأسد الحاليين، أي روسيا وإيران، بعضَ الموارد، فإنّ المبلغ الذي ستحتاج إليه البلاد في النهاية لإعادة الإعمار والذي يناهز المئة مليار دولار لا يمكن تأمينه سوى من أصدقاء أمريكا وحلفائها. وسيمنح هذا المال قدْراً من السطوة. قد لا تكون هذه السطوة كافية لإخراج الأسد من الحكم، لكنها ربما كافية لحثّه على تشكيل حكومة خلَف ذات تمثيل أوسع ولإقناع موسكو بمساعدتنا في هذه الجهود. ولا يجوز أن تتدفّق الأموال الغربية إلى الأسد أو المناطق التي يسيطر عليها قبل أن يتنحّى ويكون الاستثناء الوحيد كمّيات محدودة من الطعام والدواء لغايات إنسانية، ما إن يبدأ باحترام عمليات وقف إطلاق النار.

أخيراً، للشروع في استراتيجية مبنية بالإجمال على مساعدة المناطق المستقلّة على حكم ذاتها (أقلّه بشكل مؤقّت)، علينا الوصول إلى حلّ أفضل للمسألة الكردية يعالج المخاوف الأمنية التركية مع الحؤول دون تعرّض المواقع الكردية في شمال سوريا للاجتياح. وعلاوة على تعزيز وقف إطلاق النار بين أنقرة وحزب العمل الكردستاني في تركيا، علينا ربط معظم المساعدات المقدّمة للأكراد في سوريا بشرط إعادة الأسلحة الثقيلة التي تسلّموها لمحاربة داعش عندما تنتهي هذه المعركة فعلاً. وينبغي على واشنطن أن تعلن أنّنا لن ندعم أبداً قيام دولة كردية مستقلّة في سوريا (أو أي مكان آخر) وأنّنا نعارض قيام منطقة كردية مستقلّة رسمية واحدة في سوريا. ولنيل المساعدات، على الأكراد السوريين أيضاً أن يتيحوا للبلدات غير الكردية ضمن مناطق سيطرتهم الأوسع مساحةً من الاستقلالية المحلّية الإضافية.

حتّى مع هذه التحسينات في الاستراتيجية، سيتطلّب إحلال الاستقرار في سوريا أشهراً كثيرة، وستتطلّب إعادة بناء سياسات الدولة وبنيتها التحتية سنوات. لكنّ أهدافنا الأساسية المتمحورة حول الاستقرار والتعافي والأمان لمحرومي سوريا ونازحيها وحول الحؤول دون ظهور نسخة جديدة من داعش أو ما يشابهها هي ضمن المتناول إذا حافظنا على التزامنا. لقد آن الأوان أن نوسّع استراتيجيتنا في سوريا إلى ما يتخطّى مجرّد هزيمة داعش.